هوس العلمانية: تطني بين الأفراقات

0 61

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم 

.

سارت ركبان الأسافير بصورة الأمريكي من أصول آسيوية الذي كشف صدره ليرى الناس وطنيته من أثر جراح القتال من أجل أمريكا عليه. وأراد بذلك أن يرد على أمريكيين يعدونه أجنبياً ناظرين إلى أصله في آسيا. وقال: “هل هذا النصاب كاف لحب الوطن”. واستند الرجل هنا على العبارة الأمريكية الشائعة: “متى تكتفي بما يكفي”. (when enough is enough)

وسألت نفسي بعد صدور اتفاق المبادئ بين الفريق البرهان والحلو متى نكتفي بما يكفي من تحييد الدولة عن الدين. وسببي على السؤال أنني وجدت الاتفاق يبدي في مطلب هذا التحييد ويعيد كأن ليس لصاحب المطلب حد ينتهي عنده. وهي حالة من عدم الثقة في صمامة المطلب مما نسميه “الشفقة”. ووصفت الاتفاق بأنه حالة هوس علماني لا يهدأ له روع من تديين الدولة، ولا يعرف النصاب منه الذي يكتفي به ليطمئن أن هذا التحييد حق.

وهو حق لا لأن البرهان وقعه من منصة “الرئيس القائد” المزعومة له. فحتى الإسلاميين، لو تركوا الكجار، لتصالحوا مع حقيقة استحالة الدفاع عن الدولة الدينية بعد ٣ عقود من رمضائها على أرضنا. فما أبعد شقتهم بين ١٩٦٥، التي قال فيها الترابي وتحت قبة البرلمان إنه لا يولى على السودان غير المسلم، و١٩٨٩ الذي جاء فيه الترابي بنص صريح عن تساوي السودانيين بلا تمييز بسبب “الملة الدينية” وفي الأهلية للولاية العامة. ففكرة الدولة الواقفة على مسافة واحدة من الدين والعرق والثقافة فكرة أزف وقتها بعد أن دفع شعبنا مستحقها. وقال فكتور هجو:” ليس هناك في الدنيا شيئاً له قوة فكرة أزف وقتها . . . فكل الجيوش إن اجتمعت لا تعادلها شوكة”.

وحس المرء بأنه أصاب نصابه من الأمر حس ثقافي. وهو معدوم في سوق الخرطوم التي تقول حكمتها القديمة “الشفقة تطير” لمن شط في طلب الأمر لا يعرف أين يقف. فثورتنا القائمة ثالث ثالثة اندلعت في وجه دول دينية. فحتى عبود أراد تديين الدولة من بوابتها الجنوبية. ولن يشغلنا أمر نميري والبشير المعلوم. وجاءت وثيقة الثورة الدستورية صريحة بقيام الحقوق والواجبات على أساس المواطنة دون تمييز بسب العرق أو الدين أو الرأي السياسي. فإن لم يثق مثل الحلو بالجبر التاريخي من وراء الدفع القائم لفض اشتباك الدولة والدين، وهو ما وهب العمر قتالاً من أجله، فلن يغنيه البرهان شيئاً.

لو لم يكن جسدنا السياسي مُوصِّلاً سياسياً رديئاً للمعارف لما احتجنا لهذا “الطنين” حول علاقة الدين بالدولة. فاتفاق جوبا كفى المسألة وأوفى. ولا حاجة لمزيد عليه في المسألة إلا إذا أراد كل مسلح أن يؤتى فصل الدين عن الدولة بيمينه هو لا يمين غيره. فلو أحسنا الاطلاع على اتفاق جوبا لاستغنينا عن إثارة أديس أبابا حول البيانات المشتركة للشيوعي وحمدوك مع الحلو واعتراض الكباشي المعروف على الأخير. وسميت تلك الإثارة ب”الهرجي”. والهرج نقيض الثقافة. ولذا زكى سيد البشر العبادة (أي الثقافة) في الهرج. وهو هرج ضرب أطنابه فينا لاستفحال البرجوازية الصغيرة العسكرية والمدنية وفي الهامش وعلو كعبها في سياستنا لعقود. ولا نفصل.

فلا أعرف نصاً ورد في أي وثيقة صلح وطني قضى بفصل الدين عن الدولة أصرح مما ورد من اتفاق جوبا. وربما استثني ما ورد في اتفاق جنيف بين المؤتمر الشعبي والحركة الشعبية. فوثائق جوبا عن دارفور والمنطقتين والمسارات صريحة في القول بفصل الدين عن الدولة.

فجاء في اتفاق دارفور وجوب الفصل بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة. ويَرِد في مواضع أخرى من الوثيقة دائماً وجوب أن تقف الدولة على مسافة متساوية بين الأديان والثقافات دون أي انحياز إثني أو ديني أو ثقافي يؤدي إلى الانتقاص من هذا الحق. وجرى التأكيد على هذا بطلب تضمين هذا المبدأ في الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية. أما اتفاق منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق فأعطاهما حق التشريع بالأصالة على ألا يتعارض مع الدستور القومي.

لو أردنا الرصانة في مسألة غاية في الحساسية مثل علاقة الدين بالدولة لما زدنا عما جاء في اتفاق جوبا. فلم يأت إعلان مبادئ البرهان الحلو بما لم يأت به هذا الاتفاق. وقد نخسر المسألة في النزاع مع ثورة مضادة متمكنة اتقنت الإفزاع بالدين والعلمانية والشيوعية منذ ١٩٦٤ إذا حككناها ب”الطنين” حولها حتي تجيب الدم. فقد ترتد كرتنا لأننا نرميها في الشباك بلغو واستهتار.

كانت بنت خالي الصغيرة تطن وهي تدور حوله. ولم تسكت بقدر ما ترجاها وحاول. فاستشاط غضباً وركبه فن الدعاء الذي لا يحسنه أحد مثله قائلاً: “تطني تطني راجي الله تطني بين الأفراقات”. والأفراقات هن المقابر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.