محمد إبراهيم الشوش: شمائله 

0 135

كتب: عبد الله علي إبراهيم  

.

نعى الناعي أستاذي وصديقي محمد إبراهيم الشوش لست أقول عنه أستاذي في معنى الجلوس إليه في قاعة محاضرات بجامعة الخرطوم فحسب. حدث ذلك مرة واحدة أخذنا عنه الأدب الأموي في القاعة ١٠٢ بكلية آداب الخرطوم. وكان عذباً قل مثله يعلم العربية بمعرفة وثقى بآداب غيرها مثل الإنجليزية. ولكن ينابيع العلم شتى. وأكثرها حظوة عندي ما يكسر حائط الفصل الرابع. خذ الحاجة الوالدة جمال أحمد حمد مثلاً. وكان سعد أمير طه يدرس مخاطرة منهجاً غير المنهج المقرر. وكان عجيبا. ودرست على أستاذنا عبد الخالق محجوب في عرصات الليلة السياسية وكتبت أول كتبي من عبارة له في إحدى تلك الليالي. وقلت كثيراً إنني خريج سوح اتحاد طلاب جامعة الخرطوم ومنابره بأكثر من جامعة الخرطوم نفسها.

وعرفت الشوش وأحببته قبل أن أجلس إليه في تلك القاعة. كنت نشرت قصة قصيرة عنوانها “شيء له أبعاد” في مجلة “القصة” التي كان يصدرها عثمان علي نور ويعينه عبد الملك ابن خلدون. وكان ذلك كسباً ونصراً مؤزراً لمن هو في أعتاب الجامعة في ١٩٦٠. وأمن الشوش على هذا النصر حين علق في عدد القصة العاقب، كما درجت المجلة، وأجازني “ببيارق مجنحة” كما في العبارة الإنجليزية. وزكتني “شيء له أبعاد” ليضمني لندوته. ندوة الشوش، التي قام على تنظيمها الدفعة حسن أبشر الطيب نجتمع فيها مساء الأربعاء، أعتقد، لنتسامر في الأدب. وكان يأخذني بندية إلى برنامجه التلفزيوني أول ما عتبت ذلك المبني. وكل ما طرأ لي مفهوم القوة تذكرت أنني سمعته كمفهوم من الشوش ونحن ننهب الأرض للتلفزيون بسيارته. قال لي: “أفكر في صولة القوة”. وعرض عليّ فرحاً مسودة “أعمال الليلة والبلدة” لطالبه إبراهيم إسحاق بمعهد المعلمين، الذي كانت تحاك فيه المساخر، وأعداني بفرحه وقرظناها تقريظاً لم يفتأ إبراهيم يذكره وهو في أول الطريق وغريب ديار. وبرني بلقاء أول مع الطيب صالح أول بروزه ذات ضحى ضمن آخرين بمنزله بحي المطار. وطرب الطيب لما كنت أكتب في “أخبار الأسبوع” إلا من مادة السياسة فيه.

ولم يتأخر عن ذلك التضامن معي. فلما تقلد رئاسة تحرير مجلة الدوحة في آخر السبعينات وأوائل الثمانينات ميز نشر مقالي عن “الحبوبة” تمييزاً أرضاني. ولم ينسني وقد عهدوا له جريدة “المسلمون” في لندن. وطلب مني أن أكتب لها فيها. وعرفت أنه لن يدوم فيها طويلاً. وقد كان.

وأعتقد أنني رددت دينه على “شيء” ذلكّ أضعافا في الحفاوة بما يأتيني من إبداع من حَسُن ظنه بي

الشوش أكاديمي خدمة (service) وهي أحد أضلاع الأكاديمية الثلاثة: بحث وتدريس وخدمة. فأذكر تفريغ الجامعة له في نحو ١٩٦١ ليعمل على إعداد تقرير لإنشاء اتحاد الجامعات الأفريقية. واستدعاني لأساعده في المهمة. ثم طلبت منه الجامعة إعداد تصور لمعهد الدراسات الإضافية. ثم لابتداء دار جامعة الخرطوم للنشر. وسهر عليها جميعاً بمكر نقابي عطبراوي وبحيل والده شيخ الشوش، رمز المدينة، فأنجز ما قلدته الجامعة ونهضت تلك المنائر في أول النفق.

تفرقت بنا الدروب بعدها. ولما التقينا ذكر لي محنتي مع الشيوعيين و”مسايرتي” الإنقاذ. قال عن عزاء مروي عن مسيحي هجر دينه ليسلم ومات قبل أن يسلم: لا محمد حصّل قبلك ولا المسيح راض عليك. أو هكذا. وضحكنا.

كان مشرق الوجه تضيء شلوخه من بلل بسمته. وكانت بسمته دسمة بطفولة محببة وعميقة. ومكر. كان بيننا في اليسار متحالفاً لانتخاب عمر عثمان مديراً للجامعة. فقلت له مرة إنني وضعت بطاقات الانتخاب على مكاتب الأساتذة. فقال لي: قال أولى بك ملأها. وضحكنا. تأخرنا ليلاً في اجتماع بمعهد الدراسات الإضافية وسمع نباح ملحاح من كلب في الجوار فقال: الكلب السكران دا”. وضحكنا.

كان أصدقنا في تأبين محد عمر بشير في حفل انعقد في مؤتمر لجمعية الدراسات السودانية في مدينة بوسطن. قال في ختام كلمته: كان محمد عاشقاً كبيراً للنساء. وبهتنا أن يقال هذا في حضرة تأبين. ولما أفقنا من بهتتنا اتفقنا أنه أعرفنا بالمرحوم.

وأسبق تأبين أستاذي وصديقي الشوش بالقول إنه كان فحلاً. ولا أزيد.

رحمه الله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.