منح إسرائيل صفة مراقب في الإتحاد الإفريقي.. شرعية القرار وعامل الظرف

0 60

بقلم: د. محمد بشير جوب

.

أثار قرار منح إسرائيل صفة مراقب في منظمة الاتحاد الإفريقي جدلاً واسعًا بين المهتمّين بشأن القارة، وخاصة بين المختصين بشأن الاتحاد الإفريقي، كما أعاد إلى الواجهة نقاشات حيَّة حول كيفية وآليات تشغيل المنظمة، وخاصةً في الجانب المعني بآلية اتخاذ القرار داخل المنظمة.

ومن المهم الإشارة إلى أن أيّ قرار ذي صلة بإسرائيل لا بد أن يكتسب أهمية خاصة، ويرجع السبب في ذلك إلى الحيِّز المهم والخطير الذي تحتله القضية الفلسطينية -الإسرائيلية على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي. أضف إلى ذلك أن القارة الإفريقية وإن اختلفت مستويات المواقف من دولها تجاه القضية الفلسطينية -الإسرائيلية؛ ظلت مواقف منظمة الاتحاد الإفريقي ثابتة بدعوى ضرورة الاتساق مع المبادئ العامة للمنظمة.

وهذا ما جعل هذا القرار مفاجئًا إلى حدّ ما، ويثير في الوقت ذاته تساؤلاتٍ حول ما هي آلية اتخاذ القرار في المنظمة، وإلى أيّ مدى تم احترام هذه الآلية في هذه القضية؟ وما درجة تأثير الظرف الزمني والإقليمي على القرار؟ وما قيمة الاعتراضات التي تقدّم بها بعض الدول لرفض القرار؟ أسئلة نحاول البحث عن أجوبتها في هذا المقال.

صناعة القرار الإفريقي:

يُعتبر الاتحاد الإفريقي المؤسسة الإفريقية الوحيدة التي تحظى بتمثيل حصريٍّ لجميع الدول الإفريقية، وبالتالي هو الصانع الوحيد للقرار الإفريقي. وتجدر الإشارة إلى أن التعقيد الموجود في القارة من النواحي الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية انعكست على طبيعة المنظمة، وفي مجال صنع القرار فيها. هذا التعقيد جعل المنظمة مغلولة اليد في غالب الأحيان بين الالتزام بمقتضيات تشريعات المنظمة وبين الالتزام بمقتضيات العرف السياسي السائد في القارة. وهو وَضْع حَرِج يجعل قرارات الاتحاد تتسم بالضبابية أو يصعب إيجاد ربطٍ سليم لها مع المعايير القانونية للاتحاد.

فبين مؤتمر الرؤساء الذي هو أعلى سلطة في الاتحاد واللجان الفرعية المتخصصة، يمر القرار الإفريقي على مراحل متعددة، تلعب فيه مختلف مؤسسات المنظمة دورًا نسبيًّا إلى أن يصل إلى المرحلة النهائية.

ومع دخول الإصلاحات المؤسسية الأخيرة للاتحاد حيّز التنفيذ عام 2020م؛ أصبحت القمّة الدورية العادية لمؤتمر الرؤساء تنعقد مرة واحدة في السنة؛ حيث تم تحويل القمة الدورية الثانية للمؤتمر إلى قمّة تنسيقيّة بين الاتحاد وبين المنظمات الاقتصادية الإقليمية الثمانية في القارة المعترف بها مِن قِبَل الاتحاد بغرض الإسراع في عملية التكامل الاقتصادي للقارة.

ولقد أدرك قادة القارة أنفسهم عدم فعاليّة المنظمة، وضعف آلية اتخاذ القرار فيها. وهذا ما جعل مشروع تحويل المفوضية إلى سلطة الاتحاد يحضر بتكرار في قمم مؤتمر الرؤساء عام 2009م و2010م و 2013م من أجل ضمان فعالية المنظمة. ولم يتحقق هذا الغرض إلى يومنا هذا، وظلّ الوضع التقليدي في اتخاذ القرارات سائدًا في صميم المنظمة فيما اكتفى مؤتمر الرؤساء باختصاص تحديد صلاحيات في موضوعات معينة، وتخويلها للمجلس التنفيذي أو المفوضية أو إحدى اللجان المتخصصة الأخرى؛ لاستدراك القدر الممكن من السرعة والفعالية. ولقد أثَّرت هذه المعادلة التقليدية للاتحاد على قضية منح صفة مراقب في المنظمة، سواء للدول أو للمنظمات الأخرى، وبالتحديد في هذه القضية التي نحن بصددها الآن.

مَن السلطة المخوّلة لمنح صفة مراقب في الاتحاد؟

جاء إعلان منح إسرائيل صفة مراقب في الاتحاد من رئيس مفوضية الاتحاد، وبعد إصدار المفوضية الإعلان، وجد رئيس المفوضية “موسى الفكي محمد” نفسه مضطرًّا لإصدار بيان رسمي يؤكد فيه أن صلاحية منح صفة المراقب يدخل في صميم صلاحيته. ولكن من وجهة نظر أخرى فإن التبرير الذي تمسَّك به رئيس المفوضية تُثَار حوله نقاشات من الناحية القانونية تضع شرعية القرار في محكّ كبير؛ وذلك إذا وضعنا في الحسبان الاعتبارات الآتية:

أولاً: بين السلطة الأصلية والسلطة المخوّلة

فصاحب السلطة في النظر في طلبات الانضمام في الاتحاد هو مؤتمر الاتحاد حسب المادة التاسعة من القانون التأسيسي للاتحاد، ولا يمكن الجزم هنا أن المادة الخاصة بالموضوع تقصد فقط طلبات العضوية الكاملة؛ لأن عبارة “بحث طلبات الانضمام لعضوية الاتحاد” عبارة مطلقة تشمل العضوية الكاملة والناقصة. فيتبين أن السلطة الممنوحة لرئيس المفوضة اختصاص مخوّلٌ من السلطات العامة لمؤتمر الرؤساء. وهو –رئيس المفوضية-، بذلك ليس له الحق المطلق في استخدام هذه الصلاحية الممنوحة له؛ حيث يجب أن يكون عمل الوكيل معبرًا عن إرادة الموكل، ويقتضي ذلك مشاورات شاملة لكل الأعضاء تُقدَّر فيها تحفظات واعتراضات الدول الأعضاء، الأمر لم يحصل حسب شهادة بعض الدول الأعضاء. وتكون النتيجة في هذا الشأن سُوء استخدام للسلطة مِن قِبَل رئيس المفوضية.

ثانيًا: بين الاعتراف بإسرائيل والرضا بقرار المنح:

صرح رئيس المفوضية في بيانه مبررًا شرعية قراره قائلاً: “لقد تم اتخاذ القرار اعتبارًا لكون أكثر من ثلثي الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي قد اعترفت بدولة إسرائيل، وأقامت معها علاقات دبلوماسية”. وهذه العبارة لا تكفي مبررًا لشرعنة هذا القرار؛ حيث إن الاعتراف بإسرائيل كدولة لا يعني بالضرورة قبول طلبها كدولة صاحبة صفة مراقب في الاتحاد. كما أن الاعتراف لا يعني أن إسرائيل دولة تتوفّر فيها كل المعايير المطلوبة لتحظى بصفة مراقب في المنظمة.

وفي ردٍّ موجّه إلى المفوضية على أحد طلبات الحصول على صفة مراقب من المجلس التنفيذي للاتحاد ورد ما يلي: “يُطلب من رئيس المفوضية إعادة فحص وتوحيد المقترحات الواردة في هذه الوثيقة مع تلك الواردة في الوثائق الأخرى المتعلقة بالاعتماد ومنح صفة المراقب، وتقديم تقرير عن ذلك إلى الدورة العادية السادسة للمجلس التنفيذي”([1])، ما يعني ضرورة توفية الدولة المقدمة للطلب بكل المعايير المطلوبة قبل قبول الطلب من رئيس المفوضية.

ثالثًا: بين العرف القانوني وتطبيقات المفوضية:

تكاد المنظمات الدولية تتفق على عُرْف قانوني في مَنْح الدول أو المنظمات الدولية صفة مراقب، فهي ليست مسألة متروكة للأفراد أو للمؤسسات الفرعية، وذلك خوفًا من أن يتعرض الأمر لقرارات أحادية الجانب. فنجد منظمة الأمم المتحدة تُخْضِع المسألة للتصويت العام في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل المنح. وعلى غرارها نجد منظمة مجلس أوروبا الذي يُجوِّز للجنة الوزراء بعد التشاور مع الجمعية البرلمانية منح صفة مراقب لدى المنظمة. هذا لضمان استنفاد كل المشاورات اللازمة لقبول قرار خطير قد يكون له تداعيات في مستقبل المنظمة المعنية.

وفي المحصلة لم يكن قرار رئيس المفوضة ليفتح بابًا للطعن في شرعيته القانونية لو أن رئيس المفوضية التزم بكل المعايير القانونية لدى الاتحاد. وعليه فبغض النظر عن العلاقات غير الودية التي تربط إسرائيل بالدول التي عارضت هذه القرار كجنوب إفريقيا والجزائر، فالنظرة المجردة للأمر فقط تكشف عن خلل قانوني في هذا القرار ما يقتضي في المستقبل ضرورة النظر في هذه الصلاحية المخوّلة لرئيس المفوضية هذا من جانب. ومن جانب آخر فمن غير المستبعَد أن تكون تأثيرات ظروف معينة إقليمية ودولية حاضرة بقوة في المشهد؛ وتكون واحدة من الأسباب الرئيسية التي جعلت هذه الخطوة جديرة بالتوقف والدراسة.

قرار المنح وعامل الظروف:

لا شك أن القرارات التي يتَّخذها الأفراد أو المؤسسات أو دول بعينها تلعب فيها الظروف الزمانية والمكانية دورًا خطيرًا. ولذلك ربط هذا القرار بسياقاته المختلفة يساعد كثيرًا على فهم الموضوع. فقرابة أكثر من نصف قرن كامل يسعى الكيان الصهيوني لفرض واقعه كدولة على المجتمع الدولي. ولقد حقق نجاحًا في ذلك بفضل حلفائه الدوليين. وإن لم يكن تأمين دعم القارة الإفريقية من ضمن أولياته في بداية أمره، فقد أدرك الكيان مؤخرًا أن الثقل والتمثيل الدولي للقارة الإفريقية لا يجب الاستهانة به. فبدأ مساعيه الحثيثة لاختراق القارة الإفريقية وتأمين الاعتراف والدعم من القارة، وهو الآن -حسب ما يقول المسؤولون في إسرائيل- حصد اعترافًا رسميًّا من 46 دولة إفريقية من أصل 55 دولة.

ولقد فرضت إسرائيل نفسها بنجاح في القارة الإفريقية، وساعدها في ذلك تقدمها التكنولوجي خاصة مجال الزراعي واللوجستي، والأخطر من ذلك أن بعض الدول الإفريقية أصبحت تثق بها إلى درجة التعاقد مع شركاتها في المجال الاستخباراتي؛ حيث أشير إلى أن سبع دول إفريقية تستفيد من الخدمات الإسرائيلية في مجال التجسس([2]).

وعندما سُئِلَ أحد رؤساء الدول المعنيين في أمر التعاقد مع شركة “بيغاسوس” الإسرائيلية لخدمات التجسس اكتفى بالقول: “هذه هي الطريقة التي تعمل بها جميع البلدان. (…) إنها طريقة لمعرفة أعدائك ومن يدعمهم”([3])، وهذا يدل على مدى الاختراق والتوغل الإسرائيلي في القارة. وفي هذا السياق وجدت إسرائيل أن الظروف مهيَّأة لتمكين نفسها داخل القارة مستغلةً في ذلك الظرف الزمني والظرف الإقليمي.

أولاً: الظرف الزمني:

مع جود قواسم كثيرة بين الدول العربية داخل القارة الإفريقية والدول الإفريقية الأخرى أهمها العامل الجغرافي؛ يبدو أن كل الظروف مواتية لمشاركة مصير مشترك بين هذين الكيانين. فيفترض أن تكون القارة الإفريقية امتدادًا استراتيجيًّا وبُعدًا إقليميًّا للدول العربية فيها، والعكس أيضًا صحيح. وكان ذلك يقتضي إرساء علاقات في كل الأصعدة لمنع حصول أيّ فراغ قابل للاستغلال من أطراف أخرى. وهو الشيء الذي لم يتحقق ولا أمل في أن يتحقق في القريب العاجل.

ومع ذلك يمكن الإشادة بدور الدولة الليبية في عهد “معمر القذافي”؛ حيث كانت تشكل إلى حدّ ما مناعة حالت دون حدوث اختراق إسرائيلي لمنظمة الاتحاد الإفريقي، وذلك باعتبارها واحدة من “الدول الخمسة العظمى”[4] داخل المنظمة؛ على الرغم من كل الجهود التي بذلتها إسرائيل منذ إنشاء الاتحاد في 2002م. وبما أنه كان دورًا شخصيًّا ولم تكن سياسة استراتيجية عربية؛ فقد انتفى هذا الدور مع قيام ثورات الربيع العربية. والدولتان اللتان يُفترض أن يقوما بدور لسد الفراغ العربي، وهما الجزائر والمغرب، تفتقد سياساتهما الخارجية إلى الانسجام؛ نظرًا لخلافاتهما الطويلة، بالإضافة إلى أنه بعد اعتراف الأخيرة بإسرائيل نفسها قد يكون ذلك بمثابة ضوء أخضر لإسرائيل لزيادة نفوذها في القارة.

ثانيًا: الظرف الإقليمي:

تمثل أزمة سد النهضة عقدة إفريقية منذ سنوات، ومن التصوّر القاصر اعتبارها أزمة بين بلدين أو ثلاثة فقط، بل هي أزمة إقليمية مكتملة. والوصول إلى حلّ ناجح للقضية أو انسداد الحلول واللجوء إلى القوة قد يؤثّر بشكل مباشر على مستقبل القارة ومصيرها إيجابًا أو سلبًا. ومع احتكار كل طرف الحق لنفسه وغياب المرونة في تعاطي الأطراف تم اللجوء إلى أوراق ضغوط أخرى أدَّى ذلك إلى تدويل الأزمة.

وإذا تجاوزنا التصريحات الرسمية، وتعاملنا مع المنطق والواقع؛ نجد أن إسرائيل حاضرة من قريب أو بعيد في هذه الأزمة؛ وذلك لأنها في وَضْع تريد فيه امتلاك كل أوراق الضغط السياسي اللازمة في الحال أو في المستقبل لتحقيق أهداف محددة في صراعها مع الدول المؤثرة في الشرق الأوسط، وعلى رأسها مصر.

وفي مقابل ذلك، ومع الاستقطاب المحتدم بين الحلفاء الدوليين كورقة ضغط في الأزمة؛ فمن صالح إثيوبيا ضم إسرائيل في صفها؛ نظرًا لنفوذها على الولايات المتحدة الأمريكية وعلى دول الاتحاد الأوروبي. ولذلك عبر رئيس الوزراء الإثيوبي “هايلي ميريام ديسالين” عن إرادة إثيوبيا منح صفة مراقب لإسرائيل منذ 2016م، بالقول: “نريد أن تصبح إسرائيل جزءًا من نظامنا الإفريقي، ونأخذ موقفًا مبدئيًّا بجعل إسرائيل جزءًا من اتحادنا”([5]). وهذا ما تحقّق اليوم، وقد يكون لذلك تأثير سياسي كبير على مصر عاجلاً أم آجلاً.

القيمة القانونية لرفض القرار:

لم يتأخر رد بعض الدول على قرار رئيس المفوضية؛ حيث اعترضت سبع دول على القرار، بينما وصف مجلس وزراء جنوب إفريقيا قرار رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي بمنح إسرائيل صفة مراقب في الاتحاد الإفريقي، بأنه غير عادل وأُحادي الجانب([6]). وهذا يثير تساؤلاً عن ماهية القيمة القانونية لهذا القرار مع بعض قرارات الدول الرافضة؟

مجرد رفض القرار مِن قِبَل هذه الدول لا يجعل القرار باطلاً أو غير قابل للنفاذ، ولكن على الأقل يُحتِّم على رئيس المفوضة إدراج هذا القرار في أجندة الاجتماعات العادية لقمة مؤتمر الرؤساء، ويكون عرضة للتصويت. وحسب المادة السابعة من القانون التأسيسي للاتحاد يتخذ المؤتمر جميع قراراته بالإجماع، وفي حالة عدم وجود توافق في الآراء، فبأغلبية ثلثي الدول الأعضاء المؤهلة للتصويت.

وعليه سيكون الامتحان الحقيقي للدول الإفريقية إزاء هذا القرار في أول قمة استثنائية قادمة لها، أو في أول قمة عادية لمؤتمر الرؤساء. ومن أجل ضمان تصويت ثلثي أعضاء دول الاتحاد فمن المؤكد مضاعفة اللوبي الصهيوني لنشاطه في الدول الإفريقية.

خاصةً إذا علمنا أن لدور اللوبيات النشطة في الساحة الإفريقية تأثيرًا مباشرًا على قرارات المنظمة، فعلى سبيل المثال: لقد حرمت هذه اللوبيات السودان من رئاسة الاتحاد بتأثيرها على الدول منذ عام 2006م إلى يومنا هذا.

وختامًا:

كشف القرار واحدة من الثغرات القانونية التي تحتاج منظمة الاتحاد الإفريقي إلى تفاديها في أقرب وقت ممكن؛ لضمان عدم اتخاذ أيّ قرار ارتجاليّ يؤثّر على مستقبل المنظمة.

كما يبدو من الواقع أن القرار نتيجة لجهود إسرائيلية استمرت لعقدين، حققت خلالها نتائج ملموسة، ويأتي قرار منح صفة مراقب بمثابة تتويج لتلك الجهود. ومن المتوقّع أن هذه الخطوة لن تكون هي المساعي الأخيرة الإسرائيلية لتمكين نفسها في القارة، ولقد استفادت إسرائيل بالفعل من الظرف الحالي للقارة بجانب ثغرات في المنظمة للوصول إلى هذا الهدف الذي طالما عملت جاهدةً من أجله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.