مقاربات بديلة لفهم أزمة الدولة والحكم في إثيوبيا
كتب: حمدي عبد الرحمن
.
على الرغم من التحديات الجسام التي واجهت الدولة الإثيوبية الحديثة، وكان أبرزها استقلال إريتريا عام 1993م، لتصبح بعدها هضبة الحبشة أكبر منطقة حبيسة في العالم؛ فإنَّ السرديات الكبرى التي يُروّج لها الفكر الاستراتيجي الإثيوبيّ لم تتغيّر، بغضّ النظر عن اختلاف الطبقة الحاكمة.
ولعلَّ المُتابِع للعلاقات الإقليميَّة للدولة الإثيوبية، ولا سيما في السياق الجيوستراتيجي لحوض النيل والقرن الإفريقي منذ تولّي آبي أحمد رئاسة الوزراء عام 2018م يُلاحظ خطابًا سياسيًّا محمَّلاً بمعاني تضخيم الذات وبمفردات الحُلْم الإثيوبي الكبير الذي يرفع شعار عودة أمجاد الماضي، أو بالأحرى عودة إثيوبيا عظيمة مرة أخرى كما كانت على عهد الأمهرة.
كما أن المسكوت عنه في حرب التيغراي -التي كان يمكن تجنُّبها بقَدْرٍ محدودٍ من الحكمة والتنازلات السياسية المتبادلة- هو تصادم الرؤى والأيديولوجيات المتنافسة بشأن الماضي، بل والاختلاف حول مستقبل الدولة الإثيوبية.
ليس هذا فحسب، وإنما إصرار القيادة السياسية الإثيوبية على تبنّي موقف متصلّب بالغ التعنُّت والإصرار على عدم التوصُّل إلى اتفاق في مفاوضات سدّ النهضة بما يشكّل تهديدًا خطيرًا لأمن واستقرار الإقليم والقارة الإفريقية بأَسْرها.
الاستثنائية التاريخية وتقاليد الدولة القديمة:
كيف نفهم ذلك كله؟
وما التصورات المؤسّسة للدولة الإثيوبية، سواء في أذهان مَن يحكم في أديس أبابا، أو تلك التي عبَّرت عنها الأدبيات المتنوعة المرتبطة بالشأن الإثيوبي؟
ثمة مجموعة من الأساطير المتوهَّمة والدينية التي ترتبط بمفهوم الدولة الإثيوبية. ولعل أحد التقاليد السائدة التي تصف حالة الاستثنائية الإثيوبية المتصوَّرة هو الإيمان باستمرارية تقاليد الدولة القديمة.
إننا -والحالة هذه- أمام صورة لدولة قديمة العهد موحَّدة إقليميًّا ومرتبطة بالماضي التوراتي. عادةً ما تتم الإشارة إلى مملكة أكسوم القديمة التي ازدهرت في منطقة تيغراي الحالية في كلٍّ من إثيوبيا وإريتريا بين القرنين الأول والسابع الميلادي.
يُنْظَر إلى أكسوم على أنها دولة حجر الأساس، التي ترتبط بها مؤسسات إثيوبيا الإمبراطورية، مثل مكتب الإمبراطور، والكنيسة الأرثوذكسية، وكذلك الثقافة المسيحية.
يستمر السرد الرأسي في ربط تاريخ سقوط أكسوم، وصعود ما يُعْتَبَر سلالة غير شرعية بعيدة عن نسل النبي سليمان، والتي عُرِفَتْ باسم زاغوي. كان إنجاز هذه الأسرة الحاكمة غير العادي وميراثها القائم حتى اليوم هو بناء الكنائس المحفورة في الصخر.
وفي أواخر القرن الثالث عشر (عام 1270م)، تمَّت استعادة الحكم لسلالة سليمان الشرعية. ليس هذا فحسب، بل تم تعزيز سلطة الدولة، وتوسيع نطاق أراضيها، ودافعت عن نفسها ضد أعدائها من الجيران الأقربين على مدى القرون الستة التالية حتى ولي السلطة آخر أباطرتها هيلا سيلاسي الأول.
وعندما تمت الإطاحة به في عام 1974م سقطت سلالة الأسرة السليمانية. بَيْدَ أنَّ السرديات الكبرى استمرت مع ذلك في إعادة إحياء مفهوم الدولة القديمة من خلال سرد قصة النظام العسكري الذي ظل في الحكم حتى عام 1991م.
بعدها تم الترويج لمفهوم الفيدرالية العِرْقِيَّة في ظل حكم التيغراي. وها هو آبي أحمد يحاول إحياء نفس التقليد بالعودة إلى موروث الدولة القديمة الموحدة.
يستخدم الكُتَّاب والمؤرّخون السياسيون الذين يعملون ضمن هذا التقليد مفهوم الدولة الإثيوبية للإشارة إلى جميع الممالك والإمبراطوريات في العصور القديمة والعصور الوسطى، بالإضافة إلى الدولة الإثيوبية الحديثة.
بعبارة أخرى؛ فإن المفهوم الحديث للدولة في تقاليده الأوروبية يتم إسقاطه ببساطة على الماضي التاريخي. وعلى هذا النحو، يتم تمثيل الدولة الإثيوبية على أنها كيان عابر للتاريخ تم تشكيله وتنظيمه بالفعل، ويتطور بشكل خطّي ويوجّه مسار الحياة الاجتماعية أكثر من كونها تكوينًا اجتماعيًّا تم إنتاجه في منعطف تاريخي محدَّد وحديث أو أنها تكوين لا يزال في طَوْر عملية بناء مستمرة على أساس النضالات الاجتماعية والتعابير الثقافية.
هذا التصوّر المتوهّم لمفهوم الدولة الإثيوبية يعاني من إشكالية فصل المفاهيم عن الحقائق التاريخية.
بشكل عام، أظهرت الدولة الإثيوبية تاريخيًّا ميلاً نحو التنوُّع والانقسام. يتضح ذلك في دراسة علاقات المركز والأطراف، والذي وجد تعبيره في انقسام حضاري حادّ قائم على التقاليد والثقافة (المسيحية في مواجهة الأديان الأخرى) والفضاء المكاني (المرتفعات في مواجهة المنخفضات).
وفي نهاية المطاف زعم الأحباش، ولا سيما أولئك الذين يتحدثون الأمهرية والتجرانية أنهم يعبّرون عن روح إثيوبيا الحقيقية، في حين نُظِرَ إلى الشعوب الأخرى على أنها مجرد جزء من إثيوبيا، وتلك هي الإشكالية الكبرى التي تواجه مفهوم الهوية الإثيوبية الجامعة حتى اليوم.
تقاليد الرجل العظيم: السلطة في مواجهة المجتمع:
لعل الأسطورة الثانية ترتبط بثقافة الرجل العظيم؛ فمنذ منتصف القرن العشرين، تجاهلت الدراسات الإثيوبية تحليل ديناميات الدولة والمجتمع من أجل تفسير شخصية وقوة الأباطرة العظماء.
ظهرت تقاليد ما يمكن تسميته “عبادة البطل”؛ حيث تم تشبيه القادة السابقين ولا سيما هيلا سيلاسي بالإمبراطور الميكافيلي، وبالتالي افتقدت الدولة هنا سياقها الاجتماعي. لقد دارت الدولة، بمفهومها الحداثي حول رجل يقال: إنه شكَّل الأحداث بدلاً من انتظارها.
وعليه فقد تم تلخيص تاريخ إثيوبيا الحديث إلى حد كبير في سيرة الرجل الذي حكمها لسنوات عديدة ومثلها للعالم الخارجي.
ظل تراث هيلا سيلاسي، الذي حكم إثيوبيا من عام 1930 إلى عام 1974م حاضرًا من خلال الأغاني الرومانسية للنجم الجامايكي الراحل بوب مارلي ونجم البوب الإثيوبي تيودروس كاساهون، المعروف باسم تيدي أفرو.
كان لقبه الرسمي الكامل يعكس تقاليد ثقافة الرجل العظيم فهو: “صاحب الجلالة الإمبراطور هيلا سيلاسي الأول، أسد قبيلة يهوذا الفاتح، ملك الملوك والمختار مِن قِبَل الله”.
يروي كتاب مجد الملوك، وهو النص القديم الذي تنبثق منه أساطير هيلاسيلاسي قصة العلاقة بين الملك سليمان وملكة سبأ وابنهما مينليك الأول، الذي يُزْعَم أنه أخفى تابوت العهد في إثيوبيا. ومثل أسلافه ادَّعَى هيلا سيلاسي أنه ينحدر من سلالة نبي الله سليمان. وانطلاقًا من هذه الأيديولوجية، احتلَّ الملوك والأباطرة الإثيوبيون الأراضي واستعبدوا الجماعات العِرْقِيَّة. وهكذا تم اختزال الدولة من خلال اعتبار الحاكم (الإمبراطور) هو جوهر الدولة.
لقد عكست الطقوس والمواكب الرسمية التي كانت جزءًا أساسيًّا من سلطة الدولة هذه التصورات المرتبطة بالدولة الإثيوبية.
في عام 1984م أقام النظام العسكري الحاكم في إثيوبيا احتفالاً كبيرًا بمناسبة الذكرى العاشرة للثورة الاشتراكية التي أطاحت بالمؤسسة الإمبراطورية بتكلفة 50 مليون دولار. تضمن أحد البرامج معرضًا فنيًّا بالغ الدلالة والأثر؛ تم وضع المعرض بمحاذاة جدار، وأمامه سجادة حمراء تقود الجمهور من محطة إلى أخرى.
كانت المحطة الأولى هي الهيكل العظمي الذي اكتشفه عالم الحفريات الأمريكي دونالد جوهانسون في عفار لشخص أطلق عليه اسم “لوسي” (على اسم أغنية البيتلز)، ويُفتَرَض أنه أقدم دليل على السلالة البشرية.
بعد ذلك جاءت صُوَر لوحات تعبّر عن حضارة أكسوم القديمة. وفي المحطة الثالثة تم عرض صورة كنيسة لاليبيلا الصخرية الشهيرة من القرن الثاني عشر. استمر المعرض ليصل إلى معركة عدوة التاريخية في عام 1896م، والتي هزمت فيها إثيوبيا القوات الإيطالية، وهو ما يعني تمكّن إثيوبيا من الحفاظ على استقلالها السياسي خلال معظم القرن العشرين.
أخيرًا عبَّرت المحطة الأخيرة عن الإطاحة بهيلا سيلاسي في عام 1974م.
ولا شك أن هذه الصور الفنية تعبّر بوضوح عن تاريخانية الدولة الإثيوبية بحسبانها مهد الإنسانية، ومِن ثَمَّ ضرورة الحفاظ على أسطورة الدولة القديمة القوية والممتدة عبر العصور. ولعل ذلك كله يعبّر عن مفاهيم الاستثنائية الإثيوبية التي وقفت وراء نزوع الإثيوبيين نحو تضخيم الذات الحضارية.
وبغضّ النظر عن اختلاف النُّظُم الحاكمة فقد ظلت فكرة الدولة القديمة مهيمنة. ففي زمن النظام الإمبراطوري، كان من الشائع رؤية صور تعبيرية يظهر فيها الأب والابن والروح القدس عبر السحاب، يخرج منها شعاع من الضوء ليسقط على الإمبراطور (يقع من الناحية الرمزية في منتصف المسافة بين السماء والأرض)، والذي يقوم بدوره بتوزيع هذا الشعاع المبارك على جماهير شعبه.
وبالمقابل في الاحتفالات بالذكرى العاشرة للثورة الإثيوبية ظهرت صورة الزعيم منجستو هايلي مريم جنبًا إلى جنب مع الأوسمة الرسمية التي قدَّمها له الكوريون الشماليون، بالإضافة لصور الثالوث الاشتراكي ماركس وإنجلز ولينين.
لقد حاول منجستو إظهار نفسه على أنه بطل الوحدة الإثيوبية، وحارس فكرة الدولة الإثيوبية القديمة. قام بمقارنة نفسه بالإمبراطور تيودروس الثاني في القرن الثامن عشر، الذي بدأ توحيد الدولة بعد تجزئتها من قبل أمراء الحرب المحليين. وعليه فإن هواجس منجستو الخاصة بإقامة احتفالات رسمية لم تكن عرضية بل كانت بالأحرى تحاول التشبُّه بسلفه ذائع الصيت منليك، مؤسّس الإمبراطورية الإثيوبية الحديثة.
بشكل عام، أكدت هذه العروض الاحتفالية، من خلال أدائها وإسقاطها الثقافي للقوة والتقاليد، على استمرارية فكرة الدولة الإثيوبية التاريخية.
نحو مقاربة بديلة للفهم:
على أن الرؤية النقدية ترفض هذا الوصف التاريخي للدولة الإثيوبية، وتركز عوضًا عن ذلك على قضايا الهوية العِرْقِيَّة والأمة والقومية، وعلاقة كلّ ذلك بالسرد التاريخي للدولة الإثيوبية.
من سمات هذه الرؤية إعادة النظر في الماضي الإثيوبي ومحاولة تقديم المزيد من الروايات الدقيقة والمتنوعة عن تاريخ الدولة.
على سبيل المثال: يمكن من خلال تسليط الضوء على ممارسات الدولة للسيطرة والغزو تصوير إثيوبيا على أنها إمبراطورية استعمارية “تابعة” نشأت نتيجة لتحالف تمَّ تشكيله بين الدول الرأسمالية الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا)، ومملكة الحبشة زمن التكالب الاستعماري على إفريقيا.
عندئذ تسقط كافة الأساطير المؤسَّسة للدولة الإثيوبية بحسبانها ليست كيانًا أصليًّا قديمًا، ولكنها بالأحرى ابنة مصطنعة للاستعمار مثل أيّ دولة إفريقية أخرى. لقد ظهرت، بمنأى عن القهر الاستعماري المباشر لأنها كانت ببساطة وكيلًا للقوى الاستعمارية في القرن الإفريقي. وفقًا لهذا التوصيف فإن إثيوبيا هو الاسم الذي أطلق على الحيّز الجغرافي الذي شغلته الحبشة، وهي مجموعة من الممالك الصغيرة في شمال شرق إفريقيا، ثم توسَّعت في منتصف القرن التاسع عشر عن طريق غزو الدول المستقلة في المنطقة باستخدام الأسلحة النارية التي توفّرها القوى الأوروبية.
وختامًا:
فقد تمَّ تصوُّر بناء الدولة والحفاظ عليها باسم الدين ومؤسسة العرش وما إلى ذلك. بالنسبة لإثيوبيا الإمبراطورية، على سبيل المثال، كان الدفاع عن المسيحية الإثيوبية ضروريًّا للغاية؛ بحيث لم يكن للدولة هدف علماني خاص بها، بل إنَّ الحاكم نفسه اتسم بطابع القداسة.
وبالمثل، خلال نظام الدرج العسكريّ، كان الدافع الرئيسي لوجود الدولة هو وحدة الأراضي وسيادتها الإقليمية.
على النقيض من ذلك؛ فقد كانت سياسات مرحلة الدولة التنموية في التسعينيات، وما ترتب عليها من توسع هائل في دور ووظيفة الدولة، لا سيما على المستوى المحلي هي الهدف الرئيسي للدولة.
وعليه فإن الرؤية النقدية لمفهوم الدولة الإثيوبية تضعها في نفس سياق أزمة الدولة في إفريقيا بشكل عام، بعيدًا عن أساطير تاريخيتها أو مفهوم الاستثنائية المتفردة.
يعني ذلك أنه يمكن فَهْم الهويات الثقافية المتباينة والاختلافات الإقليمية من خلال محاولة إعادة النظر في بنية الدولة الإثيوبية؛ لضبط علاقات القوة بين المركز والأطراف.
في التصورات القديمة يفترض نموذج المركز والأطراف شكلاً هرميًّا للسلطة؛ حيث يتم تصوير الحبشي كمركز لقوة الدولة والأطراف (الباقي) كمناطق على حافة سلطة الدولة.
على أن هذه الحدية الثنائية لا تعكس طبيعة علاقات القوة المعقدة والتغييرات التي حدثت على المستوى الإقليمي منذ أعوام التسعينيات، وخاصة بالنسبة لسكان المناطق المنخفضة في إثيوبيا والتي أضحت مترابطة بطرق عديدة مع المركز الذي يُشَكِّل إثيوبيا.