الصحفي : محمد الأسباط (1999)
عندما اندلعت اعمال العنف القبلي في ولاية غرب دارفور في يناير الماضي, وما صاحبها من قتل ونهب ونزوح, فزع الكثيرون من الحريصين على سمة السودان الفارقة: التنوع العرقي والثقافي والديني, والتلاقح الذي اقتضاه هذا التنوع, والذي نتجت عنه الشخصية السودانية الراهنة , سيما وان المنطقة التي شهدت الصراع مشهود لها بالهدوء والتسامح والسلم الاهلي عبر تاريخها, بل في ظل الحروب الاهلية والقبلية التي عرفتها دارفور خلال عقد سنوات الثمانينات وقسما من سنوات التسعينات, ظلت تلك المنطقة مثار اعجاب الكثيرين كنموذج للسلم الاهلي, ونتاج صحي للتلاقح العرقي والثقافي. في 19 يناير الماضي هاجم الرعاة المزارع قبل اكتمال الحصاد, وأوقدوا بذلك شرارة الصراع, واندلعت اعمال العنف, وتوالت, هذا هو السبب المباشر, لكن الخلفية التي تأسست عليها اعمال العنف فتعود ــ بحسب عدد من ابناء المنطقة الى التغييرات الادارية والبنيوية التي احدثتها الاجراءات التي اتخذها محمد احمد الفضل الوالي السابق لولاية غرب دارفور, والتي انتقص بموجبها سلطات سلطان قبيلة المساليت الزنجية وأصحاب الأرض, ومنحها لعدد من بطون القبائل العربية الرحل الذين يعتبرون ضيوفا على سلطان المساليت المشهود له بالحكمة والتسامح, وعندما صارت تلك السلطات امرا واقعا طالب ابناء المساليت ضيوفهم بالبحث عن ارض اخرى خارج ديارهم ليمارسوا عليها السلطات التي منحها لهم الوالي السابق. وتوالت الاحداث التي نتج عنها سقوط 108 قتلى بحسب صحيفة (الانباء) الرسمية ــ حتى نهاية الاسبوع الماضي ــ وعدد لم يحص بعد, من الجرحى والمعاقين, وحرق (100) قرية, ونزوح الآلاف ونهب الثروات والأموال, وتخريب الديار والمزارع, وكتبت فصلا آخر في (مأساة الحريق) السودانية. والظاهر في الازمة ان اسباب الصراع تعود الى السعي الى اقتسام موارد شحيحة وغير متجددة وليست مجالا للبحث والدراسة وغنيمة للأخذ دون عطاء, وهذا السعي يؤشر الى خلل بالغ في التخطيط الاقتصادي والادارة, والمعرفة بامكانات البلاد للعمل على تطويرها, ذلك ان في السودان نحو 120 مليون رأس من الثروة الحيوانية فيما لاتغطي المراعي, اكثر من 95% منها طبيعية سوى حاجة 20 مليون رأس فقط, على الرغم من ان الثروة الحيوانية تسهم بنسبة تتجاوز الــ 21% من صادرات البلاد, فيما لا تنفق الدولة على الاعلاف والرعاية البيطرية والمياه والابحاث الا فتات الفتات. ليس هذا فحسب, بل اكثر منه مأساوية ما يتمثل في اعادة بناء الهيكل البنيوي للادارة الاهلية, فاعادة البناء لم تراع ابسط شروطها, وهي المعرفة بتعقيدات المنطقة وظروفها وتاريخها اذ كيف تسلب سلطات سلطان ظل يحكم هذه المنطقة منذ مايزيد على الــ 120 عاما, منذ ان كانت منطقته دولة قائمة بذاتها الى ان ارتضى ان يكون جزءا من السودان طواعية؟ يحدث ذلك دون وضع الاحتمالات المتوقعة والانفجارات المحتملة في الحسبان. وعندما بلغ الامر مبلغا عظيما, كلف رئيس الجمهورية الفريق أول محمد احمد الدابي مسؤولية الامن بالولاية, وصحب معه في زيارته الاولى للمنطقة اللواء طبيب الطيب ابراهيم محمد خير وزير التخطيط الاجتماعي, حاكم دارفور الكبرى السابق للاستفادة من علاقاته الواسعة التي اقامها مع القيادات القبلية والأهلية ابان ادارته لدارفور, لتسهم (علاقاته) في تخفيف حدة التوترات, والفريق متقاعد مهدي بابو نمر وزير الصحة ابن زعيم قبيلة المسيرية (كبرى القبائل العربية بغرب السودان) وأيضا لاستثماره في تخفيف منابع الحريق. وتعيد احداث غرب دارفور الى الاذهان تاريخ سلطنة المساليت, السلطنة التي تشمل ولاية غرب دارفور الحالية كلها والتي كانت دولة قائمة بذاتها منذ العام 1870, وتقع بين خطي عرض 22ــ 23 شمالا, في اقصى غرب السودان على مساحة 70 الف كيلومتر, تحدها من الغرب جمهورية تشاد ومن الشرق والشمال سلطنة دارفور ومن الجنوب جمهورية افريقيا الوسطى, وأسسها الفكي (الفقير) اسماعيل. ويشكل المساليت (القبيلة الحاكمة) نحو 80% من ساكنيها اضافة الى القمز والتاما والارتقا وكلها قبائل زنجية, فضلا عن بعض البطون العربية, وكل سكانها مسلمون. وانضمت سلطنة المساليت الى دولة السودان طواعية, بعد ان قتل اشهر سلاطينها السلطان تاج الدين (قاهر الفرنسيين) الذي استشهد في معركة (دورتي) في العام 1910 وهي ذات المعركة التي قتل فيها الكولونيل مول قائد القوات الفرنسية في افريقيا الاستوائية, بعد ذلك بنحو 9 سنوات وفي 1919 انضمت سلطنة المساليت الى دولة السودان وفق اتفاقية (قلاني) التي وقعها السلطان بحر الدين (أندوكة) مع دولتي الاستعمار انجلترا وفرنسا ويحق لسلطان المساليت, وفق الاتفاقية ان ينضم الى دولة السودان, أو تقرير مصيره مع من يشاء. وخاض سلطان المساليت معارك ضارية كتبت صفحة ناصعة من تاريخ النضال الوطني السوداني ضد الاستعمار, وكان المغنون المساليت ينشدون الحماسة ابان معارك السلطان تاج الدين: (تاج الدين, سيفه سنين, يجاهد المشركين, لحدي ما المهدي يبين). ولسلطان مساليت قصر منيف بمدينة الجنينة شيده السلطان بحر الدين في العام 1949, وزاره فيه عدد من الملوك والرؤساء, في طليعتهم الملكة اليزابيث ملكة بريطانيا, والملك حسين ملك الاردن الراحل, والامام عبدالرحمن المهدي مؤسس حزب الامة وأحد قادة الاستقلال, وعلي الميرغني زعيم الختمية والرؤساء ابراهيم عبود, وجعفر نميري, والصادق المهدي وعمر البشير, وكل هؤلاء تزين صورهم مع السلطان قصره الجميل بالجنينة. وقبل ايام عين السلطان عبدالرحمن بحر الدين الذي تجاوز عمره الــ 90 عاما ابنه سعد الذي جاء نتاجا لمصاهرة السلطان لأسرة الهاشماب الشهيرة بأم درمان, عينه سلطانا للمساليت, ليخلفه الحكمة والتسامح عله يعيد الى دار المساليت سمتها البارزة: التعايش السلمي والأهلي. صحيح ان اعمال العنف توقفت, وان الحريق بدأ يخفت, وعادت الدولة الى غرب دارفور, وان الجميع يسعى الى تطبيب جراحات الحريق, لكن لابد من التوقف امام هذه الاحداث باعتبار انها علامة فارقة تؤشر الى احتمالات تفتت السودان وهشاشة بنيته, فبقدر ما يمكن للتنوع ان يكون عامل ثراء واغناء, يمكن ان يكون شرارة للحريق الكامل, ان هذه الاحداث تشكل انذارا مبكرا لاحتمالات التفتت, وتنبه ايضا الى ضرورة اغناء التنوع العرقي والثقافي والديني بالحوار والشفافية والعض عليه بالنواجز
صحيفة (البيان) الاماراتية.
16 فبراير 1999
الصحفي: محمد الاسباط