هل هي بحث مخلص عن سلام دائم؟ أم سعي محموم وراء المغانم؟
كتب: د. الباقر العفيف
(٤)
“إن ما خرجت تبحث عنه تركته وراءك في بسطام”
(الشيخ أبا يزيد البسطامي)”
الرسالة التي لم يرسلها قادة الحركات المسلحة
مقدمة الجزء الرابع من المقال
هذا هو الجزء الرابع من هذا المقال الطويل. وقد هدفنا في الحلقات الثلاث السابقة لتوضيح فكرة أن من تولوا أمورنا السياسية وقرروا في قضايانا المصيرية منذ العام ١٩٥٥ وحتى هذه اللحظة، تقاصرت قاماتُهم الفكرية والأخلاقية عن مستوى اللحظات التاريخية التي كانوا ممسكين فيها بأعِِنَّة الأمور. أصحاب النوايا الحسنة منهم كانوا محدودي الأفق وعلى قدر حالهم. أما شِرارُهم فقد كانوا واسعي الحيلة بالغي الأذى. والنتيجة أنهم أعطونا خمسا وخمسين عاما من الحروب المتصلة، وخمسة وستين عاما من عدم الاستقرار السياسي وضياع الفرص، والانحدار الدؤوب في جميع مناحي الحياة حتى ارتطمنا بالقاع. استلم بالأمس آباؤنا من الانجليز بلدا واسعا وواعدا. ونسلم اليوم أبناءنا بلدا منقسما ويائسا. انفصل الجنوب القديم. ويتهيأ الجنوب الجديد للانفصال. غرقت دارفور في فوضى المليشيات. تضعضعت هيبة الدولة واضمحلت مؤسساتها. وبدأت تتلاشى. ولولا أن شباب الثورة العملاقة فجروها في اللحظات الحاسمة، وقبيل الاستسلام التام لأغلب قياداتنا السياسية والثقافية لعصابة الإنقاذ، ولوا أنهم أنقذونا حقيقة ومجازا، وأعادوا إلينا الثقة في أنفسنا، وفي شعبنا، لربما كنا سقطنا على الأرض ومتنا. أنعشت الثورة آمال الشعب في السلام والاستقرار السياسي والنهضة الوطنية الشاملة. ولكن يبدو أن قادتنا ما يزالون يعانون من الداء القديم، قلة الفِكِر وانعدام العِبَر.
عبقرية المكان
بدأتُ هذه المقالات بعبارة أبي يزيد البسطامي الذي عندما خرج من مدينته بسطام يبحث عن الحقيقة هتف به هاتف يقول “يا أبا يزيد إن الحق الذي خرجت تطلبه تركته وراءك ببسطام”. وبالطبع فإن بسطام هي الخرطوم. خرطوم الثورة الظافرة. خرطوم الشباب السوداني الجديد المولود من رحم المعاناة ومخاض الحروب والنزوح والآلام. خرطوم الشَّفاتة والكنداكات الذين هزموا آلة البطش الكيزانية بأيد نحيلة، وأَجْرام صغيرة، وأضلع بارزة. ولكن بقلوب ثابتة ونفوس عالية وحناجر واثقة. الخرطوم التي شهدت الجمهورية الفاضلة التي جسد فيها الشعب أحلامه في أرض الاعتصام لقرابة الشهرين قبل أن تهجم عليها جيوش الظلام بليل بهيم وتتركها أثرا بَعْد عَيْن. فلماذا يا تُرَى لم تحتضن الخرطوم مباحثات السلام؟
الحُلْم: أو الإعلان الذي لم يصدر عن قادة حركاتنا المسلحة
تَصَوَّروا لو أصدر قادة الحركات المسلحة المجتمعون بجوبا بيانا مشتركا بدأوه بهذه الديباجة:
“إنَّ ثورة ديسمبر-أبريل ٢٠١٩ العملاقة، بما فجرته من طاقات، وما قدمته من تضحيات، وما رفعته من شعارات، وما أقامته من مدينة فاضلة في أرض الاعتصام، أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الشعب العظيم يمكن أن يصنع المعجزات. وأنه ببساطة لم يجد الحكومة التي يستحق والتي يمكن أن توجه تلكم الطاقات لإحداث نهضة كبرى. أكثر من ذلك فإنه قد خُذِل خذلانا مُبينا من جميع حكوماته المختلفة. وما مجزرة القيادة العامة إلا آخر وأسطع الأدلة على هذا الخذلان المُبين. أن يُقتَل الشباب العُزَّل بهذه الطريقة البشعة وهم نيام، وأن تُغتَصَب الكنداكات أمام بوابات القيادة العامة للجيش، في صبيحة وقفة العيد، وأن تُدَمَّر كل تلك الحياة النابضة بالحب والسلام، العامرة بالفن والألحان، المزدانة بالجمال والألوان، لهو دليل واضح وضوح الشمس أنه لم تكن للبلاد حكومة، وليس لها جيشٌ. أما أشباه الرجال الذين كانوا داخل القيادة العامة، ويتَزَيُّون بِزِيِّ قوات الشعب المسلحة، فهم عبارة عن مليشيا ذليلة حقيرة تابعة للمؤتمر الوطني، سرق قادتها اسم الجيش مثلما سرقوا جميع مقدرات البلاد”.
وتأسيسا على ذلك فهم يقررون الآتي:
أولا، إنهم يعتبرون جيوشهم في مجموعها هي جيش الثورة. وأنهم على أهبة الاستعداد للتدخل لحماية الشعب وثورته إذا ما حاولت فلول النظام ومليشياته وكتائب ظله المساس بالثورة والشعب.
ثانيا، إنهم يَدْعَمون الحكومة المدنية دعما مطلقا، ويُقَدِّرون الظروف التي وُلِدَت فيها، والتي أدَّت للشراكة مع جنرالات اللجنة الأمنية للنظام المدحور. وعليه فهم لا يمانعون في التفاوض مع وفد مشترك من المجلسين، مجلس الوزراء ومجلس السيادة، مع مشاركة واسعة من الخبراء والمؤرخين والعلماء وأصحاب المصلحة.
ثالثا، إنهم على استعداد للعودة الجماعية للبلاد، والجلوس في قاعة الصداقة ليقيموا حوارا سودانيا حقيقيا، يضعون فيه حدا للحروب في السودان مرة وإلى الأبد، ويؤسسون لدولة المواطنة والحرية والسلام والعدالة.
رابعا، إنهم لا يطلبون شيئا في هذه المرحلة سوى ترتيبات أمنية تضمن حماية الثورة ضد المُهَدِّدات العسكرية التي تحيط بها. وتأمين عودتهم للبلاد، ونشر الطمأنينة وسط الشعب الثائر ووسط المشاركين في التفاوض. ولتحقيق ذلك، يطالبون بتكوين وحدات عسكرية مشتركة تُنْتَخَبُ بعناية فائقة من جميع الجيوش الحالية، مهمتها حماية الثورة وتأمين الحوار. هذه الوحدات تمثل نواة الجيش الوطني الذي سيحل محل مليشيا الحزب البائد.
خامسا، إن الهدف الأساسي لهذا الحوار هو مخاطبة جذور الحرب، والاتفاق على شكل الحكم الذي يقوم على التنوع الثقافي الذي تذخر به بلادنا، وصناعة دستور للبلاد يعكس هذا التنوع وينظمه ويحميه. وكتابة قوانين إنسانية عادلة لا تتحيز لدين أو ثقافة بعينها. وتأسيس نُظُم إدارية مثلى لإدارة بلد شاسع مثل السودان.
سادسا، إن همَّهم الأول هو عودة النازحين واللاجئين لقراهم وتهيئة البيئة المواتية لهذه العودة. وذلك ببث الأمن والطمأنينة، وإقامة حكم القانون، وبناء الخدمات الأساسية في تلك الربوع. ولتحقيق ذلك، سيعملون مع الحكومة والمجتمع الدولي ممثلا في وكالات الأمم المتحدة وصناديقها الإنمائية، ومع الدول الصديقة على التنمية الريفية الشاملة التي تحمل المدينة إلى الريف وتوقف أهله من الزحف على المدينة وترييفها.
سابعا، إنهم سيعملون على دعم الفترة الانتقالية باستكمال بناء الهياكل التشريعية، ومفوضياتها وبقية أجهزة حكمها لتنفيذ برنامجها، ولتهيئة البيئة لحياة سياسية نظيفة. وأنهم سوف يساعدون في سن التشريعات التي تنظم الحياة السياسية والحزبية، وإنهم سيعملون على إقامة إحصاء سكاني علمي ودقيق لمعرفة عدد السكان الحقيقي لبلادنا لمصلحة التخطيط الاستراتيجي السليم للتنمية الشاملة، ولتقسيم الدوائر بأكثر الطرق ديمقراطية. فهم يعلمون أن جميع التعدادات السكانية التي أقامتها الإنقاذ كانت غير علمية، ناقصة، و”ملعوبة” أو “مدغمسة”. لذلك لابد من إقامة تعداد سكاني علمي شامل يجمع معلومات عن كل سوداني وسودانية تشمل الاسم، والعنوان، والاثنية، والنوع، والعمر، والدين، ومستوى التعليم، ونوع العمل. أي جمع قاعدة بيانات دقيقة يقوم عليها التخطيط القومي للتنمية والعمران والتعليم. وليس فقط لتنبني عليه تقسيم الدوائر الانتخابية.
ثامنا، إنهم سيعملون مع الحكومة الانتقالية والمجتمع الدولي وجميع الهيئات السابق ذكرها على إدماج الفائض من جيوشهم في الحياة المدنية من خلال تدريبهم على مهارات فنية في مهن البناء والنجارة والكهرباء والميكانيكا والتدريس والتمريض وغيرها من المهارات التي تحتاجها البلاد، ومساعدة القادرين منهم على بدء أعمال تجارية واستثمارية. وسيتبنون خطة شاملة تتحول وفقها هذه الجيوش لقوة هائلة للبناء والتنمية والسلام.
تاسعا، إنهم كقادة لهذه الفصائل والحركات لا يرغبون في تَنَسُّم أي وظائف خلال الفترة الانتقالية، وأنهم ضد المحاصصات الحزبية. ولكنهم سيساهمون مع الآخرين على اختيار الكفاءات الفنية والأخلاقية لإدارة الفترة الانتقالية. وسيؤكدون انحيازهم الطبيعي لعنصري المرأة والشباب. ولأجل ذلك سيدعون لتبني نظام التمثيل النسبي والتمثيل القطاعي في الانتخابات المحلية والعامة.
عاشرا، أما هم كقادة كبار فسينصرفون إلى بناء أحزابهم السياسية والاتصال بقواعدهم التي انفصلوا عنها لعقود بسبب الحرب لينظموها ويتعرفوا عليها عن قرب. كما سوف يتفرغوا للعمل على إعادة اللُّحمة لنسيجنا الاجتماعي الذي مزقته الإنقاذ شر ممزق. لذلك سيعملون على تنشيط السياحة الداخلية بإنشاء بيوت الشباب في جميع أنحاء البلاد، وتشجيع الشباب على السفر للأقاليم المختلفة والاتصال برصفائهم من شباب تلك المناطق بهدف الانفتاح على الثقافات المتنوعة والتفاعل معها. وأنهم سوف يعملون على تبني سياسية التبادل الطلابي بين الجامعات المحلية لتمتين الأواصر الثقافية بين أبناء الشعب الواحد “ليتعارفوا” “إن أفضلهم عند الله أتقاهم” وأعلمهم وأنفعهم لمجتمعه.
الدولة الرشيقة
تَصَوَّروا لو أنهم أعلنوا إنهم مع إقامة جهاز رشيق للدولة. لذلك يطالبون بتبني النظام الفيدرالي الديمقراطي والتقسيم الإداري القديم، وعودة المحافظات والضباط الإداريين. وإنهم يقترحون بناء أجهزة حكم حديثة على الوجه التالي.
أولا، بناء جيش قومي صغير وحديث، مُنتَقَىً من كل الجيوش الحالية، يدَرَّب على احترام الحكم المدني الديمقراطي، وتُبْنَى عقيدته على أسس وطنية بحتة، مهمته حماية البلاد والدستور والمواطن. جيش لا يحتل وسط المدينة ولا تجوب مركباته شوارعها ولا يُبدِي جنوده أسلحتهم أمام المارة في الطرقات.
ثانيا، بناء جهاز شرطة ذو كفاءة عالية مُدَرَّبٌ على احترام حقوق الإنسان وكرامته ومحققٌ لشعار الشرطة في خدمة الشعب. وأنهم بصدد انتاج الشرطي النظيف الصبوح، الذي تبعث رؤيته الاطمئنان في النفوس، بدل شرطي الإنقاذ الفاسد القبيح الذي تَبُثُّ رؤيته الكآبة في القلوب، وتدفع الأيدي على تحسَّس الجيوب.
ثالثا، بناء جهاز أمن يحمي الدولة الديمقراطية ويحترم المواطن. جهاز أمن يسهر على حراسة الأرض والعِرْض، ولا ينتهكهما لتثبيت حاكم معلول. جهاز لا يملك صلاحية الاعتقال ولا يمارس التعذيب. جهاز فني محض مهمته جمع المعلومات، لا فبركتها، وتحليلها، لا طبخها، ويعمل تحت إمرة النيابة وإشرافها. جهاز أمن نظيف، يجتذب أشرف الناس وأذكى العقول، لا مكبٍّا للنفايات البشرية. جهاز يُشَرِّف من يعمل به، ولا يجعل من كلمة “أمنجي” سُبَّة وعار تحمل صاحبها على التواري من الناس خجلا، مثلها مثل توأمتها كلمة “كوز”.
رابعا، بناء جهاز خدمة مدنية كفء، محايد، وغير مترهِّل. وجهاز قضائي كفء، مستقل، عادل ونزيه. وأنهم سيسعون سعيا حثيثا لتحقيق العدالة الجنائية والعدالة الانتقالية ليطووا صفحة الماضي الأليم ويفتحوا الطريق للمستقبل المشرق وبناء نهضة السودان الكبرى.
خامسا، أنهم سيعملون على إصلاح البيئة الاستثمارية والبنية التحتية تمهيدا لأحداث نهضة زراعية وصناعية عظيمة تستوعب طاقات الشباب وتفتح لهم أبواب العمل خارج أُطُر التوظيف الحكومي. وأنهم سيعملون على تغيير الثقافة العامة التي جعلت من الحكومة بقرة حلوب، ومن وظائفها السياسية مصدرا للثراء والفساد، ومن أجهزتها المدنية المصدر الأساسي لفرص العمل، وكأنه لا حياة خارج الوظيفة الحكومية.
وعموما فإنهم سيعملون يدا بيد مع بقية السودانيين لإقامة دولة متعددة الهويات يُعَبَْر عنها نظام حكم يسمح بالفرص المتساوية، والنمو المتوازي، والحوار الطبيعي المتكافئ بين جميع الثقافات، مما يُثري المجتمع ويُشيع التسامح والتعاضد والقبول المتبادل ويُنتج الفرد الحر المُتُفَتِّح ذا المصادر المعرفية المتعدِّدة.
نظام يتيح للأقاليم أن تحكم نفسها بنفسها. وتقيم نماذجها التنموية، ونظمها التربوية. وتكتب تواريخها بيدها وتُمَجِّد أبطالها وتطور ثقافاتها ولغاتها وآدابها وفنونها. ومن ثم تتفاعل مع بعضها البعض على قدم المساواة فتتنافس في التنمية والإبداع وصنع الحياة. وبهذا نكون أقمنا حوارا وطنيا حقيقيا يحيل سوداننا الحبيب إلى حديقة يانعة متعددة الألوان والأشكال، وارفة الظلال، وافرة الثمار، مزدانة بالجمال.
تصوروا لو أن قاعة الصداقة احتوت هذه المفاوضات وأن الشباب أشعلوا الساحات حولها بالرسوم والفنون والشعر والموسيقى والرقص، وجميع صور الابداع. وأن مجتمعنا المدني والسياسي انتظم في إقامة الليالي الفكرية والسياسية لتثقيف الجمهور. وأن إعلامنا نشط في تغطية الفعاليات لتعميم الفائدة. كنا أشعلنا ثورة فكرية تُشكِّل أساسا عميقا وراسخا لديمقراطيتنا المقبلة. كنا استعدنا قبسا من نور الاعتصام.
نواصل