خواطر حول حروب الدولة السودانية وحرب الخامس عشر من أبريل

0 50

محمد حسن التعايشي

إن الرفض المبدئي والحقيقي للحرب، التي اندلعت في الخامس عشر من إبريل، يكمن في إيجاد معالجات نهائية للأسباب الجذرية للصراعات المسلحة في السودان وضمان وقف تدوير الحروب نهائياً، وتحقيق الاستقرار السياسي والسلام المستدام، والوصول إلى صيغة شاملة للمصالحة الوطنية تعالج الظلامات وترد المظالم وتحقق العدالة وتبرئ الجراح.

إن الصراع المسلح والعنف السياسي في السودان ليست ظواهر جديدة، بل هي أحداث متكررة وممتدة منذ ١٨ أغسطس ١٩٥٥، وبلغت أوجها في ١٥ أبريل ٢٠٢٣م.

انفجرت جميع الحروب في بلادنا لأسباب جذرية بيِّنة وواضحة، ما كانت معالجة أسبابها تحتمل التسويف، تتمثل في صراع السلطة والنفوذ، الموارد والهوية وطبيعة الدولة. إن الاعتراف بجذور وأسباب الصراع هو المدخل العملي والصادق لتبني نهج (لا للحرب) حتى لايصبح مجرد شعار نختبئ وراءه من مواجهة الأسئلة الصعبة، أو نتخذه مدخلاً لايجاد حلول فوقية وقتية فشلت تاريخياً في إيقاف الحروب في بلادنا، بل عقدتها وزادت من حدتها ومداها حتى وصلت قلب الخرطوم، التي كنا نظن ولوقت قريب أن ذلك من ضروب الخيال.

موقفي المبدئي هو ضد هذه الحرب وكل الحروب وسيظل كذلك. فالحرب ليست الوسيلة الأصلح لمعالجة المشكل السوداني. ولكن لا أعتقد أن الحريق الذي يشتعل في بلادنا اليوم أو ذلك الذي اشتعل في السابق منذ ما يقارب السبعة عقود هو حريق ناتج عن حروب عبثية كما يتم وصفها، بما يعني أنها ليست ذات أصل في جذور المشكلات في السودان. على العكس من ذلك، أعتقد أن هذه الحرب هي التعبير الأعنف والأكثر بياناً عن الأزمات التاريخية والمعاصرة في السودان، وأوجدت انقساماً سياسياً واجتماعياً غير مسبوق في تاريخ السودان الحديث. وفي الحقيقة، هذه هي الحرب الوحيدة التي كان يتوقعها معظم السودانيين.

١٥ أبريل هي حرب أزمة الدولة السودانية بامتياز، تتداخل فيها قضايا الدولة وكيفية وطريقة بناء مؤسساتها. السودانيون من هم؟ وماهي حقوقهم؟ وعلى أي أساس تقوم الحقوق؟ الحكم والإدارة، وضعية الجيش وكيفية تكوينه؟ الدين والهويات والموارد؟ وهي كذلك الحرب الوحيدة التي حينما اندلعت، لم يسأل أحد السؤال التقليدي غير المبالي، مَن يحارب مَن بل وجد الناس أنفسهم منقسمين حولها منذ ساعتها الأولى. فهي قطعاً ليست حرب عبثية، اللهم إلا إذا كان المقصود بعبثيتها أنه بإمكاننا معالجة تلك القضايا دون الحاجة إلى إراقة أي دماء! ولكن ما الذي يجعل ذلك ممكناً اليوم، بينما لم يكن كذلك خلال السبع عقود الماضية؟! هذا السؤال يستوجب التأمل والتدبر من جميع السودانيين.

لقد التقيت بالفريق أول/ عبدالفتاح البرهان، القائد العام للجيش السوداني، بعد عام من انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م. وفي طريقي إلى بيت الضيافة، كان كل شيء يحدثك عن الحرب! حتى إنني قلت له بعد السلام مباشرةً: (يبدو أن الحرب ستندلع في هذه البلاد في وقت؟)، أجابني لو أن أي ديدبان انفلتت منه طلقة واحدة، سيشتعل الحريق.

كانت عاصمة البلاد تنوم وفي جوفها أكثر من ٥٠ ألف مسلح من ضباط وضباط صف وجنود في كامل إستعدادهم! في الوقت الذي تشكو فيه مناطق كثيرة من مناطق النزاعات من إنعدام الأمن، بل حتى عصابات تسعة طويلة في قلب الخرطوم هددت أمن وسلامة المواطنين! والمدينة بنخبتها العسكرية

والسياسية ومفكريها ومثقفيها يعلمون بأن الحرب آتية بل وإتخذ معظمهم موقعه منها.

وجدت البرهان قد إتخذ قراره بالمضي قدماً في الاتفاق والحل السياسي أو هذا ما بدا لي من كلامه معي. ولكن آخرين من العسكريين المقربين منه إتخذوا قرار مقاومته. ويبدو إنه كان بحاجة إلى مساعدة حقيقية للمواصلة في مشروع التسوية السياسية. كان ذلك محور حديثنا. ثم ختمت اللقاء الذي استمر لمدة ساعة بالقول إنك تستحق المساعدة للمضي قدماً لإكمال ما تبقى من إلتزامات فيما يخص مشروع التسوية السياسية، رغم الملاحظات الأساسية حوله! كنت أعلم أنه بحاجة إلى معجزة لهزيمة كل تلك التيارات في آن واحد؛ تيار العساكر، تيار الإسلاميين، تيار الدولة الشقيقة وتيارات السماسرة والسياسيين الجدد.

قابلت في ذات الأيام دبلوماسياً رفيعاً من دولة عربية شقيقة، قال لي بثقة الحجاج بن يوسف، “لن نسمح بأن يكون الدعم السريع خارج الجيش السوداني لأكثر من ستة أشهر قادمة!” ثم زاد “ولا يمكننا تصور حكومة مدنية من غير الاسلاميين، لأننا نعتقد انهم إنتهازيون أكثر من كونهم إخوان مسلمين!” قلت له “إن كل شيء قد تغيَّر في هذه البلاد، والنخبة السياسية والفنية والمثقفين والأكاديميين، الذين لا يتخيلون حكومة أو حتى إبداع في بلادنا من دونكم ما عادوا منهم في المدينة إلا القليل، وكل تلك المسلَّمات التي بنيتم عليها مواقفكم هذه في طريقها إلى الزوال، وإن أراد أشقاؤنا أن تكون لهم علاقة جيدة في مستقبل بلادنا، فذلك يستوجب منهم تغيير تصوراتهم. أنا سياسي سوداني وصلت إلى رأس الدولة، وزرت معظم بلاد الدنيا ولا يوجد في جواز سفرى تأشيرة واحدة إلى بلادكم. في الحقيقة أنا أحبكم وأحترم سيادتكم وشعبنا كذلك وينبغي أن تبادلونا ذات الاحترام. أرجو أن تأتي الفرصة المناسبة لزيارة بلادكم.”

لقد شاركت بعض الزملاء تفاصيل الاجتماع، الذي تم مع قائد الجيش، وما خرجنا به من تحليل هو أن البرهان لن يستطيع السير في طريق التسوية السياسية دون الذين يعارضون الحل السياسي من العسكريين؛ فإما أن يقنعهم، أو سيقومون بتغييره أو يذهب معهم في خيار الحرب، فكانت حرب ١٥

أبريل ٢٠٢٣م.

إن التغيير هو ليس فقط أن تقوم بتغيير الأشخاص السيئين بآخرين صالحين. التغيير الحقيقي هو تغيير الأشرار ليصبحوا أخياراً. فبغ َّض النظر عن تاريخ الفريق أول/ البرهان، بما في ذلك انقلابه على الانتقال الديمقراطي، إلا أنه أتيحت له فرصة أن يغير مجرى تاريخ السودان فيما عجز عنه قادة عسكريين ومدنيين سابقين، وقد قلت له في ذلك أن أسوأ ما قمت به هو أنك أجريت إنقلاباً عبثياً، لا أنت ولا البلاد بحاجة إليه ووضعت نفسك في مأزق لا أنت ولا البلاد في حاجة إليه، ثم وجدت نفسك في موقف يتمناه أي مذنب ليكِّفر عن تاريخه، عليك أن تفعلها هذه المرة. لقدأعجب بما قلت ورأيت الحماس في تقاسيم

وجهه. لا أدري ما أصابه بعد ذلك، لكن المؤكد أنه فشل في إقناع من حوله، ولم يفضل خيار التضحية وذهب مع خيار الحرب مكرهاً ممن هم حوله لا بطلاً.

إن قوات الدعم السريع لا تمثل فقط منظمة عسكرية. بل هي كتلة اجتماعية واقتصادية وثقافية، تشكلت خارج حواضن الدولة الموروثة، وهي ضمن مجموعات كثيرة مشابهة في مناطق السودان المختلفة تمثل أحد نتائج سياسات التهميش والاستبعاد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، مثله مثل التيارات الشبابية والاجتماعية والسياسية، التي ظلت تتشكل خارج الحواضن التقليدية منذ بواكير الاستقلال، ولم تجد مكانها في حواضن الدولة، رغم المحاولات الكثيرة لاحتوائها أو محاولات تلك الجماعات والتكوينات التماهي مع الموروث. فالدولة السودانية ما بعد الاستعمار مصممة على الاحتواء. احتواء المقاومة، المظالم، والالتزامات. وليست مصممة على تقبل دمج تلك الكيانات كقوى أصيلة، لذلك نجد أن كل زيجات المتعة قد انتهت إلى طلاق وعنف مسلح.

لم تنجح سياسات التخوين والابتزاز (متمردين أو أجانب) أو الترهيب (أكتل أمسح ما تجيبوا حي) أو الاحتواء والمماهاة مثل ما تم مع الدعم السريع وقوى أخرى كثيرة منذ الستينيات، منها (مجموعات من الشرق، والنيل الأزرق، وجبال النوبة، وتجربة لجان المقاومة مع الحرية والتغيير وكثير من القوي

النوعية في السودان تشترك في كونها جميعها حمل خارج رحم الدولة). مثل هذه القضايا الجوهرية تعالجها سياسات جذرية جريئة تقود إلى بناء جمهورية ثانية بديلة للجمهورية الشائهة الموروثة منذ العام ١٩٥٦م، تقوم على شراكات أصيلة، لا على الوكالة.

في الإنجيل يحكى أن رجلاً يسمى (Paul) وهو في الأصل إسمه (Saul)، يهودي ورع كان يقوم بأعمال اضطهاد المسيحيين وهو من شهد حادثة رجم (Stephen) الذي يعد أول مسيحي يقتل رجماً. وفي طريقة إلى دمشق لمواصلة أعماله الوحشية من قتل وحرق الكنائس، جاءه إلهام غيَّر حياته، تحول إلى مصلح مسيحي وقضي بقية عمره يدعو للتسامح ويبني الكنائس. حتى أصبحت قصتة جز ًء من العهد

الجديد.

في تاريخ ورحلة الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل الدكتور/ جون قرنق كثير من قصص التغيير الملهمة. معظم قيادات ثورة التغيير كانوا مقاتلين في صفوف الجيش السوداني واستخباراته العسكرية، وكانوا يقاتلون المواطنيين الجنوبيين وقادة التحرير. القائد/ توماس سريلو سواكا، كان قائداً في حامية جوبا، حين (تمرد) كما في القاموس العسكري. لقد عبر مطار جوبا نهاراً إلى الغابة، قابله شعبه بالبشائر والترحاب، وكان القائد قرنق يعتبر ذلك أكبر فتح للتحرير. فأصبح بالفعل من أعظم قادة التغيير في جنوب السودان. تبعه في ذلك الجنرال الشهير/ أوغستينو جاد الله، الذي أصبح أول حاكم لجوبا بعد الاستقلال، بل أن الرئيس سلفاكير وحتى جون قرنق زعيما الثورة كانا ضباطاً في الجيش السوداني قبيل تمردهما على الظلم والتهميش أو محاولات الاحتواء. فالانسان لا يولد مصلحاً وليس بالضرورة ان يقود التغيير ملائكة، بل أن الله إختار الرسل من بين البشر جاؤوا بأخطائهم وقابليتهم

للخطأ ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.

لقد خلفت حرب الخرطوم خراباً كبيراً، ليس في الأرواح والممتلكات فحسب، وإنما في النفوس كذلك (الكراهية والانقسام). فقد أخرجت هذه الحرب كل المسكوت عنه و أوضحت تماماً من نحن كسودانيين، شخصياً، تعرفت على الشخصية السودانية كما هي في هذه الحرب. تسعة طويلة ليس فقط أولائك الذين ينهبون المارة والمنازل في أوقات السلم. سماسرة الحروب هم التسعة الأطول على الاطلاق.

أمام مصانع جياد، شاهدت المئات من فقراء المدن يعرضون البضائع المسروقة، مثلما شاهدت مئات آخرين، يشترون هذه البضائع بنهم عجيب، الكل يدعي أنه بريء وضحية، والكل يدعى أنه بطل. ولكن الحقيقة غير ذلك. حتى المثقفين والأدباء والأكاديميين كشفت هذه الحرب عن عوراتهم. في الحقيقة لقد منحتنا هذه الحرب، رغم مأساتها، فرصة للتعرف على ذواتنا أكثر، وفرصة لبناء سودان على أسس صحيحة.

لقد عايشت تجربة الحرب هذه في مدينة الخرطوم شرق لمدة ٥٤ يوماً، شاهدت خلالها كل مآسي وتجاوزات الحروب؛ دخول المنازل واستغلال سيارات المواطنين، ونهب البنوك والمصانع، والرعب في الطرقات ونقاط التفتيش. وجدت الذين يستغلون القوة والنفوذ لقهر المواطنين، وأولائك الذين يرسلون رسائل التطمين للسكان. تحدث معي من المعارف والأصدقاء من أثق فيهم بأن أفراد من الدعم السريع استولوا على منازلهم أو سياراتهم. لقد رأينا جيراننا أشلاء بعد قصف منزلهم بسلاح طيران أرعن، ومقذوفات ثقيلة تنطلق من قواعد عسكرية لتستقر في جوف منزل آمن. لقد شاهدنا ما كان يحدثنا عنه

الفارين من جحيم الحروب من مناطق السودان المنكوبة.

لقد أظهرت الحرب الغبن الطبقي المكبوت في البنايات تحت التشييد، ودخان المصانع ومساكن الصفيح. معظم الذين نهبوا المصانع والمحال التجارية هم عمال تلك الشركات والمصانع. نساء وأطفال وشباب خارج العمل وخارج النظام التعليمي وخارج نظام الدولة، وفئات أخرى لم يكن التنميط السائد يشملهم للقيام بمثل هذه الأمور.

الذي حدث في حرب أبريل وفي الخرطوم تحديداً كشفته تقنية الاتصالات التي ما عاد معها جريمة ترتكب تحت الظلام. ما جعلنا نتخيل تماماً ما جرى في أطراف السودان منذ سبعة عقود وهو قطعاً أكثر وحشية. كان ذلك ولا يزال يمثل حريق السافانا الذي قضى على كل شيء؛ سحق التعايش الاجتماعي الممتد لسنين طويلة نتيجة لضخ خطاب الكراهية والانقسام، وحريق الموارد بما فيها الطبيعية، وملايين من القتلى المدنيين، وملايين من النازحين واللاجئين، وآلاف من حالات الاغتصاب، والنهب والحرق، والتهجير القسري، والرق والسبي. حدث ذلك لأكثر من سبعة عقود متواصلة، قبل أن يخلق الله في هذه الأرض تسعة طويلة أو الدعامة. من فعل ذلك هو الأب الشرعي للعنف، والإبادة، والتهجير، والاغتصابات، والتصفيات بحق المواطنين المدنيين والانقلابات العسكرية، ذلك ما أصلطح عليه بقوات

الشعب المسلحة وهي بكل تأكيد ليست كذلك.

في مدينة مثل جوبا قام الجيش السوداني بطرد المواطنين من حي معروف وسط المدينة وأحاله إلى سكن عسكري أسماه حي المدرعات. أقام فيه طوال سنين الحرب، حول خلالها المدارس والمستشفيات بل حتى جامعة جوبا العريقة إلى ثكنة عسكرية لما يزيد عن عشرة أعوام. إن القاسم المشترك الوحيد

بين كل هذه الحروب هو معاناة البشر وضيق فرص العيش معاً. وحرب اليوم رغم قساوتها، هي فرصة لإنهاء العذابات إلى الأبد.

آخر المحاولات لإعادة إنتاج السودان القديم وقطع الطريق أمام بناء سودان على أسس جديدة، هو ما أقدم عليه تحالف القوات المسلحة، والحركة الاسلامية وحواضنهما الاجتماعية والرأسمالية والإقليمية، وهو إشعال الحرب. لخص ذلك المشروع كل من اللواء معاش/ أنس عمر القيادي الإسلامي المعروف، قبل اعتقاله عندما وعد بالانتقام، مثلما لخص ذلك الفريق معاش/ فتح الرحمن محي الدين قائد سلاح الطيران السابق في مقابلة تلفزيونية شهيرة أثناء الحرب حين قال (لا يمكن أن تنتهي هذه الحرب ونعود مرة أخري لهؤلاء الشرذمة من قوي الحرية والتغيير وقوات الدعم السريع حتى لو أدى ذلك إلى حرق السودان كله). تلك تجربة لم تنجح ولن تنجح بل وفرت فرص للتغيير الجذري أكثر من أي وقت مضي.

لم تفلح كل محاولات السلطة المركزية ومؤسساتها الراسخة مثل الجيش في ترويض قوات الدعم السريع مثلما فعلت من قبل مع قوى أخرى. إن إعلان الجنرال حميدتي وإعترافه بخطأ انقلاب ٢٥ أكتوبر وإعتذاره عنه وعن عنف الدولة تجاه المجتمعات منذ الاستقلال لم يقطع الطريق أمام الجيش وحلفاءه فحسب، بل قطع الطريق أمام أي محاولة أخرى لاعادة إنتاج دكتاتورية جديدة. بذات القدر ليس بمقدور القوى التي تخلقت خارج مؤسسات الدولة التقليدية، مثل الدعم السريع، أن تستبدل استبداداً باستبداد آخر، ليس لأن قائده أكد ذلك مراراً، بل لأن قوى الثورة مضافاً إليها حواضن ومؤسسات السودان القديم لن تسمح بذلك.

يجب إستثمار هذا الموقف المتصدي لقوى الردة والفلول بالدفع تجاه بناء جمهورية جديدة في بلاد السودان. فالحروب مثلما خلفت آثاراً كارثية على الشعوب، هي كذلك مثلت في الكثير من تجارب المجتمعات نقطة تحول أساسية في التطور والتنمية والاستقرار السياسي. تجربة رواندا الجديدة خير شاهد على ذلك. إن الرفض الحقيقي للحرب يكمن في إجتراح أجوبة حقيقية لمعالجة جذور النزاعات

المسلحة وعدم الاستقرار السياسي.

يواجه السودانيين اليوم سؤال البقاء، وهو سؤال بسيط وصعب في آن واحد: هل نحن مستعدون لبناء جمهورية جديدة بديلة لتلك التي ورثناها من الاستعمار؟ جمهورية قادرة على التعبير عن الجميع، نضع فيها حداً للعنف السياسي والاجتماعي وتقوم فيها الحقوق على أسس متينة من العدالة والمساواة، نحقق فيها العدالة، التي تشفي وتبرئ الجراح. فالحروب مهما تطاول أمدها وتكاثرت نتائجها الكارثية ستنتهي حتماً. ولكن لأي إتجاه وبأي ثمن؟

ستنتهي هذه الحرب بواحدة من سيناريوين: إما انتصار طرف وإعلان خريطة طريق تبين كيفية مشاركته جميع السودانيين في عملية حوار جاد حول قضايا تأسيسية جديدة، أو اتفاق الطرفين على وقف إطلاق نار شامل ودائم مشروط بالاتفاق على أجندة الحوار التي تفضي إلى بناء الجمهورية الثانية.

إذا ما قدر لهذه البلاد إن تصل إلى ذلك، فان القضايا التي يجب أن يشملها الحل السياسي الشامل هي:

١. إعادة هيكلة وبناء جيش واحد قومي ومهني لا يتدخل في السياسة، متفق على مهامه وعقيدته القتالية بنصوص بينة في الدستور.

٢. إقامة نظام فدرالي غير تماثلي تتفاوت فية السلطات التي تتمتع بها الوحدات المكونة للاتحاد الفدرالي، و تعزز فيه سلطات فعلية للمستويات المحلية، ثم بناء مؤسسات أفقية ورأسية تعمل على تقسيم الموارد والثروات والإيرادات وتخصيصها وفق معايير التعداد السكاني و معايير أخرى وموضوعية.

٣. إعادة بناء مؤسسات الدولة القومية المهنية ومعالجة الاختلالات فيها وإزالة كافة أشكال التمكين الحزبي أو الجهوي الاجتماعي في داخلها.

٤. قضية الفصل بين الدولة والانتماءات الهوياتية الضيقة، الدينية، الثقافية، العرقية ومعالجة قضايا اللغات السودانية.

٥. العدالة الانتقالية: هذه الحرب وحروب السودان المختلفة خلفت أوضاع ومظالم وتجاوزات لا يمكن معالجتها إلا بتبني مشروع وطني قومي للعدالة الانتقالية يرد المظالم ويشفي الجراح ويفتح فضاء وأفق جديدة للمساكنة بين شعوب السودان المختلفة.

٦. النظام الديمقراطي الذي يربط أي شرعية سياسية بالشرعية الانتخابية، وفق نظام متفق عليه يحدد فصل السلطات بوضوح، ويفرض نظام انتخابي عادل يقوم على تعداد سكاني شامل وشفاف.

٧. قضية العنصرية وخطابات الكراهية: السودان بلد متنوع، بل شديد التنوع، لابد من الاتفاق على قوانين صارمة وأسس وضوابط تشكل قواعد حاكمة وملزمة في كل مؤسسات الدولة لاسيما التعليم، الخدمة المدنية العامة، الاتصالات والاعلام.

٨. مؤسسات الانتقال وكيفية المشاركة فيها أثناء الفترة الانتقالية.

٩. ضرورة إشراك أكبر قاعدة سياسية واجتماعية ممكنة من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأصحاب المصلحة والمرأة من كافة مناطق السودان في جميع مراحل عمليات الحل السياسي الشامل.

وأخيراً، في حالة السيناريو الثاني، فإن المجهود الكبير الذي تقوم به المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة في جدة من جهة، والرباعية من جهة أخرى، يستوجب أن يتكامل مع الدور المهم للايغاد والاتحاد الأفريقي لإدارة مبادرة تحظى بالتأييد الإقليمي والدولي.

وختاماً، لم يختار السودانيون هذه الحرب، ولا أياً من الحروب التي شهدتها بلادنا عبر تاريخنا الحديث، ولكن دفع الشعب السوداني ثمنها غالياً. إن الوقوف الفعلي ضد هذه الحرب، يقتضي المضي قدماً في مشروع وخارطة طريق وطنية تجيب على سؤال: لماذا الحروب ظاهرة ممتدة ومتكررة في بلادنا؟

وكيف يمكننا تحويل مأساتها إلى فرصة لايجاد سودان السلام والعدالة والحرية الذي يسع الجميع. هذا هو المعنى الحقيقي لموقف (لا للحرب).

٢٠ يونيو ٢٠٢٣

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.