هل القضائية ممن يزيل عواره مؤسسياً: وحدها نميري وحده
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
تسمع من يقول لك في التعليق على قرارات لجنة تفكيك التمكين الأخيرة التي اتصلت بالقضائية إن القضائية أولي بإزالة التمكين في عقر دارها. ويظن ذلك فصل الخطاب في استقلال القضاء. ولا يخطر له أبداً أن يسأل إن كانت القضائية أزالت أبداً بنفسها عوار نفسها منذ الاستقلال. ومتى سأل القائل نفسه هذا السؤال، وتحرى الإجابة سيجد أن تحرير القضائية من نفسها إما جاءها من ثورة نقابية داخلها أو من إجراءات من خارجها. ولن يجدها يومياً تنهض (إلا استثناء) بما قال عن إزالة عيوبها بصورة مؤسسية، أومن الباطن، كما تهيأ له. ونعرض اليوم لقصة توحيد القسم المدني والشرعي في القضائية الثنائية في السبعينات والثمانينات الذي جره عليها الرئيس نميري جراً وهي ترفص بأقدامها.
جاء نميري للحكم وقد استقل القسم الشرعي في القضائية الاستعمارية الثنائية من القسم المدني تحت قاض للقضاة بفضل إسماعيل الأزهري في ١٩٦٧. ولكن نميري رجع به إلى وضعه قبل ١٩٦٧ قسماً للشريعة في القضائية التي يقوم عليها قاض مدني. وهو وضع خضعوا فيه تاريخياً ل”استعمار” صريح من القسم المدني يضيق المقام عن الإتيان بدقائق ظلمه. ولم يمر هذا الدمج بغير احتجاج قوى من القضاة الشرعيين. فطلبوا من نميري في ١٩٧٤ أن يستعيد لهم قسمهم المستقل. وتعللوا، ضمن علل أخرى، بتناقض الشريعة مع القانون السوداني المستمد من القانون الإنجليزي.
ولم يدم هذا الدمج، الذي لم يرتح له أي من القضاة، طويلا. فصدر قانون السلطة القضائية في 1976 الذي عاد بالقضائية إلى ثنائيتها. غير أنه، وفي ملابسات المصالحة الوطنية بين نميري ومعارضيه في الأحزاب التقليدية والإسلامية في 1977، ترفع الحديث بأثر حسن الترابي من دمج القضائية (أي أن تكون واحدة بقسميها تحت سلطان المدنيين) إلى توحيدها بمراجعة قوانين السودان حتى تتطابق مع الشريعة فتزول جفوة الوضعي والشرعي.
ولم يستسغ قضاة الشريعة هذا الميل الحكومي لتوحيد القضائية فبعثوا لمجلس القضاة العالي بمذكرة في ديسمبر 1979 اشترطوا أن يسبق التوحيد إرساء للشريعة كدستور للأمة. واتهم القضاة الشرعيون قيادة القضائية بالتلكؤ في الإعداد لآلية توحيد القضائية التي أوصى بها نميري في 1976. وكان أمهل القضاة خمسة أعوام لخلق تلك الآلية. وأهملت القضائية الأمر حتى جدد نميري الدعوة إلى ذلك في 1978 فعادت القضائية للانفعال بها. ولم يسمع للقضاة الشرعيين أحد وصدر قانون السلطات القضائية لعام 1982 الذي أراد استباق التوحيد بلجان تجدوله، وتدرب القضاة للحكم في القضايا شرعية ومدنية. وهو مماحكة أخرى دون التوحيد. ولكن سرعان ما نال قضاة الشرع ما أردوا من توحيد القضائية بشروطهم وهي أسلمة الدولة بإعلان نميري قوانين سبتمبر الشرعية في سبتمبر ١٩٨٣.
وبلغت القضائية من التفرج النقابي بالأجر والامتياز خلال خصومة التوحيد حداً سخريا نكأ صراع الشرعيين والمدنيين القديم والحزازات الأزلية. ولم يخف منصور خالد سقمه من هذه الحرب على فيء القضائية فقال إن القضاة حولوا موضوعًا حيويًا كبناء القضائية المستقلة إلى نزاع إداري انشغلوا فيه بالترقيات وسلم التوظيف. ورد منصور هذا ” اللهاث” للوظيفة الأعلى إلى ثقافة الترقيات التي تمكنت في القضائية منذ ثورة أكتوبر 1964 يوم نشأت محكمتان عليتان، واحدة شرعية وأخرى مدنية.
وصدق منصور. فكان من اختصاص لجان التوحيد دمج القضاة من النوعين في كشف جامع لوضع أسس الأقدمية لهم. ومعلوم أن قضاة القسمين تعينوا بحظوظ متفاوتة في الترقية والامتيازات رجحت فيها كفة المدنيين. ولذا لا نستغرب أن كان كشف الأقدمية هذا مثار نزاع جماعي شديد بين قضاة الشريعة والقضاة المدنيين، وموضوعًا لشكاوى فردية من قضاة الشريعة والمدنيين على السواء. وقد أعادت لجنة الكشف النظر في أسسه مرارًا وتكرارًا لتبلغ إلى ترتيب مقبول ولم تصب التوفيق. وكانت دراما هذا النزاع الطويل الدقيق حول الأقدمية في كشف القضاة مما أحبط مشروع توحيد القضائية كمشروع صادر من باطن القضائية مستعانًا عليه بالمهنية وضوابطها.
ولينفذ القارئ إلى قاع ذلك التنابذ بالامتياز خلال مسار توحيد القضائية أعرض خطاباً وجدته خلال بحثي عن تاريخها بث فيه قاض شكواه الطاعنة في قضاة الشرع. فمن رأى هذا القاضي أن دمج الكشف هو تخليط لأن تعيين القضاة المدنيين والشرعيين قد تم لقسمين مختلفين في الدولة. ولا يصح أن يصبح هذا التعيين بمقاصده المختلفة الأولى أساسًا لتنظيم مؤسَسي جديد للقضائية بدون أذية لحقوق طرف أو آخر. ومع اعتراف القاضي بالغبن الطويل الذي وقع على القضاة الشرعيين من جراء شروط خدمتهم القديمة إلا أنه تابع قائلاً إن أكثر هذا الغبن راجع إلى أن حجم شغلهم القضائي قليل بالمقارنة مع القضاة المدنيين. واقترح القاضي الإبقاء على الكشفين المميزين لكل من القضاة الشرعيين والمدنيين لأنه من أفدح الظلم أن يسبق قاض شرعي بمحض أقدمية في الزمان قاضيًا مدنيًا ينظر في القضايا المدنية والجنائية بعد أن تدرب في النظم القانونية المقارنة ودراسة مختلف التقاليد القانونية بما في ذلك الشريعة.
كان توحيد القضائية في العقدين السابع والثامن من العقد الماضي غطاساً يكذب ماء مزاعم أنها مؤسسة تحسن العناية بنفسها في حين كانت لا تنصلح إلا غزواً.
(من رغب من شباب المحامين في تعريب نصوص فصول كتابي “هذيان مانوي” التي عرضت لمحنة القضائية حيال استقلالها فليتحدث إلى)