نحو ديمقراطية مستدامة في السودان

0 69

كتب: الحاج وراق 

.

أولاً : مدخل :

تهدف هذه الورقة إلى توسيع الحوار حول كيفية تحقيق ديمقراطية مستقرة في البلاد. وتتضمن تعريفاً موجزاً بالديمقراطية، وتلخيصاً لاهم الاستنتاجات من الخبرة الإنسانية العالمية حول كيفية إنجاح التحول الديمقراطي، ومن ثم تناقش الأسباب المباشرة للانقلابات في السودان، لتخلص من ذلك إلى توصيات بكيفية إنجاح الانتقال القائم وتأسيس ديمقراطية مستدامة في البلاد.

 

ثانياً : الديمقراطية : –

أصل كلمة ديمقراطية من اللغة اللاتينية ، مكونة من مقطعين: demosالشعب , وkratos حكم ، أي تعني حكم الشعب . وصك المصطلح في القرن الخامس قبل الميلاد لوصف الحكم في المدن اليونانية ، خصوصاً ، اثينا ، حينها ، حيث يشارك الكثيرون ( الرجال الأحرار من الأغنياء والفقراء ) في الحكم ، وذلك في مقابل حكم القلة ، في نظامي النخبة aristocracy والملكية monarchy . وتطور فهم من يعتبر جزء من ( الشعب ) مع مرور الزمن ، فبينما استبعدت المدن اليونانية القديمة النساء و(العبيد) , اتجهت الديمقراطيات الحديثة منذ تأسيسها في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا الى ان تشمل المزيد والمزيد من فئات الشعب ، الى ان تأسس بشكل حاسم في القرن العشرين حق جميع المواطنين البالغين في المشاركة السياسية – سواء كانوا اناثاً أو ذكوراً ، فقراء أو أغنياء ، وبمختلف اثنياتهم ومعتقداتهم .كما تطور مع الزمن فهم الديمقراطية.

 

ولا يوجد اجماع حول تعريف مانع جامع للديمقراطية ، حتى ان أحد الباحثين أحصى (2234) تعريفاً للديمقراطية في اللغة الانجليزية . ومن هذه التعريفات تعريف مونتسكيو (حين تمسك الأمة في النظام الجمهوري مقاليد الأمور بيدها، يكون هذا النوع من الحكم ديمقراطية). وعرفها ابراهام لنكولن بــ(حكم الشعب بالشعب للشعب). وعرفها كارل بوبر باعتبارها النظام الذي يتيح للشعب مراقبة الحكام وازاحتهم دون الحاجة إلى ثورة وإراقة دماء.

 

وعرف البعض الديمقراطية باعتبارها حكم الاغلبية , ولكن تجارب الشعبوية والغوغائية , فضلا عن النازية والفاشية , جعلت الكثيرين يدققون هذا التعريف ليشمل حق الاقلية في ان تتحول لاغلبية , بما يعني ان الاغلبية لابد ان تحكم في اطار من الدستورية والليبرالية التي تكفل الحقوق الاساسية بصورة غير قابلة للالغاء بقرارات الاغلبية. وفي ذلك سبق وقال توماس جيفرسون (علي الرغم من ان ارادة الاغلبية هي التي يجب ان تسود في كل الحالات , الا ان هذه الارادة لتكون شرعية , فيجب ان تكون عقلانية , بحيث تمتلك الاقلية حقوقها المتساوية , التي يجب ان تحميها القوانين المتساوية , والتي تمنع ما قد يكون قمعا ).

 

ورغم تعدد التعريفات الا ان هناك اتفاقا عاما على بعض العناصر الرئيسية للديمقراطية, ومنها ما حدده عالم السياسة الامريكي لاري دياموند larry Diamond من أربعة عناصر رئيسية : 1- نظام سياسي لاختيار وتغيير الحكومة عبر انتخابات حرة ونزيهة ، 2- ومشاركة المواطنين النشطة في السياسة والعمل المدني ، 3- وحماية حقوق الانسان لكل المواطنين ، 4- وسيادة حكم القانون , حيث تطبق القوانين واللوائح بمساواة على الكل.

 

وحددت مفوضية حقوق الانسان بالامم المتحدة عام 2002 العناصر الرئيسية للديمقراطية ب :-

 

احترام حقوق الانسان والحريات الاساسية.

حرية التنظيم (حرية الانضمام للجمعيات والأحزاب).

امكانية الوصول إلى السلطة وممارستها في اطار سيادة القانون .

انتخابات حرة ونزيهة ودورية على أساس الإقتراع العام والتصويت السري تعبيرا عن إرادة الشعب .

نظام تعددي من الأحزاب والمنظمات.

الفصل بين السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية).

استقلال القضاء.

الشفافية والمساءلة في الادارة العامة.

وسائل اعلام حرة مستقلة ومتعددة.

واعتمد مجلس حقوق الانسان بالامم المتحدة مارس 2012 قراراً بعنوان ( حقوق الانسان والديمقراطية وسيادة القانون ) أكد فيه ان الديمقراطية والتنمية واحترام حقوق الانسان مسائل مترابطة تعزز بعضها البعض .وأكدت الوثيقة الختامية لمؤتمر قمة الأمم المتحدة لاعتماد خطة التنمية 27سبتمبر 2015 ( الالتزام بعالم تكون فيه الديمقراطية والحكم الرشيد وسيادة القانون وتوفر بيئة مواتية على الصعيدين الوطني والدولي اموراً اساسية ….).

 

وطورت المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات دليلاً ارشادياً لتقييم نوعية الديمقراطية ، أوضح ترابط المبادئ الرئيسية للديمقراطية .وأوردت فيه ( تنبع الديمقراطية من المواطن ، ولهذا فان الركيزة الأولى هي حقوق المواطن ومدى قدرة الدولة على ضمان حقوق المواطنة المتساوية للجميع من خلال الدستور والقانون )) .. ولا يمكن تحقيق مبدأ حكم الشعب وسيطرته على الحكومة دون مشاركة المواطنين وتوفير الحق والحرية وطرق المشاركة لهم .( وتضيف (النقطة الأولى التي تبدأ عندها المشاركة هي تفويض ممثلين عن عامة الشعب أو مسؤولين يتم انتخابهم من خلال انتخابات حرة ونزيهة.. اذا توفرت المساواة في التعامل مع المجموعات المختلفة من المواطنين فستمثل اذن المؤسسات العامة الأساسية الكيان الشعبي ككل.. .تعد مساءلة المسؤولين ضرورية جداً لضمان القيام برعاية مصالح المواطنين والعمل على خدمتهم وليس السيطرة عليهم. يتم ذلك من خلال المؤسسات والمحاكم والهيئات الرقابية الأخرى).. و( اذا لم تتصف الحكومة بالشفافية والوضوح فلن تكون هناك مساءلة فعالة..). (ولا بد من الاتفاق انه لا يمكن أن يظل الشعب مسيطراً بصورة منظمة على عمليات صنع القرارات العامة، دون أن يكون حق حرية التعبير عن الرأي مكفولا للافراد، بحيث يتمكنون من مناقشة الآخرين بانفتاح والتعاون معهم بلا خوف وتبادل المعلومات بلا عقبات وان تتوفر لديهم الوسيلة والثقة الكافيتين للمشاركة في تلك الأنشطة . ومن هذا المنطلق تعد الحرية قلب الديمقراطية، ولا يجب إضافة الحرية للديمقراطية على اعتبار انها مبدأ منفصل(..

 

 

 

وتؤكد التجربة التاريخية انه لا يمكن النظر للديمقراطية كنظام مكتمل مثالي , او كمفهوم ثابت او حدث مفرد او كاجراءات بحتة ، وإنما يجب النظر لها كعملية مستمرة. ويؤكد روبرت ميتشيلز : رغم انه لا يمكن تحقيق الديمقراطية بشكل كامل، الا ان السعي لذلك يطور تحقيق المبادئ الديمقراطية بشكل متصاعد.ولخص ونستون تشرشل بعضا من هذا في مقولته الشهيرة (لقد جُربت العديد من اشكال الحكم….لا احد يدعي ان الديمقراطية كاملة او كلية الحكمة ..ان الديمقراطية اسوأ اشكال الحكم باستثناء جميع الاشكال الاخري التي تمت تجربتها من وقت لآخر) …ويقول جون ديوي ان مهمة الديمقراطية هي إلى الأبد مهمة خلق تجربة أكثر حرية وأكثر انسانية يساهم فيها الجميع ويتشاركها الجميع.

 

ثالثاً : الاستنتاجات الرئيسية للخبرة الإنسانية حول الديمقراطية :

تراكمت دراسات أكاديمية عديدة عن اسباب نجاح او انتكاسة النظام الديمقراطي في بلد ما. ورغم التباينات العديدة في هذه الدراسات، الا انه يمكن القول ان بعض الاستنتاجات الأساسية محل اتفاق ضمن التيار الرئيسي لدراسات الديمقراطية. ومن هذه الاستنتاجات التي صاغتها المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، ان التحول إلى النظام الديمقراطي عملية تحتاج الى صبر ووقت، وان اللحظات الانتقالية مثل سقوط الحكومة الاستبدادية أو أول انتخابات ديمقراطية هي نواة تشكيل الديمقراطية , غير أن التاريخ يثبت ان بناء الديمقراطية وتعزيز المؤسسات الديمقراطية عملية طويلة ومعقدة (كمثال فإن النظام الديمقراطي لم يستقر في فرنسا الا بعد نحو ١٦٠عاما من الثورة الفرنسية). وكذلك فإن الديمقراطية تنشأ من داخل المجتمعات نفسها، لا يمكن تصديرها او فرضها ولكن يمكن دعمها او تقويضها من الخارج. ولا تتحقق الديمقراطية من خلال الانتخابات وحدها، وإنما عبر منظومة من الحريات والحقوق والمؤسسات، تأتي من ضمنها الحكومة المنتخبة عبر انتخابات حرة ونزيهة ومتكررة.

 

ويرى باحثون ان هناك عوامل تاريخية واجتماعية تحدد نشوء وتطور الديمقراطية. فربط بعضهم بين الديمقراطية ونشوء المدن والطبقات الوسطى والحرفيين، إلى درجة القول (لا ديمقراطية بدون برجوازية). ويري انغلهارت ان تحسن مستويات المعيشة في البلدان المتقدمة يجعل الناس يعتبرون بقاءهم الأساسي أمراً مفروغا منه، مما يؤدي إلى زيادة التركيز على قيم التعبير عن الذات، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالديمقراطية. وربط باحثان بين َوجود السلام وحدود مستقرة وتنمية الديمقراطية. وشددت دراسات أخرى على أهمية التعليم ورأس المال البشري، بما يتضمن زيادة القدرات المعرفية التي تتيح زيادة العقلانية والتسامح. وانتقد باحثون اخرون هذه الدراسات على اساس انها لم تقدم ادلة عملية وموثقة لارتباط هذه الأسباب بنشوء الديمقراطية واستدامتها.

 

وتوصلت دراسة بناء على التجارب الديمقراطية في الفترة ما بين ١٩٦٠-٢٠٠٤ الي ان ظروفا غير مواتية مثل الفقر، عدم المساواة، والانقسامات الاثنية، ترافقت مع فشل النظم الديمقراطية، لكن هذه العلاقة ليست حتمية .وكذلك فإن عديداً من الديمقراطيات الناشئة نجت من الانهيار على الرغم من الأداء الاقتصادي السيء. وَتلعب المؤسسات السياسية دوراً رئيسياً في منع الارتداد للاستبداد . وتبدو فعالية القيود على السلطة أكثر أهمية من شكل النظام ، سواء كان برلمانياً او رئاسياً.

 

واورد د.عمرو حمزاوي ملخصا للدراسات التي تشترط شروطاً مسبقاً قائلاً (الفكرة الجوهرية هنا أن نجاح التحول الديمقراطي يستلزم تحقيق مجموعة من الشروط المجتمعية والسياسية السابقة. اهمها سيادة حكم القانون واستقرار مؤسسات الدولة الوطنية وحياديتها… تنظيم الانتخابات التشريعية الدورية كآلية لإدارة التنافس السياسي في مجتمعات لم يستقر بها حكم القانون وتعاني اما من غياب الحيادية والفاعلية عن مؤسسات الدولة او من هيمنة التشكيلات الطائفية والعرقية ليس له إلا أن يؤدي إلى تعميق التوترات المجتمعية والسماح للصراعات بين النخب السياسية والاقتصادية بأن تغزو كامل الفضاء العام وتضعف الي حد الالغاء الدولة الوطنية..)..(بجانب حكم القانون واستقرار مؤسسات الدولة ثمة عوامل قانونية وسياسية ومؤسسية أخرى يشار إليها أيضا كشروط مسبقة للتحول نحو الديمقراطية مثل التسليم العام بشرعية الدولة المعينة في حدودها المتعارف عليها وبرباط مواطنيها المحدد في إطارها الدستوري والقانون..) (ثم هناك شرط مسبق إضافي آخر ويتعلق بحتمية توفر درجة من النمو الاقتصادي ومن تماسك الطبقة الوسطى كأمر لا غنى عنه لإنجاز التحول نحو الديمقراطية ولاستقرار الحكم الديمقراطي..).

 

 

 

ورد عمرو حمزاوي على هذه الاطروحات قائلاً بأنها تتجاهل تحولات ديمقراطية ناجحة حدثت واستقرت دون أن تتحقق الشروط سابقة الذكر , (ان كان في الهند الفقيرة او في سويسرا وكندا بالتنازع الذي استمر حتى بدايات القرن العشرين بين الجماعات العرقية المكونة للبلدين على طبيعة وهوية الدولة(… ويضيف بأن النظم الاستبدادية لا مصلحة لها في دعم نشوء حكم قانون قوي ومؤسسات دولة فعالة ومحايدة خوفاً من الانتقاص مستقبلاً من امتيازات النخب وتداعيات ذلك على شيوع الفساد وغياب عدالة الحد الأدنى في النظم الاستبدادية فضلاً عن ان ضعف حكم القانون وشيوع الفساد يقللان من فرص النمو الاقتصادي المتوازن ويهددان التوافق الاجتماعي. ويلزم من كل ذلك تفضيل التحول الديمقراطي على النظم الاستبدادية، برغم المعيقات التاريخية والاجتماعية.

 

ويرى د. عزمي بشارة، بناء على انتفاضات الربيع العربي، ان تونس شكلت استثناءً من الدول الأخرى لأن نخبتها كانت قادرة علي المساومة والوصول إلى حلول وسط، كما لم يكن جيشها طامعا في الاستيلاء على السلطة. ويمكن ان يضاف لذلك مستوى التحديث الأعلى في تونس مقارنة بالدول الأخرى، مما أدى إلى مجتمع مدني فعال وثقافة سياسية عصرية نسبياً , ومن ثم الي وجود ضغوط هائلة علي تيار الاسلام السياسي ليقبل ولو تاكتيكيا بالديمقراطية , وكذلك ضغوط علي قوى النظام القديم لتقبل بتسوية تقدمية تفتح الطريق للانتقال الديمقراطي .

 

وتوصلت دراسة أكاديمية بناء على مقارنة ١٢٠ تجربة إلى أن طبيعة الفترة الانتقالية هي التي تحدد مدى نجاح وتعزيز النظام الديمقراطي اللاحق او انتكاسته، اي ان الطريق يحدد المحطة النهائية. ويضيف الباحثان معدا الدراسة بأن الانتقال الديمقراطي يتضمن عمليتين اساسيتين مترابطتين، وهما تفكيك النظام القديم الاستبدادي وتأسيس النظام الجديد الديمقراطي. ولا يمكن وصف انتقال بأنه ديمقراطي الا اذا أدى إلى سلطة جديدة تمارس سلطتها وفق قواعد جديدة تحترم حقوق الانسان . وشدد الباحثان على أن الفترة الانتقالية التي تتسم بالتعاون او التوافق هي الأكثر ترجيحا بان تؤدي إلى ديمقراطية مستقرة.

 

وأوضح الباحثان بأنه من أهم آليات القوى المتحكمة القديمة لاسقاط الانتقال الديمقراطي والارتداد للنظام التسلطي السابق تنظيم انتخابات وفق قانون وإجراءات تحابي القوى المتحكمة. وتؤكد تجربة السودان استنتاجات الباحثين، حيث اقر مؤرخ الاخوان المسلمين الشهير د.حسن مكي بأن الجبهة الإسلامية لم تستولي على السلطة في ٣٠ يونيو ٨٩،وانما قبل ذلك عند بداية الفترة الانتقالية في ١٩٨٥،حيث قاد سوار الذهب والجزولي دفع الله- المرتبطين بالجبهة الإسلامية – الفترة الانتقالية، بما في ذلك سن قانون الانتخابات الجديد، بالكيفية التي تحابي الجبهة الإسلامية وتفضي في النهاية الى انقلابها.

 

ويركز المرجع المهم (تجارب التحول الي الديمقراطية) علي مركزية دور القيادة في انجاح الانتقال الديمقراطي – القيادة مبدئية الالتزام بالديمقراطية وصلبة المواقف وفي ذات الوقت لديها المرونة والحكمة بحيث تعرف كيف تضغط وكيف تفاوض وكيف تقدم التنازلات الثانوية للقوي القديمة – خصوصا الاجهزة العسكرية – كي تستخلص منها الاصلاحات الجذرية غير القابلة للارتداد بما يفتح الطريق لانتقال ديمقراطي آمن ومستقر .

 

رابعاً : الاستعصاء العربي الإسلامي :

يرى عدد من المستشرقين ان هناك استعصاءاً على الديمقراطية في العالم العربي الإسلامي. ويلخص جون ووتربوري هذا الرأي قائلا (الشرق الأوسط العربي، إنما منطقة استثنائية في مقاومتها التحرك نحو الليبرالية السياسية واحترام حقوق الإنسان والممارسة الديمقراطية..).

 

ويعزو ذلك إلى عدة اسباب، منها قوة تأثير الجماعات الإسلامية، مما يؤدي إلى تحدي السلطات الاستبدادية في المنطقة بحركات لا تطرح الديمقراطية كبديل. حيث إن الاسلاميين ليسوا ديمقراطيين على الإطلاق، وإن آراءهم ” الراديكالية” و” الثورية” ليست ديمقراطية , كما هي تماما آراء نظرائهم من المحافظين الدينيين والسياسيين الذين يشاركونهم البنية الثقافية ذاتها. إنهم لا يكافحون إلا من أجل فرض سيطرة اجتماعية تامة على المجتمع. وهناك أقلية مهمة بينهم ترى أنه من غير الممكن إجراء أي تفاهم لا مع ” الحكام الكفرة “ولا مع”ديمقراطية غربية” غريبة تقوم على مجموعة من المبادئ التي ينبغي للمسلمين رفضها وهي : أولاً الأفكار الخاصة بسيادة الشعب ( خلافا للحاكمية الالهية )؛ ثانياً البرلمانات “التي تشرع خارج نطاق شريعة الله ” ؛ ثالثاً المساواة بين المؤمنين وغير المؤمنين ؛ رابعاً المساواة بين الرجل والمرأة؛ خامساً التعددية السياسية التي تضع على قدم المساواة “حزب الله” الحق مع الأحزاب التي تنبثق عن “المشاركة” السياسية ؛ سادساً المفهوم المرفوض الخاص بحكم الأغلبية.

 

ويضيف جون ووتربوري ان المنطقة عاثت بها الحروب والصراعات الأهلية فساداً على نحو لا يماثله الا ما جرى في شبه القارة الهندية والبلقان. ولكن الهند أظهرت ان الديمقراطية يمكنها حتى في مثل هذه الظروف ان تبقى ، اما في الشرق الأوسط فإن الإسلام السياسي يدخل في المعادلة كقوة فريدة في بابها. (فالاسلام يختلف عن غيره من الاديان في ان قلبه ذاته يكمن في نصوصه المقدسة، وليس هناك في الوقت الحاضر من مجال، بالمعنى العملي والسياسي، لتأويل هذه النصوص وجعلها نسبية بقدر تعلقها بتنظيم الحكومة وتعريف الحقوق السياسية… فلعل إعادة التأويل لهذه النصوص ستتم قريبا ولعلها لن تتم لأمد طويل.. بل ان فترة من المواجهة والمساومة قد تكون هي التي تدعو إليها الحاجة لتسريع عملية إعادة التأويل حتى يمكن أن يبدأ التحول الموثق بميثاق للانتقال الي الديمقراطية فتقبل بها الأطراف كلها بمنطق القواعد ان لم يكن روحها(..

 

وحقاً تلعب الثقافة السائدة في المنطقة، ذات الطابع المغلق , والتي لها جذور فقهية دينية ، وامتدت لقرون متطاولة فطبعت تاريخ المنطقة بانكار التعدد وتجريم الاختلاف وجز رقاب المعارضين وبالتالي بسلاسل الدم المتعاقبة ، تلعب هذه الثقافة المغلقة دوراً معيقاً للانتقال الديمقراطي. فتحتاج المنطقة العربية الاسلامية الي ثورة روحية اخلاقية فكرية , ولكن هذه عملية معقدة وتتطلب زمناً وقدراً من الحريات وقبول الآخر وحكم القانون , اي قدراً من التحول الديمقراطي , مما يجعل الأمر وكأنه متاهة مغلقة ! لكن مما يعطي الأمل بإمكان تخطي ذلك ، ما جرته هذه الثقافة على انسان المنطقة وعلي معتنقيها انفسهم من ويلات وعذابات ، وبالتالي إمكان استخلاص العبرة الصحيحة – بانه الافضل التراضي علي صيغة التعايش السلمي الديمقراطي بدلاً عن النمط السائد من ضرب رقاب بعضنا البعض . كما ان الثقافة مهما كان رسوخها النسبي فليست لعنة أبدية ولا صبغات وراثية تنتقل كقدر لا راد له وإنما كائن عضوي قابل للتطوير والتجديد. وقياساً بالتجربة الأوروبية، فتكت الحروبات الدينية الطائفية بثلث سكان أوروبا، لتصل أوروبا بصورة عملية إلى ضرورة التعايش مع المختلف، ومن بعد ذلك تأسيس التسامح فكريا وأخلاقيا وتحوله الي ثقافة سائدة. وإلى ذلك تشير عديد من الأبحاث، فيورد رستو ان بناء الديمقراطية يمكن أن ينفذه غير الديمقراطيين الذين يأملون في كسب كل شيء ولكنهم يتعلمون من خلال التجربة الأليمة والمأزق الذي لا مخرج منه ان إمكانية كسب شيء افضل من كسب لا شيء على الإطلاق، بل وخسارة كل شيء بما في ذلك فقدان الحياة. ولذلك يرى برزورسكي بألا حاجة للمرء ان يكون ديمقراطياً ولكن عليه أن يكون عقلانياً، فالديمقراطية يمكن أن تنشأ كثمرة للضرورات الضاغطة، ولكن بالطبع، وخاصة على المدى الطويل، لا يمكن ضمان بقاء الديمقراطية، ماوراء هذه (الصيغة البدائية)، الا بأن تغدو الديمقراطية مجموعة مترابطة من القناعات والقيم والقواعد والمؤسسات والممارسات.

 

خامساً : انقلابات السودان:

اتسم تاريخ السودان مابعد الاستقلال بالاضطراب وعدم الاستقرار السياسي. نالت البلاد استقلالها يناير ١٩٥٦ في إطار نظام ديمقراطي، ولكن ترافق مع ما سبقه من اندلاع الحرب الاهليه في جنوب السودان أغسطس ١٩٥٥ احتجاجا ًعلى عدة مظالم أبرزها ظلم الجنوبيين في إحلال الموظفين السودانيين بدلاً عن اجانب السلطة الاستعمارية فيما عرف بالسودنة، وليعقب ذلك بفترة قصيرة انقلاب ١٧ نوفمبر ١٩٥٨ ، فتندلع انتفاضة ثورة شعبية أكتوبر ١٩٦٤ تستعيد النظام الديمقراطي ، وليحدث انقلاب عسكري آخر ٢٥ مايو ١٩٦٩، ثم انتفاضة شعبية أبريل ١٩٨٥، واستعادة النظام الديمقراطي , ثم انقلاب عسكري ٣٠ يونيو ١٩٨٩ وليسقط بعد ثلاثة عقود بانتفاضة ثورة ديسمبر المجيدة ١٣ أبريل ٢٠١٩.

 

واصطلح الباحثون على وصف هذا الاضطراب (انقلاب انتفاضة ديمقراطية انقلاب) بالحلقة الشريرة. وضمن هذا الدوران في المتاهات التي تبدأ من حيث تنتهي تبددت نحو ثلثي سنين ما بعد الاستقلال تحت النظم العسكرية ، مما أدى إلى انتهاكات واسعة وجسيمة لحقوق الإنسان ،وصلت حد ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجريمة الابادة الجماعية في دارفور ٢٠٠٣ الي ٢٠٠٩،حيث قتل بحسب احصاءات الأمم المتحدة نحو ٣٠٠ الف شخص واقتلع نحو 4 ملايين شخص من جذورهم الإجتماعية ليسلموا الي المنافي ومعسكرات اللجوء والنزوح ، كما تعرض المدنيون خصوصاً في جنوب السودان ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق لويلات هائلة جراء القصف بالبراميل المتفجرة والتعذيب والعنف الجنسي والاغتصابات . كما أدت النظم الاستبدادية الي إساءة توظيف الموارد بتركيز الصرف علي الحروبات والأمن والرشاوى والدعاية السياسية والفساد بدلاً عن التنمية والخدمات ، مما نتج عنه ضمن اسباب أخرى تدهور مستوى ونوعية الحياة وإفقار غالبية المجتمع ، وتخريب المرافق العامة ، وتخريب التعليم والصحة والبيئة . كما أدت إلى تخريب النسيج الاجتماعي وتشويه القيم المجتمعية وتلويث وتخريب الحياة السياسية والمدنية.

 

وأدي الانقلاب الأخير انقلاب الجبهة الاسلامية الى فصل جنوب السودان . والي اضعاف القوات المسلحة لصالح تشكيلاتهم الحزبية المسلحة والميليشيات القبلية. والي تفشي الفساد حتى صرنا في ذيل قائمة مؤشر الفساد في العالم الذي تصدره منظمة الشفافية العالمية على مدى الأعوام الأخيرة، بل صار السودان متصدرًا لقوائم سوء الأداء جميعاً (من اعلي وفيات الامهات والاطفال في العالم , ومن اسوأ الدول من حيث سوء تغذية الاطفال , المرتبة الخامسة في الدول الهشة من بين ١٧٨ دولة في مؤشر الدول الهشة ، أسوأ القيود على الصحافة والإعلام حيث يأتي السودان في المرتبة ١٧٤ من بين ١٨٠ دولة في مؤشر حرية الصحافة ، ومؤخرة الدول الافريقية من حيث النزاهة بحسب تقرير منظمة النزاهة العالمية , ومن اسوأ الدول في الابتكار العالمي وفي اقتصاد المعرفة ) ، كما أن أداء النظام الإجرامي في الحروب أدى إلى إصدار٦٢ قرار مجلس أمن جزء كبير منها وفقا للبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة باعتبار البلاد مهددة للسلم والأمن الدوليين ولاتهام النظام بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جعلت عدداً من قيادات النظام بمن فيهم رئيسه مطلوباً للعدالة الدولية وملاحقاً عبر المحاكم المستقلة في كل الدنيا مما جر علي النظام ورئيسه بعضاً من المذلة التي جرعها الشعب ؛ كما جعل البلاد عرضة لعقوبات اقتصادية وغير قادرة على الاستفادة من برامج الدعم التنموي الأوروبية للدول الفقيرة مثل برنامج كوتونو، ولا مستوفية لشروط إعفاء الدين الخارجي الضخم والمتنامي بالفائدة الذي يكبل الاقتصاد . وهاجر نحو ربع سكان البلاد في عهد الإنقاذ في هجرة قسرية جففت معظم الخبرة العلمية والمهنية والفنية المدربة في السودان في أكبر نزيف للعقول شهدته البلاد. كما صار السودان من اكثر بلدان العالم التي تشهد نزوحا داخليا بسبب الحروب وتدمير الريف، ما يزيد عن ثلاثة مليون نازح. هذا اضافة لانحطاط التعليم وتفشي العنف في المجتمع والأسرة والمخدرات والاعتداءات الجنسية على الأطفال وغيرها من الموبقات.

 

ورغم أن ثلثي سنوات ما بعد الاستقلال تبددت تحت النظم الاستبدادية العسكرية ، إلا أن كفاح الشعب السوداني لأجل حقوقه وحرياته لم يتوقف طيلة هذه السنوات ، وقدم في ذلك عزيز التضحيات وباهظ الاثمان , إلى درجة أنه يمكن القول دون اي مبالغة أن شعب السودان قد برهن علي استحقاقه للديمقراطية , والتحدي الماثل حاليا الى اى درجة تستطيع نخبة البلاد ان تبتدع الوسائل الكفيلة بالايفاء بهذا الاستحقاق.

 

وحدثت الانقلابات الثلاثة علي الديمقراطية في السودان , على خلفية ظروف اجتماعية وسياسية ، ابرزها : استمرار الحرب الأهلية في جنوب السودان، مما ادي إلى تعاظم دور الجيش، وتنامى السخط وسطه كبيئة ملائمة للانقلابيين، وإثقال الموازنة العامة بالصرف على الحرب مما أدي لتنامي السخط العام؛ إضافة إلى حدة الاستقطابات السياسية خصوصاً بين القوى التقليدية والقوى الحديثة لعدة اسباب من بينها ان القوي الحديثة تلعب دوراً اكبر فى انتفاضة استعادة الديمقراطية فى حين يؤدى النظام الانتخابي لاحقاً لتمثيلها بأقل كثيراً من وزنها النوعي وكذلك لعدم ايجاد صيغة لحل وسط تقدمي وبسبب المنافسات الحزبية الشخصية التي غلبت الذاتي علي الموضوعي ؛ وضعف التنمية وضعف التعليم ؛ وضعف استقلالية النقابات ووسائل الإعلام بسبب التوظيف الحزبي الزائد.. الخ. ويفيد تقصي الاسباب المباشرة لكل انقلاب في تحديد المجالات التي يجب التركيز عليها لأجل ديمقراطية مستقرة في البلاد.

 

حدث انقلاب عبود ١٧ نوفمبر ١٩٥٨، ابان أزمة مع مصر الناصرية التي احتلت قواتها مثلث حلايب ثم انسحبت منه تحت الضغط لكنها واصلت العمل ضد حكومة عبدالله خليل – حزب أمة – بدعوة الأحزاب الاتحادية إلى القاهرة لتنسيق مواقفها وسحب الثقة من الحكومة , ولقطع الطريق على هذا السيناريو استدعى رئيس الوزراء القيادة الرسمية للقوات المسلحة لاستلام السلطة، بالتنسيق مع الدول الغربية.

 

وحدث انقلاب مايو ١٩٦٩، بواسطة قسم من تنظيم الضباط الأحرار في الجيش يهيمن عليه القوميون العرب ولعبت المخابرات المصرية دوراً في انشائه ؛ وعلى خلفية الاستقطاب الحاد بين القوى الحديثة والتقليدية بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤، ودعوة القوى الحديثة في جبهة الهيئات بألا ( زعامة للقدامى) ؛ وتأييد القوى التقليدية لدعوة الاخوان المسلمسين لحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان رغم قرار القضاء بعدم دستورية ذلك , ومن ثم الشروع في إجازة ما سمي بالدستور الإسلامي في دولة متعددة الأديان والثقافات , مما يتناقض مع دولة المواطنة – حيث المساواة في الكرامة الإنسانية غض النظر عن الدين أو النوع أو العنصر، والمواطنة أساس الحقوق والواجبات.

 

وحدث كلا الانقلابين في خضم ازمة دستورية بسبب صراع حزبي حاد حول السلطة. وكانت القانونية العامة إذ ذاك ان الاحزاب السياسية الرئيسية لم تكن على استعداد لتتتازل لبعضها البعض، بل وانخرطت في لعبة الاقصاء والاقصاء المضاد، مما أدى ضمن الأسباب الأخرى لاستدعاء الانقلابات العسكرية. والمفارقة المأساوية :ايما حزب وظف الجيش لحسم صراعاته السياسية مع الآخرين انتهى بانقلاب الجيش عليه نفسه! مما يؤكد قانونية القصاص التاريخي بأن الاغلال التي نحضرها لغل أيادي الآخرين تنتهي بغل ايادينا أيضا.

 

واستولت الجبهة الإسلامية القومية على السلطة بالانقلاب في ٣٠ يونيو ١٩٨٩، بدفع آيديولوجيتها التي ترى في الديمقراطية سلما تصعد عليه وتلقيه في الوقت المناسب لتمكنها، وكذلك لقطع الطريق على تنفيذ اتفاقية الميرغني – قرنق لإيقاف الحرب الأهلية بتجميد تطبيق العقوبات الشرعية إلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري الذي يقرر في علاقة الدين بالدولة؛ إضافة بالطبع إلى تطبيق مشروعها (الحضاري) الذي يتمحور حول القوانين الدينية ولا يضع الديمقراطية كأولوية او كقيمة مركزية، وهو مشروع مرجعه في ذاته وليس في اختيار الشعب، باعتباره مشروعا يعبر عن الحاكمية الإلهية، ويلزم تطبيقه بغض النظر عن رغبة المحكومين ؛ وهكذا اعتمدت الجبهة الإسلامية الانقلاب العسكري كآلية للوصول للسلطة، و خططت للانقلاب منذ ١٩٧٨ فيما عرف باستراتيجية (الجهاد الأكبر )، لاستلام السلطة في غضون عشرة أعوام. وحددت آلية الوصول للسلطة ( الانقلاب ) طريقة المحافظة عليها : باستخدام العنف . وفي حالة الجبهة الإسلامية، ولأن النظام تغطى بالشرعية الدينية، فقد شرعن عنفه كذلك بالدين، فخاض فيه بلا تساؤل وبلا تأنيب ضمير , فوصل به إلى مستويات باهظة – حد دق المسامير في رؤوس المعتقلين وادخال الاسياخ فى ادبارهم وإرتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية.

 

ويمكن تلخيص أهم الأسباب التي قادت إلى انقلابات السودان في : عدم القبول الفكري والعملي بالتعددية مما أدى لاستمرار الحروب الأهلية ، حدة الاستقطابات السياسية ؛ ووجود مغامرين انقلابيين داخل القوات المسلحة وفي أحزاب شمولية لا تضع الديمقراطية في مركز مشاريعها الآيديولوجية ، وضعف اداء المؤسسات المدنية بما في ذلك أداء الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام, اضافة الي التدخل الخارجي .

 

سادساً : نحو ديمقراطية مستقرة في البلاد :

استنتاجاً من التجربة الإنسانية العامة وتجارب الانقلابات في السودان، يمكن بلورة بعض التوصيات لتحقيق ديمقراطية مستدامة في البلاد , وهي :-

 

1- ضرورة إنجاح الانتقال القائم حالياً . والأسبقية في ذلك عقد مؤتمر موسع لقوى الثورة والتغيير يقيِّم ويراجع الاوضاع القائمة ليعيد اطلاق الانتقال علي السكة الصحيحة ويوحد التيار الرئيسي للقوى المدنية حول خط تجذير الانتقال واستكماله وليس إسقاطه , ويوسع القاعدة الاجتماعية للانتقال ويرفده بالكفاءات , كما يقدم قيادة ديمقراطية موحدة موثوقة ومبدئية ومرنة ؛ وبما يضمن مواصلة الضغط الجماهيري لتحقيق اسبقيات الانتقال , خصوصا حل القضايا المعيشية الضاغطة والاصلاح الامني العسكري وتحقيق العدالة واصلاح القضاء والنيابات والخدمة المدنية والجهاز المصرفي والاصلاح القانوني والمؤسسي.

 

وكذلك انجاح الانتقال بحفز وتفعيل المبادرات الشبابية والنسوية والمهنية لتنمية الوعي الديمقراطي، والوعي بتعقيدات الانتقال وحاجته للكفاح الصبور الدؤوب، ولاستعادة الثقة في الانتقال الديمقراطي بالعمل المدني لتخفيف حدة الازمات الاجتماعية الضاغطة ومكافحة الفساد والمساءلة عن الانتهاكات. وايضا بالكفاح ضد العقلية المغلقة والمتطرفة، التي تتصور ان الانتقال يمكن أن ينبنى على تحقيق الحد الأقصى لبرنامج طرف واحد، وهو تصور خلاف كونه خاطئ وغير عملي فإنه يؤدي إلى تمزيق وحدة القوى المدنية وبالتالي اضعافها والاخلال بتوازن القوى لصالح الاستبداد العسكري مما يؤدي في النهاية لاسقاط الانتقال وعدم تحقيق حتى مطالب الحد الأدنى للطرف المتطرف .

 

2- ويصدر مؤتمر قوي الثورة والتغيير – أو المؤتمر الدستوري – ميثاقا بالمبادئ الدستورية او فوق الدستورية , من بينها توافق القوى الإجتماعية على الديمقراطية التعددية وفق المواثيق الدولية لحقوق الانسان، باعتبارها البديل لدوران طواحين الدم في البلاد، وعلي الإلتزام النهائي بمرجعية الشعب وبالتداول السلمي للسلطة وعدم جواز فرض الرأي بالقوة , كما يتوافق على الإستجابة للمصالح الحيوية الحرجة والمعقولة لكل طرف رئيسي ، والقبول بنظام فيدرالي حقيقي يقوم على عدالة توزيع السلطة والموارد والقيم الرمزية بين أقوام وأقاليم البلاد المتعددة، وعلى رفض الإرهاب كآيديولوجية وممارسة، ورفض التدخل في شؤون الدول الأخرى، وعدم السماح لأية تنظيمات خصوصا العابرة للأقطار باستخدام أراضي او تسهيلات الدولة السودانية للتدخل في شؤون الدول الأخرى. وأن يكون هذا الميثاق – المبادئ الدستورية – حاكماً للعملية السياسية وملزماً لكل الأطراف ولا يجوز الخروج عليه تحت أية دعاوى او مبررات. ويُنص علي مبادئ الميثاق في الدستور والقوانين , كما يقوم علي الميثاق قسم الولاء لكافة شاغلي المناصب الدستورية وضباط وافراد القوات النظامية.

 

والفكرة الجوهرية في عملية التوصل للميثاق او المبادئ الدستورية هي البناء على القواسم المشتركة، بالقطيعةمع عقلية الاحتكار ومحاولات فرض رؤى او برنامج او مصالح طرف واحد خصما على الآخرين – الأمر الذي جرب مرارا وتكرارا ولم يؤدي الا للخيبة والفشل، ومن ثم الاستجابة للمصالح الحيوية والمعقولة لكل طرف رئيسي ،وبلورة توافق يجمع قوي الاعتدال بشتى تلاوينها – يسارا ويمينا وقوي حديثة وتقليدية ومن الاقاليم المهمشة والوسط والشمال، على اساس برنامج الانتقال الديمقراطي الآمن، بما يوسع القاعدة الاجتماعية للانتقال، ويوفر له حاملا اجتماعيا مؤسسيا، يجنبه الارتداد للاستبداد العسكري أو الاقتتال والفوضي.

 

3- الضغط الجماهيري علي قوي الحرية والتغيير والسلطات الانتقالية لاستكمال البناء الدستوري الانتقالي بتشكيل المجلس التشريعي والمفوضيات , علي ان تُشكل وفق أسس جديدة وليس الأسس القائمة حالياً والتي اتت بكثير من الاقزام متواضعي المواهب والقدرات.

 

4- ومن خلال الضغط والتفاوض، بقيادة مدنية موثوقة مبدئية وحكيمة، تتم مخاطبة المصالح المعقوله للمكون العسكري وفي ذات الوقت محاصرة وكبح مطامعه وتغوله، بما يؤدي إلى تنفيذ اهم قضايا الانتقال قاطبة – أي تنفيذ إصلاح أمني عسكري يضمن : قومية المؤسسات الأمنية والعسكرية بنزع اي طابع حزبي عنها، وتقليل حجم القوات بما يتوافق وقدرة الاقتصاد السوداني، وتكوين جيش واحد مهني عقيدته حماية الشعب وحدود البلاد ومواردها ودستورها الديمقراطي، وحصر حمل السلاح على القوات النظامية وحدها وتجريد الميليشيات من السلاح، وضمان المساءلة عن الانتهاكات والتجاوزات بإلغاء الحصانات وبالإصلاح المؤسسي، وإخراج الأجهزة الأمنية من المنافسة مع القطاع الخاص، وبناء التوجيه المعنوي والتدريب في الاجهزة الامنية العسكرية على أساس الديمقراطية والقانون الانساني الدولي.

 

5- السعي الجاد والمخلص كي يترافق الانتقال الديمقراطي مع السلام كعملية مترابطة موحدة , مما يستدعي التوافق على الهوية السودانوية باعتبارها الهوية الجامعة للسودانيين بتعدد ثقافاتهم واديانهم وأعراقهم؛ والتوافق على علاقة الدين بالدولة بما يضمن تأسيس الحقوق والواجبات على اساس المواطنة ومواثيق حقوق الانسان؛ إضافة إلى الحكم الفيدرالي الحقيقي وعدالة توزيع السلطة والموارد , وديمقراطية الثقافة والتعليم.

 

6- إصلاح الخدمة المدنية: بفتحها للمنافسة على اساس الجدارة والكفاءة، ووضع الضوابط والإجراءات الكفيلة بمكافحة الفساد بما في ذلك الرقمنة واعتماد الإجراءات المالية والمحاسبية المختبرة عالميا وتقييد منح الحوافز بموافقة الجهات الأعلى، وفتح النظام الإداري لمراقبة ومساءلة المواطنين، والاستعانة بالمنظمات الدولية لاستقدام الكفاءات السودانية من المهاجر وتوظيفها بالداخل حتى ولو لآجال محدودة.

 

7- إصلاح الأحزاب: بعد التشاور مع الأحزاب سن قانوني ديمقراطي لتنظيم الممارسة السياسية يدفع الأحزاب لتمتين صلاتها بالقواعد الشعبية وكفالة الديمقراطية الداخلية لأعضائها بعقد المؤتمرات وانتخاب القيادات دورياً، ومن ثم تقديم تمويل للاحزاب التي تلتزم بالمعايير والمؤشرات المتفق عليها، وفي ذات الوقت تشجيع الشباب والنساء على تنظيم أنفسهم اما في إطار الأحزاب القائمة المصلحة او بتشكيل منظمات جديدة.

 

8- اعتماد قانون التمثيل النسبي للانتخابات: فنظام الدوائر الجغرافية إضافة إلى إمكانية التلاعب به يحابي القوي المتحكمة والتقليدية في حين يقصي لحدود بعيدة الشباب والنساء والقوى الحديثة إجمالاً، الأمر الذي يؤدي إلى عزل النظام الديمقراطي عن القوى الحية في المجتمع، مما يجعلها لا تبالي بالدفاع عنه بل وربما تتآمر عليه فيسقط النظام الديمقراطي لتدفع كلا القوتين التقليدية والحديثة اثماناً باهظة من الملاحقات والانتهاكات.

 

9- تحييد التدخلات الخارجية السلبية: هناك محوران اقليميان يتصارعان علي السودان, محور (الامارات السعودية مصر) ومحور (قطر تركيا إيران) ، وفيما يدعم المحور الأول سيطرة القيادة العسكرية الرسمية ، يسعى المحور الثاني إلى إعادة الاخوان المسلمين للسلطة، ورغم تناقض المحورين فيما بينهما الا ان كليهما يفضلان انقلاباً عسكرياً على الانتقال الديمقراطي. ويمكن تحييد تدخلهما السلبي، بتوحيد القوى المدنية تحت سقف المشتركات الوطنية، وباصلاح وزيادة كفاءة الاجهزة الامنية في الحفاظ علي الامن القومي للبلاد , وباعتماد سياسة خارجية معتدلة ومسؤولة توضح بأن الديمقراطية شرط استقرار السودان مما يحقق مصلحة شعبه وجواره الإقليمي، في حين يؤدي الانقلاب إلى تعميق الاستقطابات والاقتتال الاهلي وزعزعة الاستقرار وغالبا للفوضى وربما انهيار السلطة المركزية وما يتبع ذلك من تحويل السودان إلى مفرخة للإرهاب والهجرة غير النظامية والجريمة العابرة للحدود . كما تجب الاستفادة من الدعم الغربي المعلن للانتقال الديمقراطي في البلاد لكف المحورين عن تصفية حساباتهما على أرض السودان وتخريب الانتقال.

 

10- نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وثقافة السلم، واحتضان التعددية والتسامح وقبول الآخر, ومكافحة ايديولوجيات الإرهاب والتطرف والانغلاق ووالكراهية والعنصرية , وذلك بجهد مخطط ومثابر، عبر الدولة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وبواسطة مناهج التعليم والخطاب الإعلامي ووسائل التواصل الاجتماعي , وباصلاح وتجديد وتوجيه الخطاب الديني كبرامج دينية (مقروءة ومسموعة ومطبوعة) لنبذ خطاب الكراهية والفتنة والتحريض على العنف والإرهاب.

 

11- سن قانون يجرم ويعاقب علي نشر خطابات العنف والارهاب والكراهية والعنصرية وتحقير وازدراء النساء, في وسائل الاعلام والمنابر العامة ووسائل التواصل الاجتماعي, وتخصيص مؤسسات واجراءات محددة لمتابعة تنفيذ التقيد بالقانون.

 

سابعاً : خاتمة :

اثبتت دراسات أكاديمية مقارنة ان النظم الديمقراطية ترتبط بعدم قتل مواطنيها , وبالتالي بحفظ اهم حقوق المواطنين وهو الحق في الحياة فضلا عن حفظ كرامتهم وحرياتهم ، كما ترتبط بتخطي المجاعات ، وبمكافحة الفساد وعدم تبديد الموارد، فضلا عن حل الخلافات بطرق سلمية متمدنة ، ولهذا فإن الديمقراطية نداء التاريخ لكل فرد وكل شعب يأبي الضيم والمذلة. وإذ وضعت النظم الاستبدادية المتعاقبة بلادنا على شفير الهاوية , فأفقرت انسانها ومزقت عراها الوطنية وشوهت نسيجها الاجتماعي والقيمي وخربت مؤسساتها وطوقتها بقنابل التفجير من كل حدب وصوب، فان استبداداً عسكرياً جديداً إنما يعني إعادة تنكب ذات الطريق الذي أفضى للويلات والآلام والدم والدموع، وهذا في ظل الهشاشة الحالية لكل مؤسسات الدولة , سيؤدي قطعا إلى قذف البلاد في هوة الخراب والفوضى الشاملتين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.