رصد ــ السودان نت
ملخص تنفيذي
أوجزت إحدى النساء التي أجريت مقابلة معها في 16 فبراير/شباط 2019 في الخرطوم عزيمة المحتجات قائلة: “لن يُخفينا الضرب والاعتقال”. وقالت امرأة أخرى – وهي إحدى ضحايا العنف الجنسي، وعمرها 23 عاماً – أجريت مقابلة معها في 27 يونيو/حزيران 2019 لمنظمة العفو الدولية: “أريد أن ينال الأشخاص الذين فعلوا هذا بي عقابهم.”
أصبح عمر البشير رئيساً للسودان في 30 يونيو/حزيران 1989، بعد أن استولت الحركة الإسلامية السودانية وجبهتها السياسية حزب المؤتمر الوطني على السلطة في انقلاب عسكري. وظل البشير في السلطة حتى 11 أبريل/نيسان 2019. وقد وثقّت منظمة العفو الدولية انتهاكات واسعة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي في شتى أنحاء السودان طوال عهده. وهاجمت القوات المسلحة السودانية المدنيين وارتكبت انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي في سياق حملة قاسية من الهجمات الجوية والبرية التي غالب اً ما شُنت بلا تمييز في النزاعات التي دارت في جنوب السودان )قبل نيله الاستقلال في 2011(، ودارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق. وتعرض النشطاء السياسيون المعارضون بانتظام للاعتقال والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة. وفُرضت رقابة مشددة على وسائل الإعلام، وتعرض الصحفيون للاعتقال والاحتجاز بشكل منتظم.
وقد وصلت الأزمة الاقتصادية والسياسية، وتلك المتعلقة بحقوق الإنسان إلى مفترق طرق في ديسمبر/كانون الأول 2018، عندما بدأ الشعب السوداني بالاحتجاج والدعوة إلى التغيير والهتاف “الحرية ،السلام، العدالة”. وامتدت الاحتجاجات إلى كافة الولايات الثماني عشرة في البلاد. واستخدمت السلطات القوة المميتة، وغيرها من التكتيكات الوحشية لمواصلة تشديد قبضتها على السلطة السياسية ضاربةً عرض الحائط بكل المعايير الوطنية والإقليمية والدولية لحقوق الإنسان التي تلُزمها باحترام الحقوق الإنسانية للجميع وحمايتها والوفاء بها.
وقد عثرت منظمة العفو الدولية منذ ديسمبر/كانون الأول 2018 على أدلة على الاستخدام غير الضروري و/أو المفرط للقوة، وعمليات القتل غير المشروع، وقمع حرية تكوين الجمعيات أو الانضمام إليها والتجمع السلمي، والاعتقالات التعسفية، والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة السيئة في الحجز. وعلاوة على ذلك كشفت البحوث عن أدلة على العنف والتحرش والانتهاكات الجنسية ضد الشابات المحتجات.
وبين ديسمبر/كانون الأول 2018، )عندما بدأت الاحتجاجات في السودان(، و11 إبريل/نيسان 2019، عندما أطيح بعمر البشير، قبضت قوات الشرطة والأمن تعسفياً على ما لا يقل عن 2000 شخص واعتقلتهم .وخلال الفترة ذاتها قُتل 77 شخصاً على الأقل، وأصيب مئات آخرون بجروح في مختلف أنحاء السودان على أيدي قوات الأمن السودانية بصورة رئيسية. وقد ارتكب معظم هذه الانتهاكات جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني )الذي أُعيدت تسميته منذ ذلك الحين بجهاز المخابرات العامة(؛ إذ قتل المتظاهرين السلميين بصورة غير مشروعة، واعتدى عليهم بالضرب في الشوارع وداخل مراكز الاعتقال التابعة له ،وفرقّهم بعنف، ومارس ضدهم التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية واللاإنسانية والمهينة. فعلى سبيل المثال، أقدم أفراد الأمن على جلد المعتقلين بصورة متكررة بأنابيب بلاستيكية على جميع أنحاء أجسادهم. واستخدموا أحياناً العصي الكهربائية، وحلقوا شعر بعض المعتقلين الرجال بالقوة وشتموهم وهددوهم بالاغتصاب والموت. وفي الخرطوم، هاجمت قوات الأمن المناطق السكنية بصورة متكررة وداهمت بيوت الناس، والمستشفيات، مطلقةً الرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع داخلها.
وقد استمر الشعب السوداني في الاحتجاج برغم هذه الهجمات. ونظمّ الاحتجاجات تجمّع المهنيين السودانيين، وهو ائتلاف للنقابات المهنية يضم المدرسين، والمحامين، والأطباء، والصيادلة من جملة آخرين. وضم أيضاً الأحزاب السياسية المعارضة. وتدريجياً اتسع نطاق الاحتجاجات، والإضرابات ،والاعتصامات التي دعت إلى إقالة حكومة البشير بصورة كبيرة للغاية. واعتباراً من 6 إبريل/نيسان 2019 نفّذ المحتجون اعتصاماً احتجاجياً أمام المقر العام لقيادة الجيش في الخرطوم، وفي أماكن أخرى في عدد من المدن والبلدات الأخرى. وبعد أيام من الاحتجاجات التي لم تهدأ، رضخ الجيش السوداني لضغط الرأي العام، وأطاح بحزب المؤتمر الوطني من السلطة. وألقي القبض على الرئيس عمر البشير، واثني عشر آخرين من كبار قادة الحزب المذكور، في 11 إبريل/نيسان. وأصبحت منطقة الاعتصام مركزاً للأمل والحرية إثر عزل البشير.
وعقب خلع البشير شكلّ الجيش مجلساً عسكري اً انتقالياً حكم السودان بين 12 أبريل/نيسان و17 أغسطس/آب 2019. وارتكبت قوات الأمن السودانية خلال هذه الفترة انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان .ووصلت الانتهاكات إلى ذروتها بالهجوم على منطقة الاعتصام خارج المقر العام لقيادة الجيش في الخرطوم في 3 يونيو/حزيران. وفي صبيحة ذلك اليوم ارتكبت قوات الأمن عمليات قتل غير مشروع، وغيرها من ضروب استخدام القوة غير الضرورية و/أو المفرطة، والتعذيب والمعاملة السيئة، والاعتقال والاحتجاز التعسفيين، والعنف الجنسي، والاختفاءات القسرية. وأبلغ الناجون من الهجوم منظمة العفو الدولية أن قوات الدعم السريع وجهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني والشرطة هم الذين شنوا الهجمات، وأنهم استخدموا الذخيرة الحية، وقنابل الغاز المسيل للدموع والسياط والعصي. وقد وصف العديد من الذين كانوا حاضرين في مسرح الحدث خلال الهجوم أفعالاً ترقى إلى حد القتل بلا تمييز، أو التعذيب، أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. وفي 13 يونيو/حزيران، اعترف علناً الناطق باسم المجلس العسكري الانتقالي، الفريق الركن شمس الدين الكباشي، أن المجلس قد أمر بفض الاعتصام، وقد ارتُكب هذا الهجوم بدون سابق إنذار أو إشعار لمنظمي الاعتصام.
وفي أعقاب هجوم 3 يونيو/حزيران، الذي شنته قوات الأمن، انتشر الخوف والذعر بين المتظاهرين والسكان المدنيين عموماً، لاسيما في الخرطوم. وتعتقد منظمة العفو الدولية أن قوات الأمن السودانية والمجلس العسكري الانتقالي مسؤولان عن الاستخدام غير الضروري والمفرط للقوة والقتل غير المشروع للمتظاهرين أثناء الهجوم على منطقة الاعتصام. وقد أصرّ جميع أفراد العائلات ومؤيدوهم ومنظمات حقوق الإنسان الوطنية التي تحدثت إلى منظمة العفو الدولية في السودان على إنصاف القتلى ومساءلة القتلة .ويجب تقديم تعويضات للضحايا وأسرهم وإجراء تحقيقات مع أفراد الشرطة المسؤولين عن عمليات القتل ،و/أو العنف الجنسي، و/أو الاختفاء القسري، و/أو التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة السيئة خلال قمع المحتجين. وينبغي تقديم الذين يتبين أنهم مسؤولون – بما في ذلك عبر مسؤولية القيادة – إلى العدالة في محاكمات عادلة من دون اللجوء إلى عقوبة الإعدام.
وقد أخرج الهجوم المميت، في 3 يونيو/حزيران، المفاوضات بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير عن مسارها، حتى 17 أغسطس/آب، عندما وقعّ الجانبان الإعلان الدستوري عقب مفاوضات مطولة يسّ رت وساطة الاتحاد الأفريقي إجراءها. وفي 21 أغسطس/آب، حُل المجلس العسكري الانتقالي وعين مجلس سيادي جديد ورئيس للوزراء. واتفقت قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي على تشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة لإجراء تحقيقات شفافة وشاملة في الانتهاكات التي ارتُكبت في 3 يونيو/حزيران 2019. وأذنت الاتفاقية بفترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات.
وقد وردت أنباء متضاربة حول العدد الدقيق للأشخاص الذين قُتلوا في 3 يونيو/حزيران. فمثلاً ذكرت اللجنة الوطنية السودانية لحقوق الإنسان أن 36 شخصاً قُتلوا، بينهم 15 شخصاً قُتلوا في منطقة الاعتصام، و21 في أماكن أخرى. وذكرت وزارة الصحة السودانية أن مجموع القتلى بلغ 46 شخصاً. وأشار تقرير النائب العام في يوليو/تموز 2019 إلى أن 87 شخصاً قد قُتلوا. وذكرت نقابة الأطباء السودانية الشرعية أن 50 شخصاً قُتلوا، في حين أشارت لجنة أطباء السودان المركزية إلى أن عدد القتلى بلغ 127 شخصاً. وتعكس هذه التقارير المختلفة حالة الفوضى والإرباك التي أعقبت فض الاعتصام بالعنف، وإغلاق الإنترنت، وحقيقة أن المحتجين أغلقوا معظم شوارع الخرطوم. ورداً على إغلاق الشوارع حولّت قوات الأمن المدينة إلى منطقة عسكرية لبضعة أيام، ولم تسمح إلا بحركة محدودة للناس. وبناء على المعطيات الواردة من مصادر مختلفة بينها لجنة اسر شهداء ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، تعتقد منظمة العفو الدولية أن ما لا يقل عن 100 شخص قد لقوا مصرعهم، وما يزيد على 700 أُصيبوا بجروح. وأُلقي القبض على مئات آخرين في حين أخلي سبيل كثيرون، ويظل عدد غير معروف من الأشخاص مفقوداً، بينهم 20 حالة مؤكدة على الأقل.
وقد قام باحثو منظمة العفو الدولية ببعثتين ميدانيتين إلى السودان، من أجل إعداد هذا التقرير، في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 2019 لمقابلة الضحايا. وجمع الباحثون معطيات من مجموعة متنوعة من المصادر الأولية والثانوية. وقد جُمعت معظم المعطيات الأولية للفترة من ديسمبر/كانون الأول 2018 إلى أبريل/نيسان 2019 عبر مقابلات أجريت مع 67 ناجياً و شاهداً، وفرداً من أسر المعتقلين، ومدافعاً عن حقوق الإنسان ،ومحامياً، وصحفياً، وخبيراً في الشؤون الدولية لتأكيدها والتحقق منها وتقديم تحليل من أجل هذا التقرير. وبعد هجوم 3 يونيو/حزيران وفض الاعتصام، أجرت منظمة العفو الدولية مقابلات مع 61 ناجياً، وشاهد عيان، ومدافعاً عن حقوق الإنسان، ومحامياً، وفرداً من عائلات في الخرطوم.
وتنوه منظمة العفو الدولية بالالتزام المعلن للحكومة الجديدة بضمان المساءلة في السودان، وتحث السلطات الجديدة على ترجمة هذا الالتزام إلى أفعال تؤدي إلى إجراء تحقيق ومقاضاة فعالين ونزيهين للأشخاص الذين يشتبه بارتكابهم جرائم سابقة وحديثة ينص عليها القانون الدولي. وينبغي على السلطات الجديدة أن تغتنم الفرصة ليس فقط لصنع التاريخ، بل أيضاً لخلق مستقبل تُحترم فيه حقوق الإنسان، وتتحقّق فيه مطالب الشعب السوداني في الحرية، والسلام، والعدالة بالكامل.
التوصيات
نظراً للتحديات الهائلة التي تواجه البلاد في إنصاف ضحايا الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان التي ارتُكبت على مدى الثلاثين سنة الماضية تدعو منظمة العفو الدولية الحكومة السودانية إلى:
- اتخاذ تدابير خاصة تهدف إلى معالجة قضية المساءلة على الجرائم المنصوص عليها في القانون الدولي و/أو الجرائم المرتكبة أثناء قمع الاحتجاجات. ويجب أن تشمل هذه الإجراءات، على سبيل المثال لا الحصر، إنشاء وحدات تحقيق متخصصة ومحاكم مدنية متخصصة؛
- ينبغي على الحكومة – حيث يلزم – إنشاء محاكم هجينة بمساعدة المجتمع الدولي لاسيما الاتحاد الأفريقي؛
- التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية وتسليم المتهمين، ومنهم الرئيس السابق عمر البشير المطلوب من المحكمة، بتهم ارتكاب الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب؛
- التصديق على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وينبغي على السودان إصدار إعلان يمنح المحكمة الولاية القضائية على الجرائم المرتكبة منذ يوليو/تموز 2002. والمبادرة فوراً إلى إجراء إصلاح شامل لجهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني لضمان تقيده بواجبات حقوق الإنسان الدولية المترتبة على البلاد، وإلغاء الحصانات التي نص عليها قانون الأمن الوطني لعام 2010 وقانون الشرطة لعام 2008، والذين يحميان المسؤولين من المقاضاة؛
- ضمان شفافية واستقلالية ونزاهة لجنة التحقيق الوطنية المستقلة المعنية بعميات القتل غير المشروع التي ارتُكبت منذ ديسمبر/كانون الأول 2018، والتوضيح العلني لصلاحياتها وتركيبتها ،والسماح للضحايا وعائلاتهم بالمشاركة الحقيقية في الإجراءات؛
- ضمان مساءلة الجناة بغض النظر عن رتبتهم أو منزلتهم وفقاً للمعايير الوطنية والدولية والإقليمية ذات الصلة؛
- ضمان تنظيم استخدام القوة والأسلحة النارية من جانب قوات الأمن والشرطة وفق مبدئيْ الضرورة والتناسب، وإجراء تحقيقات مناسبة في جميع حالات الوفاة والاستخدام المفرط للقوة من جانب قوات الأمن خلال الاحتجاجات، وإحالة الجناة المزعومين إلى العدالة وتقديم سبل انتصاف ملائمة للضحايا؛
- إجراء تدريب إلزامي على حقوق الإنسان للقوات المكلفة بإنفاذ القانون وقوات الأمن، وبخاصة فيما يتعلق بمعايير حقوق الإنسان في إدارة التجمعات السلمية؛
- ضمان حصول ضحايا الانتهاكات وأسرهم على تعويض كامل ووافٍ يشمل رد الاعتبار، والتعويض المالي، وإعادة التأهيل، والدعم والإرشاد النفسيين، والرضاء، وإعطاء ضمانات بعدم التكرار.