إنت ما تشوف ناس هامشك

0 103

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

كنا في مؤتمر انعقد لدراسة تجارب الانتقال الديمقراطي في السودان والجزائر نظمه معهد الدوحة. وتكاثر الطعن في الأوراق على المركز دفعاً لمسألة “الهامش عندو قضية”. وجرؤت على السؤال، قناعة منى أن الحجة ضد المركز بينة الإشكالية من طول طرقها ولم تعد سوى الإرادة في إعادة ترتيب المركز، إن لم يصح نقد الهامش كما صح نقد المركز وما يزال. ففي البادي أننا أسرفنا في نقد المركز قياساً بصمتنا عن نقد الهامش (لا حربه) فخرج صفوة الهامش من هذا الأمر كالشعرة من العجين.
ولا أعرف من ابتدر نقد الهامش مثل منظمة الحزب الشيوعي في دارفور أول انفجار الحرب في ٢٠٠٣. فمن رأيها في بيان لها أن أصل النزاع هو صراع حول الموارد بعد الجفاف الذي ضرب مناطق الرعاة في شمال دارفور. ونبهت، وهذا هو المهم، إلى المخاطر المترتبة على منهج مثقفي القبائل في استخدام هذه النزاعات القبلية لبلوغ غاية سياسية أو أخرى. ونشر الحزب هذا البيان في الميدان السرية ثم سرعان ما صدر كتاب القيادي فيه سليمان حامد واتفق مع مثقفي القبائل، برجوازية الهامش الصغيرة، في أن النزاع هو طغيان العرب على الزرقة. فرمى الحزب بعقيدته في الطبقة واختار معارضة الإنقاذ بالإثارة لا الوعي. وهذا ما انتقد الحزب نفسه عليه في تقييمه لمعارضته لنظام عبود في تقرير مؤتمره الرابع (١٩٦٧). فقال إنه كانت معارضتنا له إثارية كنظام عسكري لا كنظام طبقي عنوانه العسكرية.
هناك الكثير مما يقال عن برجوازية الهامش الصغيرة. وموجزه، بالنظر لإدمانها القتال حول كسبها من الوظيفة من براثن المركز بغير اعتبار لمصالح أهلها، أنها “مضيعاليها سودنة”، أي أنها تتدارك بالعاقب ما غنمته برجوازية المركز النيلية الصغيرة من سقط الإنجليز.
منعاً للإطالة أعرض هنا مشهداً من اتفاق الشرق (٢٠٠٦) عن شره برجوازية الهامش الصغيرة للوظيفة وادمانها بين نخب جبهة الشرق التي وقعت ذلك الاتفاق:
انتهز موسى محمد أحمد، ومبروك سليم مبروك، وآمنة ضرار، الثالوث القيادي في جبهة الشرق، تأجيلاً مؤقتاً في مفاوضات الشرق في أسمرا في آخر ٢٠٠٥ ليوقعا الاتفاق مع الحكومة ضاربين بعرض الحائط بالمطالب التي تواثقوا عليها مع جبهتهم. فأجل الوسيط الإرتري جلسات المفاوضات حتى تجتاز عقبة حول مطالب لم تتفق لحكومة السودان. فلم تقبل ألا يكون الاتفاق مع الشرق بمعزل عن إعادة تركيب المركز، وتوزيع عادل للثروة والسلطة، والتحقيق في شهداء بورتسودان في ٢٠٠٥، واسترداد الفشقة وحلايب. وتواطأ الثالوث مع الحكومة بما تيسر. وظل شبح تلك المساومة الخذولة للثالوث يطارد اتفاق الشرق، ويؤذيه بالشقاق إلى يوم لم يعد شيئاً مذكورا.
كان اتفاق الشرق مع الحكومة هو بداية عضاض الشرق لنفسه. فما تم التوقيع حتى ضرب الخلاف جبهة الشرق على أساس قبلي. ودار حول محاصصات كسب الموقعين من الحكومة. فاختلفوا في نسب كل من الهدندوة والبني عامر والرشايدة في اجتماعهم الأول في تسني في نوفمبر ٢٠٠٦ بعد الاتفاق. وانتحى موسى محمد أحمد بالهدندوة في مؤتمر قاصر عليهم في الربدة مما جعله فعالية لمؤتمر البجا دون الآخرين. وسنحت الفرصة لمعارضي الاتفاق لفتح نيرانهم على القيادة. وظهر الخلاف العصيب بين مؤتمر البجا المسلحين ومؤتمر البجا في الداخل.
ودار الخلاف حول هل يبقى مؤتمر البجا تنظيماً مستقلاً أم يندمج في جبهة الشرق كما دعا لذلك موسى رئيس الجبهة ومؤتمر البجا. وطعن الناقدون في خطة موسى ونسبوها لنفوذ إرتيريا على المسلحين. فأرادت إرتيريا، في قولهم، تغييب شخصية مؤتمرهم بدمجه مع غيره مقتدين بهم في تنظيمهم السياسي المسمى الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة. بل اعتقدوا أن مؤتمر جبهة الشرق اللاحق في أدوسا داخل الحدود الإرترية مما دعت له إرتيريا لاستعادة نفوذها على الجبهة. ولم يقبل أعضاء مؤتمر البجا الداخل بوجود رموز نظام إرتريا على منصة المؤتمر وطالبوا باستبعادهم. وانفض المؤتمر وعاد حضوره للسودان إلا أهل الولاء لإرتيريا الذين استبقتهم لعام حتى تقضى وطرها منهم. وظل الخلاف ضارباً حول تقسيم أسلاب الاتفاق. وعاد الخلاف يجلل اجتماع مؤتمر البجا في أركويت غير أن موسى كان قد غير رأيه حول دمج المؤتمر في جبهة الشرق.
ثم اصطرع الثالوث القيادي بين موسى رئيس جبهة الشرق ونائبه آمنة ضرار. فاتهمته، وهي البني عامرية، أنه يحابي أهله الهدندوة. فسعى موسى لفصل آمنة من الجبهة في حين كانت هي تسعى لتسجيل أنصارها من البني عامر في جبهة الشرق كحزب سياسي لما لم يقف مبروك معها في صراعها مع موسى. فكونت حزب الشرق الديمقراطي. وهكذا تهدم بنيان جبهة الشرق وخاصة حين ناصر موسى المؤتمر الوطني، بل وصار رئيس لجنة البشير لانتخابه للجمهورية في ٢٠١٠. ولم تعد الجبهة مالكة لزمام تنفيذ بنود الاتفاقية من فرط هزالها لجرثومة القبلية التي غزت أوردتها.
وواصل ناقدو موسى في مؤتمر البجا حملاتهم عليه. فكتب له عبد الله موسى وآخرون لإصلاح الحركة. فانتقدوا تركيزه السلطات بين يديه، وتعيين شيعته في الوظائف الغنيمة، ولعلاقاته المشبوهة بالمؤتمر الوطني. وانعقد مؤتمر لمؤتمر البجا في ٢٠١٢ بقاعة الصداقة لجرد ما تم إنجازه من الاتفاقية بعد ست سنوات من التوقيع عليها. ولم يسعد الحضور بالنتيجة ونددوا بالمؤتمر الوطني لتقاعسه دون استكمال تنفيذ الاتفاق على وجهة الصحيح. ونوهوا بمطالبهم مضمنة السيادة على حلايب والفشقة والتحقيق في شهداء بورتسودان. ولوحوا بالانسحاب من الحكومة ما لم يتدارك المؤتمر الوطني الموقف. ومن رأي كاتب هذه الإفادة عن صراعات الشرق أن مؤتمر القاعة كان “هوشة ساكت” لتفادي النقد الذي كان يسدده ناشطو البجا لقيادة المؤتمر لبؤس أدائها في إنزال الاتفاقية في أرض الواقع، ولتلميع موسى الذي فقد رصيداً كبيرا. بل هدد المحتجون بالعودة للسلاح لحمل المؤتمر لتنفيذ الاتفاق: طلعو الجبل تاني.
من أطف ما قرأت تعليقاً لأوكراني لصحفي وهما يشاهدان تلاحماً بالأيدي بين جماعات سياسية بعد سقوط النظام الشيوعي: “These are your democrats”
وبالمثل شوف ناس هامشك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.