الانقلاب: طُمام بطن سياسي مكلف
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
كتبت النيويورك تايمز غداة انقلاب 17 نوفمبر 1958 افتتاحية جاء فيها “إن عبود قد تدرّع مسؤولية جسيمة. لقد أطاح بنظام ديمقراطي ليحل محله ديكتاتورية عسكرية. وليس هذا مما تنشرح له النفوس بالطبع”. هذا التعليق عادة الديمقراطية التي هي تربية في تمييز الخبيث عن الطيب بغير لجاج أو تمحك. ولم يجد النظام الديمقراطي مثل هذه “الضحوة “) وهي مجاز في التضامن، أصله في عون الجماعة الريفية الواحد منها في حصاد أو غيره (من الفكر المستنير عندنا. فقد أخذ هذا الفكر بنظرية الجزاء الوفاق، أي أن الانقلاب كان العقوبة المناسبة لنا، متى ما أعيت السياسيين الحيلة، وادلهمّت سُبل الحكم بوجههم. وهذا من عادة الهرج التي تنفر من تبعة التربية في تمييز الخبيث عن الطيب. وخلافاً، فهي عادة في التلاوم والندب وشق الجيوب الاعتباطي بما يأذن للمذنب أن يفلت من حساب التاريخ والعقاب الجنائي. وتصبح الحقيقة “قتيلة صف ” وهي في عرف البادية القتيل الذي انجهل قاتله.
ولعل منصور خالد في كتابه “الحكومة التي نستحق” (بالإنجليزية، 1999) هو الأعلى صوتاً ومنهجاً من بين مَن رأوا أن انقلاب عبود هو استحقاقنا من الحكم بالنظر إلى إساءتنا للديمقراطية بالضجة الكبرى والخِلف كما قال شوقي. فقد نجم الانقلاب في رأيه من النزاع الشديد الذي ساد التحالف الحكومي في 1958 بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي حتى سلّم البِيْه مقاليد الحكم للفريق عبود. وسمَّى هذه الحزبية المستفحلة ب “الخبط السياسي المقلق ” الذي يدلُّ على أن “ثقافة الديمقراطية لم تتجذر في السودان، وأنها لم تتجاوز الجانب الإجرائي مثل الانتخابات والتحالفات البرلمانية والتنظيمات الحزبية الصورية”.
ولم يزد منصور هنا عن تبنى نظرية البِيْه نفسه عن تسليمه عنان الحكم للجيش نصاً وروحاً بل وكامل نظرية الانقلابيين الذين يزكون أنفسهم في البيان الأول بأنهم إنما جاؤوا لإنقاذنا من النزاع الحزبي، أي تصحيح السياسة. فقال البِيْه لمجموعة برلمانية جنوبية بعد ثلاثة أيام من الانقلاب: لقد أثبتت التجربة أن هذا البلد غير مستعد لحُكم ديمقراطي، وعليه فقد قررتُ، وبناء على اقتراح من مستشاري، أن أسلِّم سلطة هذه البلاد إلى الجيش. ورغم أن نشاط الأحزاب السياسية قد تم حظره إلا أنني اعتقد أن رجال حزب الأمة ورجال الجنوب سيتعاونون. وكانت كتلة حزب الأحرار الجنوبي قد مالت إلى حزب الأمة بعد اقتسامها دوائر الجنوب مع الاتحادي الديمقراطي في انتخابات 1958. كما أطلع البِيْه السيد سرسيو إيرو على مشروع الانقلاب بالنظر إلى فساد فكرتهم في التعاون مع مؤتمر البجا الأول الذي أنعقد في أكتوبر 1958 وحضره البِيْه، وإن لم يؤذن له بمخاطبة شهوده.
فمن الهرج ألا يفلت البِيْه من التنكيد لتفريطه في أمانة الدستور فحسب. ولم أجد في تحميل البِيْه الذنب في تنصُّله عن الثبات عند الديمقراطية عبارة أدق وأشفى وأنجع مما قاله في وقت لاحق السيد بيتر كلنر، رئيس تحرير المورنينق نيوز التي كانت تصدر عن دار الأيام. وهي كلمة مُطَّلع ذي عقيدة غرَّاء حَسُنة الظنِّ في ثقافة السودان الديمقراطية قال: لقد فقَدَ السودانيون الثقة في عبد الله خليل، ولقد فقَدَ هو الثقة في أن يعثر السودانيون على بديل أفضل منه. وظن الرجل أن إيجاد هذا البديل مناط به دون غيره. لم تفشل الديمقراطية الليبرالية لعاهةٍ فيها. جلية الأمر أن الرجل الذي حمل على عاتقه الاحسان لها، قد اطَّرحها جانبا. لماذا شحَّت نفسُ منصور وقلمُه، عن كلمة صدق كهذه وهو الباحث الذي لا يُشَقُّ له غبار عن جغرافيا فشل الصفوة، بل إدمانها ذلك الفشل؟