ماذا حلّ بتلك “المصفوفة”؟!

0 93

هل هناك من لا يزال يذكر تلك “المصفوفة” التي أعلنت بصورة درامية قبل سبعة أسابيع في الذكرى الأولى للإطاحة بالنظام السابق، حين أطل في وقت متأخر من تلك الليلة ثلاثة ممثلين لترويكا الانتقال، عسكري ومدنيان يمثلان الحكومة وقوى الحرية والتغيير، ليزفوا بشرى اتفاقهم على تجاوز الخلافات بينها، والتوافق التام لتنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية وإكمال مؤسساتها وفق مواقيت وجداول زمنية محددة، وقيل حينها إنها نتاج مراجعة شاملة أجرتها أطراف ترويكا الانتقال، ويفترض أنها خلصت إلى معالجة جذور اضطراب الأداء في الأشهر الماضية وتشمل قضايا الشراكة، السلام، الاقتصاد، الإصلاح الأمني والعسكري، العدالة، التفكيك.
(2)
ربما لم يأبه كثيرون أو يأخذوا بجدية تلك الوعود المتكررة التي طالما خُرقت مراراً حتى قبل أن يجف المداد التي كتبت به، فقد صدر آخر إعلان صحافي من الآلية الثلاثية المشتركة لمتابعة تنفيذ المصفوفة عن مجريات عملها في الرابع من مايو الماضي قبل أن تختفي، ولم يعد أحد يعلم إن كان لا تزال حية فترجى، أو شبعت موتاً فتقبر، ثم خرج بيان صحافي باسم اللجنة الإعلامية الفرعية منتصف مايو عن إيقاف التراشق الإعلامي بين أطراف الشراكة لم يصمد لساعات.
(3)
لم يتحقق شيء من وعود تلك المصفوفة فحسب، بل انكفأ الوضع إلى ما هو أسوأ في ظل تحديات منذرة بالغة الخطورة على مستقبل الاستقرار في السودان، وبدلاً من أن تلتئم النخبة الحاكمة وتتجاوز صراعاتها العبثية، زادت الطين بلة، وبعد أن كان الشقاق محصوراً إلى حد ما، اتسع الخرق على الراتق، فانقلب الجميع ضد الجميع، كان الظن أنها لعبة عسكر ضد مدنيين، فاختلط الحابل بالنابل، وقد باتت الخلافات تعصف بالجميع بلا استثناء داخل المكون الواحد، وفيما بينها، مما يعد لم سراً أو يمكن إخفاؤه، أو تقديم تبريرات فطيرة تحاول عبثاً نفي حدوثه، وهي في واقع الأمر تؤكد المدى الذي وصلت إليه من تفكك، ليس بالتصريحات المتناقضة كثيرة الشكوى في لعبة تلاوم بلا سقف، ولا البيانات المنمقة، بل بلسان الحال الذي لا يكذب، ومؤشرات الوصول إلى نقطة اللا-عودة أقرب مما يتوقعه كثيرون سواء داخل المكون المدني نفسه، أم ذلك العسكري، ونذر تقسيم المقسم أكثر من أن تحصى.
(4)
لنعد لتلك “المصفوفة” التي جرى تسويقها وكأنها تقدم الحل السحري لكل تلك الإخفاقات، مما لا تحتاج لإقامة دليل أو حجة عليها والواقع المعاش على الصعد كافة أبلغ من أي توصيف، التي رافقت الأشهر العشرة الماضية، منذ أن تم إبرام الاتفاق السياسي، ثم الوثيقة الدستورية، وأتبعها التشكيل المنقوص لهياكل الحكم الانتقالي، وقد أسرفت في بذل الوعود بتسريع عجلة تنفيذ استحقاقات أجندة الانتقال كاملة، بزعم أنها تجاوزت كل أسباب الفشل بعد مراجعات بين ترويكا الانتقال في أواخر مارس المنصرم.
(5)
وخرج المتحدثون من كبار العسكريين والمدنيين يتبارون في تصريحات بكلام معسول عن التناغم والتعاضد بينهم وأنهم يعملون بروح الشراكة والفريق الواحد لتنفيذ مهام المرحلة المفصلة بأجندتها وتواقيتها، وكما يرى الجميع مرت الأسابيع السبعة الماضية ولا شيء ذي بال تحقق بحسب المصفوفة، باستثناء إنشاء لجنة الطوارئ الاقتصادية التي يسمع الناس ضجيجها ولا يرون لها طحيناً، سوى المزيد من المعاناة والعنت، ولا دليل أبلغ من تصوير حالها من التلاسن والتنابذ علانية الذي جرى في الأيام الفائتة بين وزير المالية واللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير ليؤشر على نوع التناغم وروح التعاون التي تجمع شركاء الحكم.
(6)
ويبقى من يدفع ثمن عجز الطبقة السياسية المستدام هو الشعب السوداني الذي أنجز تحولاً تاريخياً بثورة ديسمبر المجيدة، وانتظر بصبر جميل وبال طويل لا ليشهد حدوث معجزة تحوّل جذري في نظام الحكم في بين غمضة عين وانتباهتها، بل فقط ليطمئن أن من فوّضهم لتولي أمر إدارة الفترة الانتقالية على قدر المسؤولية في وضع البلاد على الأقل في بداية الطريق الصحيح وإن طال الوصول إلى المبتغى.
(7)
لا يعني تكرار فشل النخبة الحاكمة في الوفاء بالتعهدات التي تقطعها على نفسها سوى العجز وفقدان الإرادة والافتقار إلى روح القيادة، وعدم الاستعداد للتحلي بالشجاعة والتضحية اللائقة بمن يتقدم للزعامة بلا توفر استحقاقات ذلك، لم يكن فشل الالتزام بالمصفوفة حدثاً عارضاً بل كان نتاج الهروب من مواجهة النفس والقيام بعملية نقد ذاتي حقيقية وتحمّل مسؤولية الأخطاء ودفع ثمن ذلك، واكتفت بدلاً عن ذلك بإلقاء اللوم كله على تحركات منسوبي النظام السابق، ولكن السؤال هل هم حقاً من يمنعون شركاء الحكم الانتقالي من إكمال مؤسساته، وتنفيذ استحقاقات الوثيقة الدستورية؟ لن يجدي البحث عبثاً عن مشجب لتعليق أسباب الفشل عليه في تغطية عورة العجز الذاتي للطبقة الحاكمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.