ثوار السهل والجبل: درس من أكتوبر

0 100

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

(وقفة مني مناوي وجبريل إبراهيم في منصة الثورة المضادة بالقصر شنشنة أعرفها عن مسلحي الهامش، لا شعب مناطقهم. لها جذور عرضت لها قبل أشهر وأعيد نشرها هنا ليقف الناس على أن التاريخ يعيد نفسه: يأتي المرة الأولى كمأساة رفي المرة الثانية كمسخرة)

أخشى ما أخشاه أن تكون الحركات المسلحة ومن استظل بها من حركات الهامش لم تتعلم شيئاً من نكسة ثورات المدن والريف المتقدم في 1964 1985. وأقول قولي هذا على بينة ما جرى من عنف وقتل في بورتسودان مرتين في أقل من شهرين، ومن تثاقل مسلحي دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وتوابعهم دون عناق الثورة كطرف أصيل فيها لا أهل مطالب منها وكفى. فأول نذر انتكاسة الثورة ما دق جرسه في محيط هذه القوى سواء بحادثة ضرجت الدم مثل واقعتي بورتسودان الأخيرتين فتزهد من هولها جمهرة متزايدة من الناس في خير الثورة، وتجنح نحو السلامة بغض النظر. أو ب”التعسم” حيال الثورة تعسماً تتحول به الحركات المسلحة وتوابعها إلى “نقابات” من أردأ صنف النقابات تلك التي لا ترى خدمة جمهورها في غير المطالب. وتغيب عنها في المطلبية اللحوحة الغابة في حضرة الأشجار المفردة. وأحاول في كلمتي هذه وما بعدها القاء الضوء على نكسة ثورتي أكتوبر وإبريل ناظراً إلى تكتيكات غير موفقة، في قول ملطف، تبنتها الحركات المسلحة

كتبت عن الأحد الأسود (6 ديسمبر 1964) الذي القى بظل ثقيل على ثورة أكتوبر. ففيه انفلتت جماعة من الشباب الجنوبي الانفصالي الرافض لوجود جنوبيين في حكومة الثورة فخرب ما حلا له. وكانت ردة جماعات من الشماليين فظة اضطرت معها السلطات لتأمين الجنوبيين بنقلهم إلى استادات كرة القدم بالخرطوم وأم درمان. وكانت صدمة للكثيرين من الشماليين الذين أملوا أن حل مسألة الجنوب صار في متناول اليد. فشرارة الثورة نفسها كانت بمثابة احتجاج على الحرب في الجنوب والنظام العسكري الذي خاضها لا يلوي على شيء. وكان الاعتبار الذي لا بعده في اختيار رئيس الوزراء، المرحوم سر الختم الحليفة، هو حسن سيرته في الجنوب. وما له دلالة في قبول الجنوبيين له أن سمى الشاعر الجنوبي السر أناي نفسه باسمه الأول عرفاناً بدماثته ونجدته. ونال الجنوبيون وزارة سيادية لأول مرة هي وزارة الداخلية الذي خرجت تظاهرة الأحد الأسود على وزيرها تحتج على شغله وزارة مع شماليين.

ورتبت الحكومة لعقد مؤتمر المائدة المستديرة في الخرطوم لمناقشة مسألة الجنوب بحضور أفريقي وعربي مشهود انعقد في 16-25 مارس 1965. وأكرر منبهاً أن اجتماع السلام هذا سبق الانتخابات لقيام الديمقراطية في البلد (يونيو 1965) بثلاثة شهور. وهذا يكذب بعض مزاعم المسلحين ليومنا الذين يذيعون أن الثورات السلمية تنصرف بجهودها لقيام الديمقراطية ولا تلقي بالاً لمسألة السلام. وأقول بنقيضة السلام والديمقراطية جدلاً. فالفصل بين المكونين اعتباطي.

وعملت الحكومة الثورية على رد بعض مظالم الجنوبيين البارزة فوراً:

1- فساوت بين أجور الموظفين في سائر الدولة شمالاً وجنوباً. واختلاف الأجور بين جزئي الوطن هو عوس بريطاني. وكان مطلب مساواة الأجور ذلك هو البذرة التي أثمرت الحركة النقابية للموظفين الجنوبيين المسماة هيئة رفاه الموظفين الجنوبيين (1947). ولاحقت هيئة الرفاه الحكومة الإنجليزية بمطلبها بل واضربت لتحقيقه. وكان مطلب المساواة هو الأبرز في مؤتمر جوبا في 1947 الذي انعقد لمناقشة الترتيبات للحكم الذاتي للسودان الذي صار وشيكاً. وروج ناس ساس يسوس تاريخاً مغلوطاً لهذا المؤتمر كشفت عواره، في سياق بحثي عن الأجور كجذر في مشكلة الجنوب، في كتابي “. . . ومنصور خالد” وبصورة مختصرة في كتيبي “حركة وطنية أم حركات وطنية: ما أهمله التاريخ من تاريخ جنوب السودان”. وانتظرت مساواة أجور العمال في شقي القطر انقلاب مايو 1969 ليحققه في أول أيامه. وكان ذلك المطلب أمام حكومة الحكم الذاتي (1954) بزعامة الزعيم الأزهري تقدم به اتحاد نقابات العمال السودان أول ما تقدم به لها. ولا حياة لمن تنادي.

2- وجهت الحكومة الثورية بإجراء التحقيق في حوادث للتعذيب مسيئة قام بها ضباط في الجيش والشرطة والتجار. وهذا التحقيق من التاريخ المصموت عنه لأنه لا يتفق مع صورة الجلابي الفظ الذي لا يرجع عن سوءته. وهي الصورة التي تدر تضامناً للقوميين الجنوبيين ويتخذونها سبيلاً لإخذاء الشماليين وإفحامهم فيما يسمى ب”عقدة الذنب الليبرالي”. فذكر القاضي صلاح شبيكة للرأي العام (21 يناير 1965) أن التحقيق في الحوادث في أعالي النيل شمل 22 شخصاً منهم مفتش كدوك وملازم ثاني بحامية أعالي النيل وعدداً من رجال البوليس والسجانة واثنين من التجار الشماليين. وقال إن التحقيق بدأ معهم على إثر تلقي بلاغات ضدهم. وقد جرى التحقيق معهم بموجب قانون العقوبات والإجراءات الجنائية. وذكر السيد شبيكة أنه أطلق سراحهم بضمان بعد أن أخذت اقوالهم. وأشار إلى أنه سيعد تقريراً عن التحقيق الذي أجراه ويرفعه إلى الجهات المختصة عند عودته للخرطوم.

كان السؤال في دوائر شمالية كثيرة بعد صدمة الأحد الأسود هو: ماذا يريد الجنوبيون وها هو مركز الحكم في الخرطوم يقوم بما وسعه لتلبية مطالبهم في وقت حرج تحاصره فيه ثورة مضادة شرسة في ما عرف بالجبهة الوطنية التي تدير خصومتها للحكومة الثورية من عند قبة الإمام المهدي. وبلغت هذه الثورة المضادة من الاضغان على الثورة أن اسقطت حكومتها الاستثنائية في فبراير 1965 لتستبدلها بواحدة لها ثقل فاحش فيها.

وأعود غداً إن شاء الله لبيان كيف أدى تعنت القوى المسلحة بين القوميين الجنوبيين إلى كساد الثورة وتعزيز قوى الثورة المضادة في الجيش والمجتمع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.