*مِحْنَة شعب: ما بين جوبا وأبا ! ..
بقلم : دكتور الوليد مادبو
وجدت نفسي مضطراً للبحث وراء الستار السياسي، فالمشكلة لم تعد مشكلة سياسية فقط، إنما هي ايضاً مشكلة إنتولوجية تتجلي في إهمال الحكومة الحالية لبعديّ الوجود، الزمان والمكان:
مكانياً، تنحسر إهتمامات هذه الحكومة في الخرطوم، وهي بعد لم تطور إستراتيجية للتواصل مع السودانيين في بقاع السودان المختلفة. وقد يذهب أعضائها لزيارة بعض الأقليم حال وجود توتر سياسي، أمني أو إداري.
زمانياً، الحكومة تنظر إلي الوراء وتسعي لإكتساب شرعيتها السياسية من إبداء كرهها للكيزان وإظهار حرصها علي إستئصالهم، فهي إذن منشغلة بالماضي ومهملة مهمة إستحداث رؤي تخاطب المستقبل، وتطوير إستراتيجية تعمد إلي ادماج الشباب في خطوات التخطيط الإجتماعي، الإقتصادي، البيئي والمؤسسي.
تعريف الكيزان هم الإنقاذيين المفسدين بيد أن اليسار إستهدف الإسلاميين في محاولته لتصفيف وإضاعة للوقت. تُحْجَر أملاك رجاء خليفة، فيما يطلق سراح مأمون حميدة. الأولى إسلامية تعاملت مع الإنقاذ من منطلقاتها الفكرية، والأخر كوز تعامل مع البشير وعصبته من منطلق مصالحه الشخصية. بهذا المنطق سيتم إعفاء كل النفعيين – والذين أتوا من كل حدب ينهلون من معين الإنقاذ الموبوء – وسيعمد اليساريون على تتبع العقائديين لتصفية حساباتهم الشخصية. ليس لدينا مشكلة مع الإسلاميين الشرفاء الوطنيين الملتزمين بالخيار الوطني الديمقراطي، مشكلتنا مع الإنتهازيين والمنافقين.
لقد أرهق التدافع غير السوي بين الإسلاميين والشيوعيين السودان وأهله، فلا يمكن لبلد أن ينتقل من أقصى اليسار (1970) إلى أقصى اليمين (1990) في أقل من ثلاث عقود دون أن يكون لهذا التأرجح على أثر سلبي على مؤسساته الاجتماعية والاقتصادية. ولينظر أهل السودان في شكل الإصلاح الذي يلزم مؤسساتهم كي يزدهر الوسط الأيديولوجي والجغراسي فيقطع الطريق على الطامحين غير المؤهلين من ذات اليمين ومن ذات اليسار.
إهمال هذين البعدين (الزماني والمكاني) يجعل الحكومة في حالة الغياب أو اللاوجود. ممّا يجعلها عاجزة تماماً عن تطوير إستراتيجية أمنية كانت، سياسية أو إقتصادية، وغير قادرة علي إستصدار موجهات إدارية صارمة. عليه فالمشهد السياسي يتسم بالأتي:
1. نشهد تغذية للأجندة الذاتية علي حساب المصلحة الوطنية. فوزراء حزب الأمة يسكنون عضويتهم في الوظائف الحكومية دوني أدني إعتبار للمعايير الوظيفية، بل منتهي الإستهتار بالضوابط الإدارية. تنسحب التهمة علي الشيوعيين، البعثيين والخرطوميين (صينية أوزون) ونواحيها. علماً بأن الشباب عندما هتف بالمدنية، لم يكن يعني إعلان الضدية للعسكر، إنما كان يعني إزدهار القيمة الحضارية المتمثلة في الشفافية، المحاسبية، والتبادلية.
2. نشهد تهافتاً من قبل الحكومة علي المنصات الإقليمية والدولية دونما أدني محاولة لتحديد الأولويات الوطنية. إن التواصل مع المجتمع الدولي أمر حيوي وضروري، لكنه لا يكون مجدياً، بل قد يكون مضراً، إذا أصبحت الدولة مجرد متلقي لقائمة من المهام واجب إتباعها.
3. نشهد إستقطاباً حاداً بين قطبي السلطة، العسكريين والمدنيين، ومحاولة كل مجموعة لإستمالة أعضاء من المجموعة الأخري، عوضِ عن الإحتكام للوثيقة الدستورية بإعتبارها المرجعية الثورية علي مافيها من علل.
أدرجت هذه النقاط الثلاث ليقيني أن قياس التقدم المحرز نحو أهداف الثورة التي أعلنها الشباب (حرية، سلام وعدالة) يجب أن ينطلق من واقع تقييمنا للموقف الحالي: أين نحن ونحو أي جهة نود أن ننطلق؟
الحرية التي نمارسها اليوم هي حرية سلبية يمارسها بعض “الثورجية” لتقويض الجهود الرامية لخلق سودان جديد خالي من أمراض العصبية والعنصرية، ومتحرر نسبياً من محددات الفكر الإستعماري الذي إعتمد الإقتصاد الريفي وسيلة لإستتباع الريف السوداني. وهي إذ تفعل ذلك، فإنها تخشى من ضياع نفوذها في ظل نظام تعددي ديمقراطي ينال فيه المر قيمته قدر إسهامه، ويحتل خانته وفق موافقة ورضا الأغلبية.
الحرية الإيجابية التي كان يمكن أن يمارسها الشباب، وحريُّ بهم أن يفعلوا ذلك ملتزمين بالفكر الديمقراطي الحر، غائبة تماماً وذلك لعدم توفر القنوات المناسبة لتوجيه هذه الطاقة المعنوية الهائلة. توقعت أن يُكَوَّن برلماناً من شباب الثورة، إذا تعذر تكوين الجهاز التشريعي في وقته، وأن تُعقد مؤتمرات تساعدهم علي بلورة أفكارهم، تأطيرها، وتطويرهم كي تقدم كمسودة للأجهزة التخطيطية. فإذا بي أفاجأ بأن الشباب قد أُستبعد حسياً بإقصاء النابهين منهم والشجعان الذين تصدوا لقيادة الثورة في وقت كانت فيه قيادات العمل السياسي الحالي تعد لتنفيذ خطة الهبوط الناعنم التي إعتمدت الرئيس مرشحاً لإنتخابات (2020)، كما إُستبعد الشباب معنوياً إذ رُكِلَت أجندته علي جنب.
لا غرو، أن الشباب قد طفق يبحث عن البديل، وهو بعد مازال عازماً علي تحقيق ثورته وبالسبل المدنية ذاتها.
أما بخصوص السلام، فالحكومة حسب تقدير د. محمد جلال هاشم، جاهلة وغير راغبة في تحقيق السلام (ندوة أقامها مركز Justice Africa). جهلها تبدي في عدم معرفتها بأسس التفاوض إذ أصرت علي إلزام الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، بمسمياتها وأصرت علي عدم إيراد كلمة علمانية، وتحفظت علي عدم ذكر مصطلح “تقرير المصير”، علماً بأن أطراف التفاوض قد تجاوزت مرحلة ترتيب الملفات (الملف السياسي، فالانساني ثم الأمني)، ولم تعد بعد في مرحلة “أعلان المبادئ” الذي يعطي كل طرف حق تسمية بند التفاوض الخاص به، وتحديد الموجه الذي سيحكم التفاوض حول هذا البند. الأمر الذي الجأ الحركة الشعبية لموقف تفاوضي صارم وحدد آلية لا يمكن الحياد عنها: العلمانية مقابل تقرير المصير.
وأنا أستغرب، هل من حرص الحكومة – شقها العسكري خاصة – علي الاسلام أنها لاتريد أن ترجع إلي دستور 1974م، أم أنها تريد أن ترث الحاضنة الإجتماعية للإنقاذ وذلك بإستخدامها العاطفة الدينية وإعادة توظيفها لمشروع سياسي نهبوي (من نهب) جديد؟ أعتقد الأخيرة. وها هو حمدوك يشرعن لهم سرقتهم ونهبهم للبلاد تحت غطاءٍ “فاخر” و”مديد”. أي هوان هذا وأي إنبطاح؟ لم يتغول الطاقم السيادي على سلطات الجاهز التنفيذي، بل أسند حمدوك رئاسة “الألية العليا لإدارة الأزمة الإقتصادية السودانية” طواعية لأحد أعضاء المجلس السيادي؟ كيف يحدث هذا في بلد فيه من فيه من العلماء الأجلاء ونخبة الخبراء؟ بل كيف يحدث هذا في ظل ثورة ضحى أبناؤها وبناتها بحياتهم في سبيل مجتمع علمي وديمقراطي؟
لا أعتقد أنه يلزمنا التدليل بعد هذا على خيانة (قحط)، خناعتها، غدرها وجبنها، بعد أن استبانت بلادتها وعدم كفائتها الأخلاقية والفكرية. وما حمدوك وشلته إلا تجسيد لهذه السمات السالبة. لعل صراحتي هذه تزعج النخب المكابرة كافة، إذ تضعهم في مواجهة مع أنفسهم التي اعتادت الخور، التلكؤ المعنوي، الإرتداد النفسي والكسل الجسدي والذهني. أعجب من متعلمين ومثقفين يدغدغون مشاعرهم بغنائيات أيمن ماو، يكتفون بتلقف القوالات عبر الواتسب، ولا يكلفون أنفسهم مشقة الإطلاع على كتاب عن الشأن السوداني (سد النهضة، دارفور، حقوق المرأة، الدستور، التعليم، الى أخره).
هذه هي قمة عدم المسؤولية واللامبالاة التي جعلتنا تحت رحمة الغوغاء. تعريف الداء هو أول موطن الدواء، أو كما يقول الزملاء الأطباء. نحن أمة غير مسؤولة والأمم غير المسؤولة تتحمل تبعة إتباعها للعاطفة واتخاذها لقرارت غير مبنية وغير مستندة على أسس موضوعية. اولاها وأخراها: عبارة شكراً حمدوك!