جريدة الميدان: يا عمال العالم بلاش دوشة

0 75
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
سألني أصدقاء عن ما كتبته بصفحتي على الفيس بوك أمس عن مفهومي للاستثمار في الفترة الانتقالية قبل وأدها بانتخابات معجلة. وأعلم أن سؤالهم صادر عن سقم بما يدور في الفترة الانتقالية وحكومتها. وأفضل إجابة لي عليهم هي أن أقف بهم عند سبب هذا التناقض بين ثورة “سوت العجب” وأداء سياسي وحكومي ضعيف في قيادة الفترة الانتقالية. ومرد هذا التناقض عندي ظاهرة وسمت العمل المعارض للإنقاذ لثلاثة عقود سميتها “الهجرة من النقابة إلى الغابة” مستلفاً العبارة من الواثق كمير. فأكبر أخطاء المعارضة المسماة شمالية، زبدة قحت، هي في ترك ما تحسنه إلى ما لا تحسنه. فقد تقاطر ركبها نحو العمل المسلح وبيئاته ومواثيقه التي بلا حصر بعيداً عن المدن والأرياف المتقدمة مستودع جمهورها وخبرتها السياسية التاريخية. فمن لم يحمل السلاح من المعارضين انتظر الخير على ورود المسلحين بالنصر المؤزر على الإنقاذ أو بالانتفاضة المحمية. وتذرعت المعارضة في هذه الهجرة إلى المجهول بفظاظة النظام الذي جعل العمل في النقابات مستحيلاً وبتحديه لهم أن “يطالعوه الخلاء”. وهو تمحل. فلم تولد بعد الديكتاتورية التي ذللت للمعارضين شغلهم. فخرج جيل معارض بلا مران في العمل الجماهيري أو خبرة في ميادينه سوى في ميدان الجامعات ولأوقات معلومة، وشجار عظيم بين أطرافه السياسية، ونهج خطاب سادت فيه أركان النقاش التي هي منلوج مسئم.
وهكذا صار على المعارض الحاكم الآن استدراك ما فاته من شغل بين الجماهير لثلاثة عقود. وتشخيص محنة العمل الحكومي القائمة كما اقترحت أول خطواتنا للاستثمار الحسن في الفترة الانتقالية.
لم أر هجرة المعارضة من النقابة كما رأيتها، وقد ترشحت لرئاسة الجمهورية في 2010، كما رأيتها في غشوة لي لاعتصام العاملين بالبريد والبرق بدار البوستة بالخرطوم. وكان اعتصامهم ضغطاً على الحكومة لتحسن إليهم بعد خصخصة المؤسسة. ولم يحزنني أن لم أجد صدى لذلك الاعتصام في دوائر المعارضة فحسب بل وجدت هزء منه لا يليق. فكتبت الكلمة التالية:
لا أعرف إضراباً يتيماً مثل إضراب مستخدمي هيئة البريد والبرق البالغ عددهم فوق الألف المعلن منذ آخر فبراير 2010 لنيل استحقاهم كاملاً بعد خصخصة الهيئة. فكتاب الرأي عندنا في الصحف في شغل عنه بأكامبو وما أدريك. وانعقد مؤتمران حزبيان قبله وفي أثنائه (الشيوعي والأمة) لم يصدر عنهما حسب متابعتي ما يفيد أنهما اخذا علماً بالإضراب وأنهما يسندانه. فقضية مستخدمي البريد هي شاغل معلوم للمعارضة التي عدت الخصخصة من جرائر الحكومة. ولكن المعارضة بسلبيتها حيال إضراب مستخدمي البريد والبرق بدت مهتمة بترويج الخصخصة كمفسدة محض للإنقاذ ومأكلة لا قضية تستنهض الهمم لمكافحتها، أو التوقي دون شرورها. فلو كان ذلك الاستنهاض هدفاً للمعارضة لوقفت مع مستخدمي البريد وقفة رجل واحد.
وليت الأمر اقتصر على تغاضي المعارضة عن الإضراب. فقد لمست في بعض أدب المعارضة كيداً للإضراب عجيباً. فقد كتبت “الميدان” في 10 مارس عنه كلمة استغربت صدورها من صحيفة أصلها في التضامن مع الحركة النقابية وكسب النصير لها. ومعلوم أن هذا الإضراب بدأ في 28 فبراير الماضي لنيل الاستحقاقات المالية المعروفة المتبعة متى خصخصت الدولة مؤسسة من مؤسساتها مثل هيئة البريد والبرق. وصفت الميدان نقابة البريد والبرق بالفشل في تحقيق أية مكاسب للمستخدمين الذين أٌلغيت وظائفهم بعد خصخصة مؤسستهم. وقالت إن المستخدمين تساءلوا عن جدوى الإضراب بعد امتناع وزير المالية عن التصديق بأي من تلك المستحقات في اجتماعه بالنقابة. وعدت الجريدة ذلك الاجتماع الخائب مع الوزير دليلاً على فشل النقابة. ولم تر الجريدة جدوى في تمديد النقابة للإضراب. وقالت إن العمال تساءلوا عن قيمة إضرابهم وحتاما يستمر. وجاءت الجريدة برأي لمستخدمة حجبت اسمها عن النشر قالت فيه “إلى متى يستمر هذا الإضراب وماهي المكاسب التي تتحدث النقابة عن تحقيقها خاصة وقد دخل الإضراب يومه التاسع.” وأضافت العاملة أن على النقابة أن تعي حقيقة فشلها في تحقيق مطالب المستخدمين، وأنها تلعب في الوقت الضائع. وقالت إن العاملين ما زالوا معلقين بعد استلام خطابات الغاء الوظائف في 28 فبراير لا يدرون هل هم ما زالوا في الخدمة أم أن وظائفهم الغيت حقاً. ومن رأي الجريدة أن النقابة لم تباشر أية خطوات في المحاكم لمناهضة قرار الخصخصة بإلغاء الوظائف الشيء الذي يعتبره القانونيون ضاراً بمصلحة العمال.
لم أصدق أن اقرأ في جريدة الميدان مثل هذا التخذيل لإضراب نقابي ضد أضرار الخصخصة. ولا يقتصر سقمي من كلمة الجريدة (التي تدعو عمال العالم وشعوبه المضطهدة ليتحدوا) على خذلانها لعاملين في أمس الحاجة للتضامن بل هو أشمل من ذلك. فقد سقطت الجريدة من جهتين. سياسياً لما ذكرنا من أنها المفروض ان تكون صحيفة للعاملين. وسقطت مهنياً في تعليق خلا من مقومات المهنة الصحفية في التبليغ والتعليق. فالجريدة لم تستمع إلا للناقدين للنقابة بما في ذلك جهات قانونية تُخطئها لأنها لم تتخذ إجراءات معينة في وقت مناسب. فلم تسع الجريدة للنقابة لتعرف وجهة نظرها في أي من ذلك. فهي لم تحمل تساؤلات العاملة (التي فضلت حجب اسمها عن النشر) الواضحة إلى النقابة طلباً للإجابة. كما أنها لم تساءلها عن قصورها في مقاضاة الحكومة في الوقت المناسب حسب زعم جهات قانونية مبنية على المجهول.
أرخت صحيفة الميدان أذنها لمستخدمين في البريد والبرق يائسين من الإضراب. وهذا كما قلت مستغرب من جريدة كان مؤسسوها من أشاعوا بين الناس أن سلاح الإضراب هو سلاح العمال المجرب لنيل الحقوق. وليس من فقه هذه العقيدة عن الإضراب أن يسأم الناس في جدوى هذا السلاح من بعد اجتماع فشلت النقابة في الحصول منه على حقوق للعاملين. ولم أر سبباً للميدان لتورد بغير تعليق قول العاملة حتاما هذا الإضراب الفاشل. فمن المفروض في فقه الإضراب أن يستمر حتى النصر متى تمت إدارته في شروطه الصحيحة. وعلى رأس تلك الشروط تضامن الميدان بالذات معه سياسياً ومهنياً.
إضراب نقابة مستخدمي البريد والبرق ممارسة ديمقراطية لم تجد نصيراً من المعارضة. وسبب هذا الخذلان هو أن المعارضة لن تصدق وقوع مثل هذه الممارسة طالما لم تضع الإنقاذ تشريعات التحول الديمقراطي. وهذه من آفات سيادة الفكر القانوني على الذهن المعارض للنادي السياسي. فالإضراب في فهم هذا الفكر ليس تحولاً ديمقراطياً ولو طار واستطال. ولن يبدأ التحول الديمقراطي إلا بقانون. ويعمى حامل هذه الفكرة حتى وهو يرى هذا التحول يسعى بيننا في الأرض بمثل إضراب البريد والبرق بدون إذن او تصريح من الإنقاذ. وهذا باب في فضل الممارسة ونفاذها. وكان إضراب مستخدمي البريد والبرق، وما يزال، هو ممارسة للتحول الديمقراطي من تلك التي تسبق القانون الذي يأذن بها. بل هو الممارسة التي تتنزل بمثل هذه القوانين إلى أرض الواقع. فما راح حق وراءه مطالب. فالحقوق تؤخذ غلابا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.