ما زالت حملة تجميل وتلميع صورة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) مستمرة، بغرض تبرئته من جريمة فض اعتصام القيادة والمجزرة التي راح ضحيتها مئات الشباب، ولا زال البعض يرمي باللائمة على جهاز الأمن والمخابرات والجيش والشرطة وكتائب ظل الحزب المحلول فقط، وإظهار حميدتي بمظهر المسكين المغلوب على أمره و(المضحوك عليه).
ولكنها تظل مجرد أمنيات لمن يسهل الضحك عليهم بقرشين، وأضغاث أحلام لمن شارك في الجريمة النكرا،ء أو أسهم فيها بالرأي والمشورة وحتى الصمت المطبق الذي يعتبر من الكبائر. وللمساكين والبسطاء من يرون أن الجريمة تقع مسؤوليتها على جهة دونا عن الأخرى، نقول إن كافة أعضاء المجلس العسكري بمن فيهم (الموهطين) حالياً في المجلس السيادي، شركاء في هذه الجريمة وإن اجتهدوا في إبعاد التهمة عن أنفسهم بشتى السبل والوسائل.
ولعل الحقيقة الماثلة هي أن ما حدث صبيحة ٣ يونيو كان شروعاً في الانقلاب على الثورة من قبل (المعجا)، وفرض واقع عسكري بعيد تماماً عن الواقع الماثل الآن، واقع خالٍ من أي وجود لمدنيين، ولولا تماسك الثوار وإيمان الشارع السوداني بثورته وإصراره القوي على حمايتها، ولولا رفض المجتمع الدولي بأكمله الاعتراف بأي حكومة خلاف حكومة قوى إعلان الحرية والتغيير التي طالب بها الشعب وخرج لأجلها، لكان السودان اليوم يرزح تحت حكم من لا يرحم ولا يخشى الرحمن.
لست من المؤمنين بانفصال القوات النظامية بأكملها عن الحزب المحلول ولا قياداته، ومؤمنة جداً بأن كل السلحفائية التي يتم التعامل بها تجاه كل ما له علاقة بالنظام البائد، جزء من الصفقة بين المؤتمر الوطني وبين (المعجا)، ليشكل لها غطاءً سياسياً تتدثر به كما يحدث الآن لحين تحقيق الهدف بعودة النظام السابق مرة أخرى، ابتداءً من التباطؤ في حل الحزب ومصادرة ممتلكاته وأصوله، وتجميد حساباته بما في ذلك حسابات قططه السمان ورموز فساده، مروراً بالسلحفائية في إعادة هيكلة الجيش ليكون جيشاً قومياً عقيدته الوطن، وجهاز أمنه الدموي ليكون جهازاً قومياً تنحصر مهمته في جمع المعلومات وتحليلها، انتهاءً بتنقية وتصفية ودمج المليشيات التي تتضرع في شوارع العاصمة والولايات لتكون جزءاً من القوات المسلحة السودانية. فكلها حقائق تكشف زيف وتضليل أصحاب الرتب والنياشين للشعب السوداني الواعي رغم كل شئ. إذن التحليل الأقرب للحقيقة هو أن الجميع شارك في فض الاعتصام، والجميع كان يمني نفسه باقتسام الجزء الأكبر من الكيكة، ولكن إرادة الله، ثم الشعب كان لها القول الفصل.
أختم هذه الجزئية بتحليل الماجد سامي صلاح في هذا الصدد بأن ما يعرفه الجميع أن قوى إعلان الحرية والتغيير وقعت الإعلان الدستوري مع ذات هذه القوى التي انقلبت عليها والتي أٌرغِمت أي (الأخيرة) (كراعا فوق رقبتا) على هذا الاتفاق، وهنا تكمن المعضلة، فما بين مطرقة الجبهة الإسلامية المؤتمر الوطني مدعوماً بدولته العميقة وجهاز أمنه وكتائب ظله الذين يعملون على الانقضاض على الثورة وما بين سندان (أعداء الأمس شركاء اليوم)، تقف المواقف متباينة: هل كان الاتفاق صائباً وهل نسير بذات الطريق في سبيل التخلص من الإسلاميين بدولتهم العميقة وكتائب ظلهم؟ أم تستمر الثورة حتى التخلص من الجميع؟ ومن الواضح أن الطريق الأول هو الغالب حتى الآن.
ولكن تبقى قضية مجزرة فض الاعتصام بكل آثارها غصة في الحلوق، ومهدّدة للعملية السياسية الجارية برمّتها، ما هي السيناريوهات المتوقعة في حال قامت لجنة التحقيق بتوجيه الاتهام للمجلس العسكري؟ وبالمقابل ما هي السيناريوهات في حال تبرئته وتوجيه أصابع الاتهام إلى ضباط أقل في الرتبة؟ هذه المعضلة تحتاج إلى قراءة متبصّرة وحذرة في ذات الوقت وبالضرورة آراء متباينة.