الوثيقة الدستورية: هل هي خرقاء أم بنت صراع اجتماعي وسياسي؟  

0 99

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

الحاجة ماسة لتقليب خبرتنا في الحكومة الانتقالية أذا ما أردنا اشتداد وسداد النهوض القائم لنسترد المواقع التي أزاحنا منها انقلاب ٢٥ أكتوبر. ونريد أن يخرج لهذا التقليب مؤسسياً أهل النظر حتى نتعافى من حالة “العوة” التي طبعت محاججات السنوات التي سبقت الانقلاب والتي أعاد بيان البرهان الانقلابي إنتاجها حجة علينا. وأبدأ بتعليق على الوثيقة الدستورية مصابنا الأكبر من العوة تلك السنوات.

ستدخل الوثيقة الدستورية لعام ٢٠١٩ تعديل ٢٠٢٠ التاريخ كالوثيقة الكأداء الخرقاء. فلم يجف حبر موادها حتى طارت الشكلة بين القانونيين في صف الثورة حول المسؤول عن خراقة فيها لم أعد أذكرها. ووُصفت بالخيانة من جهات لم تقبل بها كسفاح بين المدنيين والعسكر فيها. وهي عندهم بالنتيجة تعاقد بين “شركاء الدم”. وتكاثرت عليها الرماح حتى لم يعد من موضع فيها لطاعن. وقال القائل في أصيل الانتقالية إنها مما تلاعب بها أشخاص بالاسم.

تقول عبارة شائعة أن القانون من الأهمية بمكان صح بها ألا يترك للقانونيين وحدهم. وواتتني العبارة خلال نقاش القوانين البديلة لقوانين نميري الإسلامية (١٩٨٣) بعد ثورة ١٩٨٥ في ١٩٨٨. فكنت لاحظت استيلاء القانونيين على الندوات التي انعقدت لمعارضة تلك القوانين. وقلت إننا لو احتجنا لمن يطلع الناس على فظاظة قطع اليد للسرقة الحدية، ورضوضها الأبدية عليه لاستصحبنا طبيباً يرينا بدائع صنع الله في اليد. وكنت أخذت الفكرة من حديث لي مع المرحوم الشاعر محمد عبد الحي. كنا معاً نملأ سيارته من محطة بنزين جامعة الخطوم ببحري. وكان مشلول اليد يومها. فقال لي إن فقد اليد أمر إدا. وأبحر بي في حديث طويل وشائق عن بدائع نسج اليد وكفاءتها عن علم اضطر له اضطرارا. ثم التفت وقال لي: ونحن نقطعها هكذا جزافاً.

لست أنفى الخراقة عن الوثيقة مثل ما ورد فيها عن صفة الوزير في الحكومة الانتقالية. وأقول عرضاً إنه صكت أسماعنا عبارة أن الوثيقة اشترطت أن يأتي وزراء الفترة من التكنوقراط. ولم أجد هذه الخصيصة ضمن صفة الوزير في الوثيقة. ولكنه الخطأ المشهور أو المغرض. وقالت الوثيقة حقاً إن مجلس الوزراء يتكون من “كفاءات وطنية مستقلة” (١٥-١). ولكنها حين جاءت إلى البند المخصص “شروط عضوية مجلس الوزراء ” (-١١٧) اقتصرت على أن يكون “من ذوي النزاهة والكفاءة والتأهيل والخبرة العملية والقدرات الإدارية الملائمة للمنصب” وهذه الخصائص نفس ما طلبته في تعيين عضو مجلس السيادة. وليس معلوماً بكفاية بيننا أن الوثيقة لم تشترط أن يكون عضو مجلس السيادة كفاءة وطنية مستقلة. فالحزبية بهذا واردة فيه كما وارد أيضاً عدم الاستقلال. فصعب القول إن العسكريين فيه مستقلون. وينطبق انتفاء الاستقلال هذا على وزيري الدفاع والداخلية بالطبع. ومعلوم أن اتفاق سلام جوبا تخلص من هذا الاستقلال لأسباب المحاصصة المعروفة.

واضح أننا هنا حيال خراقة تحريرية وزعت أشراط تعيين الوزراء على مادتين من الوثيقة بلا حاجة ملجئة في حين اقتصرت صفة أعضاء مجلس السيادة على مادة واحدة (١٣). وكان من النباهة أن نلم الشعث في التبويب والصياغة من نطاق مواد تصارخ فيها الناس كما لم يتصارخوا في شيء.

وعليه لا أعرف ما الذي جعل مادة الكفاءات الوطنية المستقلة (١٥-١) تعلو على مادة النزاهة ومترادفاتها (١٧-١)؟ هل جاء في الوثيقة، أو العرف القانوني، ما يصطفي مادة دون أخرى متى تنافرت محمولاتهما؟

تجد الحقوقيين موضوعياً أحفى بالنص في حد ذاته لا بما يعكسه من تدافع سياسي حول مصالح مرغوبة للأطراف. ويقال “نصوصي” لمن قِبلته النص دون دلالاته الاجتماعية. فثار جدل الحقوقيين حول العيب في النص الذي يقتصر على الخراقة في الصياغة والتحرير. وقل عندهم النظر للنص، أي نص وفي القانون بالذات، كانعكاس لصراع سياسي واجتماعي مثل الصراع الذي لم نر أشد منه ضراوة مثل ما رأينا من صراع العسكريين والمدنيين في الفترة الانتقالية. وسأتوقف في كلمة قادمة عند اختصاص السلام مع الحركات المسلحة الذي اختطفه العسكريون في مجلس السيادة خالصاً لهم بيدهم القوية لمآرب عرفوها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.