السودان: هل سقطت نظرية صراع المركز والهامش؟

0 70
محمد قواص
نشبت حرب بين شمال السودان وجنوبه في مرحلة أولى (1956- 1972) ثم ثانية (1983- 2005) إلى أن انتهت باتفاق نيفاشا في كانون الثاني (يناير) 2005 للسلام وتقاسم السلطة. أتاح الاتفاق الصعب والمعقّد للجنوبيين أن يختاروا ما بين البقاء في سودان موحد أو الانفصال، فصوّتوا في استفتاء عام 2011 لصالح الانفصال. تحدّثت أرقام ذلك الصراع عن سقوط أكثر من 2.5 مليوني قتيل ونزوح الملايين. ولم ينشغل العالم أجمع بهاتين الحربين كما ينشغل هذه الأيام بالحرب التي اندلعت منذ 15 نيسان (أبريل) الماضي.
تعامل العالم مع حرب الشمال والجنوب بصفتها “حرباً أهلية” ذات تصنيفات مختلفة: عربية – أفريقية، إسلامية – مسيحية – وثنية، هامش ومركز… إلخ، لكن تلك الحرب، وعلى الرغم من صداها العابر للحدود، بقيت بيتيّة يخوضها السودانيون بتواطؤ من عواصم الخارج، لكنها لم ترقَ إلى مستوى إقليمي أو دولي.
قامت عقائد الصراع بين الشمال والجنوب على أن السبيل الوحيد لحلّ نزاع الأطراف مع المركز في الخرطوم لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال القوة المسلّحة وأن لا نجاعة من تسجيل أي إنجاز عبر ما تشكّل وما يمكن أن يتشكّل من هياكل سياسية وحزبية ونقابية. غير أن فكرة الانفصال كانت غائبة عن عقائد الضابط جون قرنق حين التحق بتمرد الجنوب عام 1983 وصار قائداً له.
يذكر السودانيون أن الرجل حين عاد إلى الخرطوم في 8 تموز (يوليو) 2005 ليتسلّم منصبه كنائب أول للرئيس بعد اتفاق السلام، وجد زحفاً بشرياً ينتظره في عاصمة البلاد. أثار المشهد قلقاً لدى نظام الرئيس عمر البشير الذي استنتج بسهولة طموحات قرنق في أن يكون يوماً ما زعيماً للسودان والسودانيين أي أن يكون مركزاً لا هامشاً. ولم يُسجل لقرنق أنه كان مشجعاً للانفصال، غير أن مقتله الغامض إثر تحطم طائرته في 30 تموز (يوليو) 2005، أزاح “كابوس” زعامته للسودان عن صدر النظام السياسي القائم آنذاك، وربما دفع الجنوبيين للتصويت في استفتاء بعد 6 سنوات لإقامة دولتهم المستقلة.
روّجت تجربة الحرب الشمالية – الجنوبية لقيام فصائل مسلحة أخرى للدفاع عن مطالب مناطق دارفور وجنوب كردفان وجبال النوبة والنيل الأزرق وغيرها. وعلى الرغم مما يمكن أن يُكتب بشأن صراع المركز والأطراف، فإن تلك الصراعات لا سيما في إقليم دارفور اختلط داخلها هذا التصنيف بصراع القبائل التقليدي والصراع بين رعاة الماشية والمزارعين ناهيك بطابع ملتبس للصراع بين عرب وأفارقة. غير أن وضع مجهر تحليلي على ظاهرة قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) تفضح تشابكاً يُظهر أن قوات “الجنجويد” التي تناسل منها جيش “حميدتي” كانت تمثّل المركز في صراعه مع الهامش في دارفور.
لا يعمل الجنرال “حميدتي” على إنشاء دولته في دارفور وليس صحيحاً أنه قد يلجأ إلى الإقليم ليقيم هناك كياناً سياسياً منفصلاً. يشيّد الرجل خطاباً ينافس فيه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على السلطة في البلاد. يذكّر الأمر بطموحات الراحل قرنق الذي دخل الخرطوم بالسلم فيما يسعى قائد “الدعم السريع” للسيطرة على العاصمة بالقوة. وسخرية التاريخ أن الفصائل المسلحة في دارفور التي كانت تقاتل الخرطوم و”جنجويدها” في الإقليم قد تقف إلى جانب الجيش ضد قوات “حميدتي” في الإقليم.
يكتشف العالم السودان فجأة. يجهد الخبراء في فكّ شيفرة البلد المعقّد في تعدده وقبائله وأعراقه وجهاته. يستنتج المراقب بسهولة هراء الاستسلام إلى نظريات ثنائية من قبيل: المركز – الهامش، العرب – الأفارقة، المدنيون – العسكر، الإسلاميون – العلمانيون…إلخ، وهو ما يفسّر ذلك الارتباك الذي يعتري العواصم القريبة والبعيدة في الموقف من الصراع وأطرافه.
في ذلك التعقّد ما يشكّك أيضاً بتاريخ الصراع بين عسكري ومدني منذ الاستقلال. ولأن سيطر العسكر على السلطة مقابل استثناءات حزبية مدنية سياسية، فإن قراءات أخرى لتاريخ الانقلابات العسكرية في هذا البلد تنفي عن العسكر عيب الانقلابات وتؤكد أن تحرّك الجيش جاء دائماً بناءً على ضغوط الأحزاب السياسية وبطلب منها.
جرى أول انقلاب في السودان عام 1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود. يروي غسان علي عثمان الباحث في الشأن السوداني، أن رئيس وزراء السودان سكرتير حزب الأمة آنذاك هو الذي ذهب إلى قائد الجيش وطلب منه أن يتسلم السلطة وهو ما حصل حتى سقوط الحكم العسكري بثورة شعبية عام 1964.
حصل الأمر نفسه حين قامت، وفق هذه النظرة التاريخية، أربعة أحزاب: شيوعية وناصرية وقومية وبعثية بدفع العقيد جعفر النميري لأن يتسلم السلطة التي استمرت حتى سقوطها عام 1985. وحصل أيضاً حين قام “الإخوان المسلمون” تحت مسمى الجبهة القومية الاسلامية بدفع العقيد عمر البشير للقيام بانقلاب عسكري عام 1989.
واللافت في وجهة نظر الباحث السوداني أن العسكر عبّروا دائماً عن طموحات الأحزاب السياسية وأطماعها وإن انقلبت سلطة العسكر على قيادتها السياسية لاحقاً. وما هو لافت في السودان أن الأحزاب السياسية اخترقت المؤسسة العسكرية وجنّدت تيارات وقوى داخل الجيش وحرضتها للاستيلاء على السلطة.
واللافت أيضاً أن السياسة توسّلت العسكر، فيما النقابات التحقت بالفصائل المسلحة ما شكل حالة تماهٍ بين ما يمكن أن يصنع ديموقراطية وما يصنع استبداداً. يستخدم أستاذ تاريخ أفريقيا والإسلام بجامعة ميسوري الأميركية البروفسور عبد الله علي إبراهيم عبارة: “من النقابة إلى الغابة” في تفسير الهجرة من التقاليد النقابية إلى الميليشيوية “لأن الطواقم التي كانت تقوم وتنظم وتعبئ وتكافح هي التي قررت أن الغابة هي الحلّ”.
ذلك التعقّد الخفي في علاقة السياسي بالعسكري في تاريخ السودان ينسحب على ما يحصل هذه الأيام من تعقّد في علاقات الميليشيا بالجيش والفصائل المسلحة بالمكوّنات المدنية وعلاقة العرب بالأفارقة ما يفرّغ أي هياكل تقليدية لصراع يزعم أنه يجري بين المركز والأطراف أو بين متن السلطة وهامشها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.