يُعتبر “فليكس دارفور” أحد الشخصيَّات المحوريَّة في الحراك الإفريقاني بشكلٍ عامّ، وقد مثَّلت أفكاره الجذور التاريخيَّة لتشكّل الإفريقانيَّة الحركيَّة (البان افريكانيزم) لاحقًا. ذلك بالرغم من قلَّة التوثيق حول دوره الفاعل في الدفاع عن قضايا الأفارقة بوجه عامّ، وعدم تناول ما قام به في هاييتي عقب نجاح ثورتها بوجهٍ خاصّ.
وقد عُرِفَ “فليكس دارفور” بشكل كبير من خلال ما أورده عنه الكاتب الفرنسي روبير كورنيفان في كتابه “أدب إفريقيا السوداء” المكتوب باللغة الفرنسية أو الأدب الإفريقي الفرانكفوني، الذي قال فيه: “إن الأدب الإفريقي المكتوب باللغة الفرنسية لم يظهر لأول مرة في كتابات روّاد مدرسة الزنوجة فيما بعد الحرب العالمية الثانية من أمثال (إيمي سيزار) و(ليبولد سيدار سنغور) كما كان يعتقد الكثيرون. ومِن ثَمَّ يضيف “أنه من الناحية التاريخية فإن أول أديب إفريقي، مولود داخل إفريقيا، كتب أدبًا باللغة الفرنسية هو سوداني يدعى (فليكس دارفور).
وبالتالي فإن “فليكس دارفور” يُعتبر بذلك أو أديب فرانكفوني من الناحية التاريخية وأول رائد من روّاد حركة الزنوجة (negritude) الدائرة في فلك الإفريقانية، أي بوصفها إحدى تياراتها”. (انظر: عبد الهادي الصديق، السودان والإفريقانية).
مِن أين أخذ اسمه؟
أخذ “فليكس دارفور” الشق الأول من اسمه من فرنسا، باعتبار أن اسم “فليكس” كان شائعًا وقتها في فرنسا، ويُعتقد أنه اكتسب الاسم من خلال الضابط الفرنسي (Ardouin) الذي تبنَّاه. أما الشق الثاني (دارفور)، فإنه يعود إلى مسقط رأسه؛ إذ إنه ينحدر من إقليم دارفور، وقد تم أخذه منها إلى فرنسا. ويعتقد البعض أن إطلاق اسم فليكس دارفور عليه كان من عمل الفرنسيين. فلقد كانت ممارسات الاستعمار الثقافي الفرنسي -وفي إطار سياسة الاستيعاب (assimilation)- تقوم بتجريد المواطن من اسمه الأصلي المرتبط بالأديان والثقافات المحلية.
تعليمه:
بعد تحرُّره، تلقَّى “فليكس دارفور” تعليمًا فرنسيًّا، واكتسب كل معارفه باللغة الفرنسية، وهو الشيء الذي جعل كل إنتاجه المعرفي باللغة الفرنسية. وانهمك “فليكس دارفور” في البحث عن المعرفة بدلاً من البحث عن أصوله التي انقطع عنها انقطاعًا تامًّا.
وأثناء دراسته في فرنسا تفجَّرت مواهبه المتعدّدة في المجالات العلمية والصحفية والأدبية، كما ظهرت اهتماماته الفكرية والسياسيَّة؛ حيث أبدى اهتمامًا مبكرًا بقضية الإنسان الأسود في إفريقيا والعالم.
وقد تأثر “فليكس دارفور” تأثرًا مباشرًا بتيارات التغيير الفكري والدستوري والسياسي التي هبَّت مع رياح الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وشعاراتها التي تنادي بالحرية والمساواة والإخاء بين أبناء الجنس البشري، رغم اختلاف العِرْق واللون.
ووسط أجواء الحريات بما فيها حرية التعبير تفتَّقت مواهب “فليكس دارفور” ككاتب وكصحفي اعترف به كبار أدباء وكُتّاب فرنسا آنذاك وذاع صِيته وأصبح من كبار المثقفين السود المدافعين عن قضايا الأفارقة في الشتات والمستعمرات. وهو الأمر الذي شجَّعه لاحقًا على مغادرة فرنسا والذهاب إلى “هاييتي” التي كانت تمثل قِبْلَة للأفارقة المدافعين أو الباحثين عن الحرية.
حياته السياسيَّة في هاييتي:
تزامن استقلال جمهورية هاييتي، التي برزت إلى الوجود كأول دولة سوداء تنال حريتها، مع فترة نشاط “فليكس دارفور” وتفاعله مع قضايا الأفارقة في أوروبا والأمريكتين. وعليه قرَّر الهجرة إليها من فرنسا في 1818م؛ “ليساهم مِن داخلها في مَهمَّة استكمال تحرير الإنسان الأسود في سائر أنحاء العالم. وقد اختار “فليكس دارفور” الذهاب إلى هاييتي؛ لكونها أيضًا أول منطقة في الدنيا الجديدة قام البرتغاليون بنقل الزنوج إليها من الشواطئ الإفريقية عام 1505م”.
وهناك اكتسب الجنسية الهاييتية وفق المادة (44) من الدستور الذي يقضي بمنح الجنسية لكل إفريقي قضى في البلاد أكثر من عام. ومِن ثَمَّ انخرط في عمل صحفي ونقابي دؤوب؛ حيث تولَّى إصدار صحيفة (المستنير الهاييتي)، وعمل فيها على الوقوف ضدّ سياسات مَن تبقَّى من المُلَّاك البيض؛ إذ “كان خط الصحيفة مناوئًا شرسًا لسياسات مُلَّاك الأراضي من البيض والملونين، إضافة إلى محاربة الاستغلال السياسي والاقتصادي التي يمارسها البيض والملونون الذين يسيطرون على البرلمان”.
شراسته النضالية وإعدامه:
كانت شراسة “فليكس دارفور” النقابية والسياسية ودفاعه المستميت عن حقوق الأفارقة، وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية سببًا مباشرًا في اكتسابه لعداوة مُلَّاك الأراضي البيض والملونين في هاييتي. وبالتالي لم يكن مستغربًا ملاقاته لأقسى عقوبة بعد الانقلاب العسكري الذي وقع في هاييتي، والذي وقف ضده “فليكس دارفور” بقوة وندَّد به. فأُعْدِمَ مباشرةً بعد نجاح الانقلاب العسكري رميًا بالرصاص في 1822م.
الملاحظ في الأمر، هو حجم التأثير الذي أحدَثه “فليكس دارفور” في جمهورية هاييتي، ذلك بالرغم من قِصَر المدة التي عاشاها هناك؛ إذ إنها لم تتجاوز الأربع سنوات. لكنَّها كانت مليئة بالمواقف السياسية والاجتماعية له، فعَبْر كتاباته وأفكاره، ظل “دارفور” ينقد باستمرار الأوضاع التي يعايشها السود في مناطق سكنهم، متَّهمًا البرلمان الهاييتي الذي كان يسيطر عليه البيض والمولاتو (الملونين) بتهميش المجتمعات السوداء.
لماذا يُعتبر “فليكس دارفور” رائدًا للإفريقانية؟
بهجرته إلى هاييتي، ودفاعه عن السود فيها؛ لم يكن “فليكس دارفور” يدافع عن ذلك العدد المحدود من الأفارقة؛ إذ كان يعتقد أن الدفاع عن استقلال هاييتي وحريتها وقوة الأفارقة فيها أمرٌ مُهِمّ؛ لما يمثله استقلال هاييتي من دلالة ورمزية على إرادة تحرُّر المجتمعات السوداء والأفارقة عمومًا، وكان يرى أنها إحدى مكتسبات نضال المجتمعات السوداء.
لذا وبجانب دفاعه عن أوضاع السود في هاييتي على وجه الخصوص، فقد اهتم أيضًا بنقد الأيديولوجيات العنصرية التي تَحُطّ من شأن الإنسان الأسود والمجتمعات الإفريقية بشكلٍ عامّ، مثل مبدأ تفوُّق الرجل الأبيض وغيرها من المبادئ العنصرية.
ويجيء تصنيفه كرائد للإفريقانية من حقيقة كونه من أوائل المثقفين الأفارقة في الشتات الذين نظروا إلى قضية الأفارقة ككل واحد، وبلوروها في كتاباتهم وطرحهم. بل وظل على مبدأ الدفاع عن قضاياهم حتى كلَّفه الأمر حياته. وهي نفسها المبادئ التي جاءت بها الإفريقانية الحركية (البان افريكانيزم)؛ أي: بعد أن تحوَّلت إلى حركة لها منسوبيها وأفكارها. وقد سبقت أفكار “فليكس دارفور” الإفريقانية الحركية بزمن طويل، (ما يقارب المائة عام)، لذلك يمكن تصنيفه رائدًا للأفروعمومية أكثر من غيره.