شرق السودان.. اشتدّي أزمة تنفرجي

0 107

كتب: حامد الناظر 

.

إن طرح سؤال بديهي وبسيط قد يساعدنا في فهم خلفيات التصعيد الأخير لما يعرف بـ (المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة) في شرق السودان. والسؤال هو: كيف تسنى لهذا المجلس إغلاق كل هذه الموانئ والطرق الرئيسية بهذه السهولة في ولاية تعج بعدد هائل من التشكيلات الأمنية والعسكرية؟ وفي بلد تستطيع سلطاته الأمنية إغلاق جميع الطرق المؤدية إلى أي مؤسسة حساسة في البلاد في غضون دقائق قليلة عند شعورها بخطر اقتراب الجماهير، أو حتى لمجرد توقع ذلك الخطر وإن لم يكن معلنًا؟

لقد أعلن المجلس الأعلى عزمه إغلاق شرق السودان قبل أسبوع على الأقل من الموعد الفعلي لذلك الإغلاق، وبدا واثقًا من تحقيق هذا العزم ثقة لا تخالطها ذرة شك، وذلك بدوره يثير سؤالًا آخر متعلقًا بالأول: لماذا لم تتحرك اللجنة الأمنية في ولاية البحر الأحمر مثلًا بأية إجراءات وقائية أو استباقية لحماية الموانئ والمنشآت الحساسة من خطر الإغلاق ذي التداعيات الخطيرة على الأمن والاقتصاد كما نرى اليوم؟

وقبل أن نحاول الإجابة على أي من تلك التساؤلات يبدو من المهم العودة إلى تصريحات قادة هذا المجلس خلال الأسابيع التي سبقت الخطوات التصعيدية الأخيرة في شرق السودان لأنها قد تساعدنا في توليد الأجوبة وكذلك المزيد من الأسئلة المهمة، فقد طالبوا في أكثر من مناسبة بحل الحكومة المدنية، وإلغاء العمل بالوثيقة الدستورية، وإلغاء مسار شرق السودان في اتفاقية سلام جوبا، وحل لجنة إزالة التمكين، وتشكيل مجلس عسكري لإدارة البلاد لحين إجراء انتخابات. وفيما عدا المطلب المتعلق بإلغاء مسار شرق السودان فإن المطالب الأخرى تبدو كما لو أنها موجهة إلى الشق المدني في السلطة الإنتقالية ولا تتعداه إلى غيره، ما يعني بالضرورة تناقضها مع المزاج الثوري العام في السودان وتماهيها إلى حد كبير مع مطالب أنصار النظام المباد وتطلعات الشق العسكري في السلطة الانتقالية.

كذلك، فإن مهندس المسارات في اتفاقية جوبا للسلام بما فيها مسار شرق السودان هو السيد محمد حمدان دقلو حميدتي، نائب الرئيس البرهان في مجلس السيادة، وهو الذي فرضها على الوساطة وعلى المتفاوضين وعلى الحكومة المدنية وشمل قادة تلك المسارات بحمايته ورعايته أملًا في تشكيل تحالف عريض يدخره لأية مفاجآت محتملة وتلك قصة أخرى، وعوض أن يوجه المجلس الأعلى انتقاداته أو مطالبه بخصوص مسار شرق السودان إلى (الفيل) الشق العسكري في السلطة الإنتقالية يمم بها نحو الشطر المدني في غالب تصريحاته ومواقفه، حتى بدا لكثيرين أنه أحد أدوات المجموعة العسكرية الساعية إلى تقويض الفترة الانتقالية والانقلاب عليها.

على كل حال، كان بوسع اللجنة الأمنية في ولاية البحر الأحمر أن تجنب البلاد ما وصلت إليه اليوم لو أنها خفت إلى حماية المطار والموانئ على الأقل، وقد كان لديها فائض كبير في الوقت قبل أن يتوجه أنصار المجلس الأعلى نحو بواباتها لكنها لم تفعل، كما أن أيا من ممثلي الأجهزة الأمنية سواء في الولاية أو العاصمة لم يندد بإغلاق الموانئ والمطار والطريق القومي على نحو صريح، أو يطالب -على الأقل- بإعادة فتحها من أجل انسياب السلع الضرورية والأدوية إلى بقية أجزاء البلاد، ولم يفتح الله على أي منهم بقول حكيم أو عمل نافع، بل ذهب رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان إلى القول “إن قضية الشرق قضية سياسية وليست أمنية وعلى مجلس الوزراء يقع عبء وضع حلول لها”، وتؤكد الوقائع أن الحكومة المدنية سعت إلى الحوار مع المجلس الأعلى في جولات عدة، سواء في الخرطوم أو سنكات أو بورتسودان فيما لم تتحرك المجموعة العسكرية إلا حين أغلق المحتجون أنابيب صادر ووارد النفط واحتجت حكومة جنوب السودان فطار عضو مجلس السيادة الفريق شمس الدين الكباشي إلى بورتسودان على رأس وفد حكومي قدم الوعود وقفل عائدًا بالغنيمة في غضون سويعات قليلة. هذا يعني بلا أية مواربة أو تزويق، أن الشق العسكري مرتاح لهذه الاجراءات على الأقل، إن لم يكن يدعمها أو يقف وراءها.

وإن كان مسار شرق السودان هو جوهر الأزمة القائمة، فإن المقاربات التي طرحها المجلس الأعلى بقيادة الناظر سيد محمد محمد الأمين ترك لحلها اتسمت حتى الآن بالتناقضات والنفس العنصري الصارخ، وتسبب ذلك -ضمن أسباب أخرى- في شروخ وانقسامات عمودية وأفقية في مجتمع شرق السودان وأدى إلى زيادة الاستقطاب القبلي إذا ما أخذنا في الاعتبار أيضًا ردات الفعل التي أبدتها الحاضنة الاجتماعية لمؤيدي المسار، وبات الأفق مسدودًا أمام أية حلول، على الأقل في المرحلة الحالية.

فمن جهة، علل المجلس الأعلى ومؤيدوه رفضهم للمسار من (الناحية السياسية) بأن شرق السودان لم يكن يشهد حربًا حتى تفرد له الحكومة مائدة خاصة للمفاوضات ومسارًا للسلام، وأن قادة هذا المسار مزيفون ومصنوعون ولا يملكون تأثيرًا، لكن المجلس الذي -طالب بإلغاء المسار- عاد وطلب من الحكومة تخصيص منبر منفصل للتفاوض معه! فإذا كانت الحاجة إلى (التفاوض) غير مبررة أصلاً وفقًا للحالة الأولى فما الذي يجعلها مبررة في الحالة الثانية؟ وما الذي يجعل أمر التفاوض لا يتسع أبدًا إلا لطرف واحد فقط؟ ولو أن الرافضين صدّروا رفضًا مؤسسًا على علل سياسية مثل تواضع قدرات قادة المسار أو فقر تاريخهم النضالي أو إلى ما هنالك مما يقال في مثل هذه الحالات لربما وجدوا قاعدة مشتركة لرفضهم هذا حتى داخل قبائل البني عامر والحباب والجميلاب والبوادرة وغيرها من القبائل المحسوبة على المسار اليوم، ولربما تأسست على ذلك صيغ أوسع للتداول حول مستقبل الإقليم مع جميع المكونات الشرقاوية وجنبتها هذا الانقسام المقيت، لكن الأمر -كما بدا ويبدو- يشي بأن المجلس يرغب في احتكار تمثيل شرق السودان حصرًا، أو على الأقل تمثيل الشعب البجاوي رغم أنه لا يتوفر إلا على ناظرين فقط من أصل سبع نظارات بجاوية كبرى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.