يُساقون إلى الشمولية وهم ينظرون!!

0 44

كتب: د. خالد التيجاني النور

.

(1)

أصدر المجلس السيادي بياناً في أعقاب إقالته لرأسي المؤسستين العدليتين، القضاء والنائب العام، متعللاً ببراءة يُحسد عليها أنه أقدم على هذه الخطوة، التي ي يدرك سلفاً أنه لا يمتلك الحق لاتخاذها، وفق اختصاص كفلته له الوثيقة الدستورية “لحين تشكيل مجلس القضاء العالي” المختص بتعيين رئيس القضاء وقضاة المحكمة العليا، ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية، و”لحين تشكيل المجلس الأعلى للنيابة العامة” المختص بتعيين النائب العام. ولا يعدو في حقيقته أن يكون سوى انتهاكاً أخر ضمن سلسلة الانتهاكات التي تعرضت لها الوثيقة المرجعية للفترة الانتقالية التي لا بواكي لها، وقد بدا مثيراً للسخرية انشغال الجميع بالبحث عن مرشحين لملء منصبين بدلاً عن معالجة أصل الداء وتشكيل مؤسسات الانتقال العدلية لتقوم بمهامها الأصيلة.
(2)
بالطبع يدرك مجلس السيادة أن هذا اختصاص عارض كان استثناءً ظرفياً فرضته ملابسات الشروع في تشكيل هياكل السلطة الانتقالية لأول عهدها في أغسطس 2019، وبالتالي فهو ليس اختصاصاً أصيلاً مستداماً، لقد كان السؤال الذي يجب أن يقدم له المجلس إجابة قبل سوق هذه التبريرات الفطيرة غير المقنعة ولا المقبولة، لماذا لم يتشكل أصلاً مجلس القضاء العالي، ولا المجلس الأعلى للنيابة العامة صاحبا الاختصاص الأصيل في تأسيس النظام العدلي الاتقالي حتى بعد مرور واحد وعشرين شهراً على صدور الوثيقة الدستورية، و ما الذي يمنع ذلك، أو بالأحرى من يقف معرقلاً عن سابق قصد لتشكيلهما حتى بعد انقضاء قرابة نصف الفترة الانتقالية؟! بالطبع لا إجابة فالطبقة الحاكمة تؤمن ببعض نصوص الوثيقة الدستورية التي تضمن لها السلطة، وتكفر بأكثرها التي تزاحمها على احتكارها.
(3)
وكما اعتادت السلطات الانتقالية بمجلسيها السيادي والوزاري وحلفائها من القوى السياسية فقد واصلت نهجها في عدم احترام الرأي العام، والإمعان في مفارقة الشفافية، حيث تجاهلت تماماً توضيح الملابسات والأسباب التي أدت إلى الإطاحة برئيس القضاء والنائب العام، على الرغم من عدم مشروعية الإجراء، واكتفت كما يفعل أي نظام شمولي بإثبات أحقيته باتخاذ القرار دون سند دستوري، ودون اعتبار لمعطياته، على أية حال فقد أفتى مقربون للملأ الأعلى من الطبقة الحاكمة أن اجتماعاً التأم السبت الماضي على عجل للمجلس السيادي ورئيس الوزراء والشخصيتين المقالتين في محاولة لتدارك تبعات استمرار السلطات الانتقالية في سفك المزيد من دماء الشباب الثائر الذي حصد نفسين عزيزتين ليلة 29 رمضان الماضي، وقيل أن المجتمعين صبوا جام غضبهم على ما اعتبروه تقاعس المؤسستين العدليتين عن القيام بواجبهما، وكما هو واضح من سياق الأحداث فإنه من الصعب إيجاد رابط بين القضاء والنائب العام في هذا الحدث تحديداً، ولكن في ظل الضغوط الشعبية القوية على الطبقة الحاكمة على خلفية هذه الجريمة النكراء، فضلاً عن توقيتها المحرج عشية مؤتمر باريس، فقد كان المطلوب البحث عن كباش فداء على أي حال لتخفيف هذه الضغوط واستباق خطوات التصعيد المنتظرة من قبل الثوار
(4)
وبغض النظر عن استحقاق رئيسة القضاء أو النائب العام للمحاسبة على أدائهما، وعلى الضعف البيّن في أداء المنظومة العدلية بكاملها، فإن آخر من يحق له القيام بذلك هو المجلس السيادي أو رئيس مجلس الوزراء، ذلك أنه من البديهيات أن القضاء والنيابة العامة مؤسستان مستقلتان بطبيعتهما وفق ما هو معلوم بالضرورة من مقتضيات الفصل بين السلطات، فضلا عن أن الوثيقة الدستورية، على علّاتها، أكدت بوضوح على هذا الفصل بين السلطات في تأسيس هياكل واختصاصات وصلاحيات مؤسسات الانتقال، وحدّدت بوضوح آليات تشكيلا، ولا يملك المجلس السيادي أية صلاحيات في هذا الصدد تتجاوز اعتماد هذه التعيينات من قبل مجلسي القضاء والنيابة العامة.
(5)

ومن الجلي أنه كما ابتلع المجلس السيادي، والقصد بالطبع شقه العسكري صاحب الشوكة في وجود “ضيوفه” من المدنيين، صلاحيات واختصاصات لا حصر لها للجهاز التنفيذي في السياسة الخارجية، والاقتصاد والسلام، وهلم جرا و”الحكومة التي يقودها المدنيون” كما يًقال تقف حائرة متفرجة عاجزة الحيلة، وكما احتكر المكون صاحب الشوكة دور المجلس التشريعي المغيّب مع سبق الإصرار والترصد، ها هو وقد خلا له الجو يتجرأ و”يتم الناقصة” ويقدم على ابتلاع المؤسسات العدلية في القضاء والنائب العام، وقد سبقتهم إلى هذا المصير وزارة العدل، في سلوك أصيل يمارسه أي نظام شمولي كامل الدسم دون أن يرف له جفن.
(6)

ما يؤسف له مسارعة كثيرين الاحتفاء بالإطاحة برئيسة القضاء والنائب العام على هذا النحو، بزعم التخلص من “معوقين للعدالة الثورية”، وما دروا أنهم بتشجيعهم لهذا النمط من الممارسات المفارقة لروح ونصوص الوثيقة الدستورية إنما يُساقون إلى شمولية جديدة وهم ينظرون، ومن الخفة بمكان استسهال الخروج على مقتضيات المؤسسية والفصل بين السلطات واستدامة انتهاك المرجعية الدستورية بهذه البساطة فقط لكسب إحساس كذوب بارتياح نفسي عابر، ولأجل تصفية الحسابات مع شاغلي المنصبين المطاح بهما، متناسين أن القصور في المسار الانتقالي لا يقتصر على المجال العدلي فحسب، بل يتضاعف في ظل هذه الاستهانة بالاستحقاقات الدستورية من قبل شركاء الانتقال من العسكريين والمدنيين، وفي ظل التواطؤ بينهما على عدم إكمال مؤسسات وهياكل الانتقال، ولن يجد الغافلون عن هذه الحقيقة وقتاً غداً للقول “أُكلنا يوم أُكل الثورة الأبيض”، حين يكتشف الجميع أن هذه أول ثورة سودانية ينتهي بها المصير، عن غفلة وغيبة وعي متفشية، من شمولية إلى شمولية دون حتى استراحة محارب، ولو مروراً عابراً بديمقراطية مأزومة قصيرة الأجل، وحينها “لات ساعة مندم”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.