وأخيراً حمدوك يُخرج الهواء الساخن!

0 104

كتب: د. خالد التجاني النور

(1)
انتظر السيد رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك عاماً كاملاً يلوك الصبر مراهناً على تجاوب المجتمع الدولي مع الآمال العريضة التي عقدتها حكومته على انفتاح سياسي واقتصادي يعيد تطبيع علاقات السودان مع المؤسسات الدولية السياسية والتمويلية؛ بما يجعل من مهمة قيادة الفترة الانتقالية بكل تعقيداتها وتحدياتها وتحقيق أهدافها مسألة وقت لا أكثر، على خلفية الوعود البرّاقة بدعم الثورة السودانية والتحوّل الديمقراطي التي تبارى كبارة القادة في عواصم القرار الدولي في إنفاقها بلا حساب، في استقبالات حارة وصور حميمة ومؤتمرات حاشدة، تحت إحساس عارم بالزهو عند الكثير من حسنى الظن أن ثورة ديسمبر المجيدة فتحت ما استغلق من أبواب حصار دولي استحكم لعقود.
(2)
ولكن لأن للصبر حدودا، كما أن استحقاقات إدارة حكم فترة انتقالية مضطربة وهشة وسط انقسامات حادة لا تملك ترف انتظار التلكوء المتعمد عن الوفاء بالوعود الدولية الوردية المرتهنة لتحقيق أجندة ومصالح خارجية متحولة باستمرار، لم يجد الدكتور حمدوك مفراً في حواره مع جريدة “فاينانشيال تايمز” من أن يضع “المجاملات الدبلوماسية” جانباً ويُخرج الهواء الساخن المكتوم في صدره متحدثاً بصراحة، وقد طفح الكيل، فقد أكد بوضوح وللمرة الأولى بأن استمرار فرض العقوبات الأمريكية على السودان “يضر بالانتقال إلى الديمقراطية”، معتقداً أن الخرطوم فعلت ما يكفي لشطبها من قائمة الإرهاب، وقال “إنه من الظلم معاملة السودان كدولة منبوذة بعد أكثر من 20 عامًا على طرده لأسامة بن لادن” مضيفاً “نحن معزولون عن العالم”، وذهب إلى حد القول بلا مواربة “إنه ليس هناك ما يضمن أن الانتقال إلى الديمقراطية سيظل في مساره حتى الانتخابات المقررة في 2022”. وحول التكهنات بأن الخرطوم يمكن أن تعترف بإسرائيل إذا تم رفعها من قائمة الإرهاب، ذكرت الصحيفة أن “السيد حمدوك أصر على أنه لن يكون هناك مقايضة … نود أن نرى هذين المسارين يتم تناولهما بشكل منفصل”.
(3)
ربما ليس في هذه الإفادات جديد على المحللين السياسيين عند أي قراءة موضوعية لمعطيات مدى تفاعل المجتمع الدولى وعدم جديته في دعم الثورة السودانية، ولكنها بلا شك مثيرة للغاية، وذات دلالة عميقة ووزن معتبر عندما يصرح بها علانية الدكتور حمدوك من موقع المسؤولية الأولى في البلاد، التي تراعي عادة الحساسية الدبلوماسية والحديث بحساب فيما يخص علاقات السودان الخارجية، لا سيما وأن المعنى بهذه التصريحات هي الولايات المتحدة الأمريكية بكل وزنها وتأثيرها الدولي المعلوم، فليس سهلاً أن يخرج رئيس الوزراء ليحمّل واشنطن بصورة مباشرة مسؤولية تهديد التحوّل الديمقراطي المرجو في السودان، بسبب مماطلاتها ومناوراتها المتكررة بعدم شطب السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب بكل تبعاتها التي جعلت الاقتصاد السوداني يجثو على ركبتيه، على الرغم من وفاء الحكومة بكل الاشتراطات التعجيزية في ظل اقتصادها المنكوب، وبفرض المزيد من الشروط مثل ربط التطبيع بالشطب من لائحة الإرهاب، مع تهديد الخطوة بالمزيد من الانقسام المجتعي في السودان.
(4)
لقد أحسن السيد رئيس الوزراء صنعاً بالإعلان عن هذا الموقف الصحيح بلا شك، ولئن جاء متأخراً فذلك أفضل من ألا يأتي أبداً، فقد أسرفت الحكومة المدنية في الرهان على “الدعم الخارجي”، وأهدرت وقتاً ثميناً في انتظاره على حساب التركيز على تفجير الطاقات الوطنية بدفع الحراك الثوري، وعلى الرغم من تجارب السودان العديدة والمريرة المعروفة للكافة في هذا الصدد، وكان الظن أن عواصم القرار الدولي تحفل حقاً بالثورة وتحقيق الديمقراطية في السودان، وأبجديات لعبة الأمم تثبت منذ دهور أن تحقيق أجندتها ومصالحها هي وحدها التي تحرك مؤشرات سياساتها الخارجية، وتحالفاتها لعقود مع الكثير من الأنظمة الشمولية خير شاهد.
(5)
ولكي لا يذهب هذا الموقف القوي من الدكتور حمدوك أدراج الرياح؛ أو أن يُعد مجرد حالة تنفيس عن إحباط، يجب أن يحظى بتأييد ودعم فعّال من القوى السياسية كافة، وبحراك مجتمعي نشط يعزّز من هذه الرسائل؛ بالغة الأهمية، في بريد الإدارة الأمريكية، تأكيداً على أنه ليس موقفاً فردياً معزولاً، بل تعبير عن قناعة الشعب السوداني كافة بأن الولايات المتحدة يجب أن تتحمّل المسؤولية الكاملة عن عرقلة جهود الحكومة المدنية، وإفشال الفترة الانتقالية، ووضع العصي في دواليب التحوّل الديمقراطي، وتغذية أحلام الذين يريدون العودة للشمولية لحاجة في نفسها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.