“البازنقر” للدكتور عشاري أحمد محمود استعراض وملاحظات نقدية

0 570

كتب: عبد الخالق السر

.

أصدر الدكتور عشاري أحمد محمود كتابا مثيرا للجدل يتناول فيه تاريخ العسكرية السودانية والجندي السوداني، على ضوء أحداث مذبحة ٣ يونيو ٢٠١٩، والمعروفة بحادثة “فض الاعتصام”، كواحدة من أكبر الجرائم في تاريخ الدولة السودانية الحديثة.

 

📌 يقع الكتاب في حوالي ٢٩٧ صفحة، يتمحور حول شخصية الفريق أول شمس الدين الكباشي ابراهيم شنتو، بوصفه، على حد تعبير الكاتب، المخطط والمنفذ الأول لمذبحة فض الاعتصام، والمتحمل تماما لتبعاتها القانونية والأخلاقية. تنبني “الثيمة” الأساسية للكتاب على حادثة اللقاء الخفي للكباشي لمجموعة من الاسلاميين بمنزل الصحفي جمال عنقرة في منطقة الحتانة، وما تمخض عن ذلك من مواجهة بينه وشباب مقاومة الحتانة، وما صاحبها من توجيه عبارات شاتمة ” كس*مك، يا عب*د، يا عف*ن، يا عب” كانت بمثابة ردة الفعل، حين حاصروا المنزل الذي كان به الاجتماع وخروجه مشيعا بهذه العبارات وهو في طريقه الى سياراته. سيجد القاريء أن هذه المفردات هي المسيطرة على كافة صفحات الكتاب يعمل عليها الكاتب بانتظام تحليلا لغويا وخطابيا وسوسيولوجيا وفقا للسياق الذي يحكم تاريخ علائق الرق بتشابكاته العرقية والأثنية، وفقا لتمظهراته “العنصرية” أو “الاستعلاء العرقي”، كما يفضل الكاتب، وكما تستبطنه اللغة وتعمل على “لغونته” أصالةعن ذاتها، في بعض الاحالات، على حد تعبيره.

 

📌 تمثل “البازنقرية” و “البازنقر”، مفاتيح مفاهيمية مهمة key-concepts بدونها سوف تكون القراءة النقدية ناقصة، وربما، نازعة للاسقاط وعجلة الحكم الاخلاقي على مجمل الكتاب، خصوصا اذا اخذنا في الاعتبار اللغة “الخام” و “الخشنة”، التي تعبر بلا مواربة، عن، وتتبنى قصديا، رأي الكاتب وموقفه الأحتقاري الصارخ ضد “البازنقر” كباشي و المؤسسة العسكرية” سليلة “البازنقرية” قيما وثقافة وتوجه.

 

📌 يعرف الكاتب “البازنقرية”، كظاهرة تاريخية، بأنها النواة الأولى للجيش النظامي السوداني كما نعرفه اليوم. وهي، وان كانت بداياتها تعود الى ما عرف بزرائب تجارة الرقيق، والتي يقوم بحراستها والمساعدة في الصيد، بعض الرقيق أنفسهم بناء على توجيهات السيد مالك الزرائب. الا انها وبناء على توصيات محمد علي باشا، أصبحت النواة الأولى للجندي النظامي، والمؤسسة العسكرية الحديثة.

 

📌 اذا “البازنقر”، ووفقا للتعريف السابق للبازنقرية كمؤسسة، هو نواة الجندي النظامي السوداني المنبت والذي يعمل في خدمة تاجر الرقيق أيا كان موقع ومسمى هذا التاجر: مالك للزرائب، أو مؤسسة استعمارية، كما هو الحال مع التركية، أو “جهادية” في نسخته المهدوية، أو قوة دفاع السودان، كما هو الحال مع الاستعمار البريطاني، وأخيرا ما يعرف ب”قوات الشعب المسلحة” عبر نظم الحكم في دولة ما بعد الاستقلال.

 

📌 في كل هذه النسخ، يرى الكاتب، أن البازنقرية تظل هي السمة الملازمة لهذه المؤسسة من خلال عمالتها للغير وارتهان ارادتها وأئتمارها للاسياد: مصر، السعودية والإمارات.

من هذا المنطلق، يعرف الكاتب “البازنقر، هو الجندي العب*د النذل، والنذالة خصيصة لزومية، للتمييز بينه وبين العب*بيد الأشراف الذين قاوموا تجارة الرق مثلما فعل البازنقر” ص103.

📌 والبازنقر، مستوجب للاحتقار لأنه وفقا، لأري الكاتب “في خدمة السيد، يؤدي البازنقر أكثر الأفعال دناءة وانحطاطا ضد أهله، بما في ذلك شن العدوان ضدهم، وتقتيله لهم تقتيلا، وتعذيبه لهم، واغتصابه جنسيا قريباته، واخفاءه بالقسر عشرات المئات من الشباب الثوار ورفضه الإفصاح عن أماكن وجودهم أو عن مصائرهم” ص103.

 

📌 من الواضح هنا، أن الكاتب يسقط تاريخ فظائع البازنقر عبر تاريخ استخدامهم من قبل أسيادهم، كما هي موثقة، على سلوك كباشي “البازنقر” والقوات النظامية “البازنقرية” في حادثة فض الاعتصام، أو “مذبحة الثالث من يونيو 2019″ كما يعرفها الكاتب. تأكيدا لذلك، يقول الكاتب ” كلها جرائم اقترفها كباشي في مذبحة 3 بونيو 2019. فكباشي هو البازنقر الجندي العب*د النذل، لهذه الأسباب، ولهذه الأسباب يستحق كباشي الاحتقار بأية لغة، بما في ذلك بلغات الاحتقار ك*س*مك، يا ع*بد، يا عفن، يا عب” ص103.

 

📌 يشدد الكاتب على الفصل المفاهيمي بين كباشي ك”بازنقر” وكباشي كشخص من أصول “حوازمية” بنسب الأب، و “نوباوية” بنسب الأم، رغم علمه باشتباكات اللغة في سياقات متعددة ومتقاطعة بين المحمول “العنصري” للغة في تقاطعات علاقات الرق وبين محمولاتها الغاضبة، في الشتيمة كتعبير عن الألم، ويستخدم في ذلك غزارة علمه كعالم لغويات linguist مبينا باسهاب المعاني وظلالها وفقا للسياقات الخطابية التي تحكمها. ومرد ذلك، هو، أن الكاتب يقصر الكباشي الى حالة “البازنقر” المحتقر، غير المستوجب للتعاطف بحكم منشئه التاريخي كخادم ويد باطشة لسيده ضد أهله وأقربائه، ملطخا بيدين قذرتين، طمعا في استلحاقا متوهما بسيده، أو تبعية ذليلة تورثه غبنا بائنا ضد أهله وبني جلدته. وحبس الكباشي في خانة “البازنقر” هي فك اشتباك مفاهيمي، مطلوب لكي تكتمل الاحالة بالكامل إلى “الع*ب*د النذل” مستحق الاحتقار واللعنة بقرينة انحطاطه الاخلاقي وليس أصوله العرقية أو الاثنية كما يحاول الكباشي أن يراوق في وثيقة الاتهام المرفقة بالمحكمة ضد شباب الحتانة. هذا التشديد على الفصل المفاهيمي من قبل الكاتب يجد حظه من التفنيد اللغوي حتى يستقوي عنده الاستبيان المطلوب لهكذا فصل. ففي ص 65 من الكتاب يتناول ” مفهومية الشتيمة باللغة العنصرية” وعدم صحة وقائعيتها كشتيمة، فيقول مستوضحا” ليس مهما في هذه عبارات الشتيمة، ضد كباشي، أن تكون العبارات تحمل صحة وقائعية أو قانونية، مثلها مثل أن تصنف شخصا بأنه حمار. بل الشتيمة، بما هي شتيمة، غير مكترثة بالدرجة الأولى إلى الصحة أو المطابقة بين الفكرة والشيء، وهي الشتيمة غير مكترثة بالواقعية، أو بالحقيقة القانونية. فالشتيمة جوهرها، بالدرجة الأولى، هو التعبير عن الاحتقار المستحق للشتيم…… يعرف كباشي أنه ليس عبدا رقيقا، على مستوى (الغانون) الساري، دائما عندي بالغين، ويعرف كباشي هذه الحقيقة الغانونية، بالغين، معروفة لدى معذبيه ثوار الحتانة. ومع ذلك، فقد ظهر رد فعل كباشي، لا سيما رد فعله بذهابه إلى المحكمة يريد انتصافا، ظهر أنه كباشي يستبطن مثل شباب الحتانة نفس مفهومية المعاني العرقية المحمولة في عبارتي يا ع*بد ويا عب. أي أن كباشي يتصنع عدم الفهم، فيصدر من وعي زائف مفبرك، مؤاده أن خصائص عرقيته، بما هي لونه وتقاطيع وجهه وأنفه الأفطس وكامل هيئته الجسمانية، لا أخلاقيته، هي محل التحقير في سياق العلاقات العرقية والعنصرية السودانية. ومن ثم، عنده كباشي أن هذا التحقير تحقير غير مقبول وغير غانوني، لا سيما وأنه التحقير تحقير من نوع خاص، نوع يسبب له هو كباشي شخصيا حرجا وشعورا بالخجل من نفسه، ومن هيئته الجسمانية بخصائصها الزنجية الواضحة والمنسوبة. ذلك أن شباب الحتانة الثوار، بهذه الشتيمة الرباعية، جعلوا كباشي يدرك بصورة قوية أنه، في نظر هؤلاء الشباب، وهو سيقول بسببها عرقيته، أنه كباشي عب ساكت. وعكذا يخدع الذات بشأن حقيقة اجرامه وسوء أخلاقه، يصرف كباشي بالذرائعية النظر عن سوء أخلاقه وعن اجرامه، ويخادع بأن الأمر هو أمر العنصرية ضده كباشي في براءته من دم الثوار في مذبحة 3 يونيو 2019″ ص 65-66.

 

📌 كان هذا الاقتباس الطويل ضروريا، لتبيان مفهوم البازنقرية والبازنقر كمفاهيم مفتاحية، يضغط عليها الكاتب باستمرار للتذكير بموقعه الوجودي اذا موقفه من كباشي “البازنقر”، والمؤسسة العسكرية “البازنقرية”، ككل. موضعة الكباشي ك”بازنقر” يسهل تماما، من وجهة نظر الكاتب، نعته بكل الصفات الأحتقارية التي تنطوي عليها اللغة، بما في ذلك اللغة العنصرية، لا لشيء سوى أن الأمر هنا لا علاقة له بالعنصرية في سياقاتها التاريخية، بقدر ما أنها هنا تنطوي على شتيمة خالصة معبرة عن الألم تنفجر في وجه “البازنقر” الذي امتهن ارادة العبودية والمذلة ارضاءا لسيده. ويرى الكاتب أن فك الاشتباك المفاهيمي بين كباشي “البازنقر” وكباشي ذو الأصل الهجين (حوازمة-جبال نوبة)، ضروريا لأنه يجرد الكباشي من دور الضحية بقرينة العنصرية الواقعة عليه، وبما يساعده على التشويش وصرف النظر عن جرائمه الكبرى التي ارتكبها بحق أهله في جبال النوبة ودارفور، بوصفه قائدا أعلى في هرمية المؤسسة البازنقرية، ومذبحة فض الاعتصام، كما يظل ينبه بين الفينة والأخرى في طيات الكتاب. فالكباشي في “بازنقريته”، كما في قول الكاتب ” يجسدن عقيدة الجيش السوداني الراهن، بما هو جيش إجرامي عدو للشعب خائن للوطن. ومن ثم فإن البازنقر، العب*د في هيئة الضابط في الجيش، محتقر، ليس فقط، كما هو يعلم، محتقر من قبل أسياده في السعودية والإمارات ومصر، وإنما كذلك هو البازنقر محتقر بين ضحاياه، وبين الشباب الثوار المقاومين ضد اجرامه ونذالته، هنا هم شباب الحتانة” ص 68.

 

📌 الخلاصة:

 

📍 يمكن تلخيص مضمون الكتاب في الآتي: يعتقد الكاتب، أن محاولة تخفيض حادثة الحتانة إلى ملاسنة عنصرية ضد الكباشي تستوجب الشجب والادانة، بغض النظر عن “الموقف” السياسي المناهض من الكباشي ورهطه من صفوة العسكر القابضين على زمام الأمور الآن، هو مجرد نفاق ممزوج بجهل فاضح متى ما أمعن النظر في طبيعة المؤسسة العسكرية ذات النسب الجينولوجي في البازنقرية، الضاربة عميقا في تاريخ الرق، ومنتوجها الجندي “الع*بد البازنقر”، في وحشيته وضراوته البالغة في التنكيل بأهله، مرضاة لسيده، وهو المقام الذي جسده البازنقر الكباشي كمخطط ومنفذ لمذبحة 3 يونيو 2019، المعروفة بحادثة فض الاعتصام، كواحدة من أكبر الجرائم التي ارتكبتها الدولة السودانية المجرمة ضد الشعب السوداني، عبر سلسلة جرائمها المنتظمة ضده. فالبازنقرية، كعبودية ونزالة، هي حالة ماثلة ومجسدة في علاقة المؤسسة العسكرية الراهنة، ورهط البازنقرات من العسكر الذين يقودونها ويرهنون البلد بكاملها لتجار الرقيق المعاصرون؛ محمد بن سلمان ومحمد بن زايد.

 

📍 على مستوى اللغة، فقد أفرد الكاتب لذلك الفصلين: الثاني (لغة العنصرية وأرضياتها في العرقية والآثنية والعبودية)، والثالث (الشتيمة في فلسفة اللغة والقانون ودراسات الدماغ). يتحدث فيهما باستفاضة عن سياقات الخطاب وتشابكات اللغة مع تاريخ العنصرية في السودان، تجسده “اللغة كحاملة دلالات عرقية” ص 94. مستفيدا من تخصصه كعالم لغويات، يعمل الكاتب على تحليل “مفردات الشتيمة الأربعة” واحالاتها الدلالية وتشابكاتها مع تاريخ الرق وافرازاته العنصرية التي تستبطنها اللغة، في محاولة لخلق تقعيد معرفي لخلق فهم أفضل للسياقات اللغوية وطرائق استخدامها حتى يمكن الامساك بحقيقة المعنى ودلالاته في حادثة الحتانة.

 

📍 في كل تفاصيل الكتاب، لا يتخذ الكاتب موقفا محايدا، من، أو مسافة محددة مما حدث، وتداعياته اللاحقة. فالكاتب دون مواربة يرى أن الكباشي مستحق للشتيمة والاحتقار بقرينة بازنقريته، كحالة انحطاط أخلاقية، تموضعه في خانة الجندي، الع*بد النذل، المسئول مباشرة عن فض الاعتصام كجريمة مروعة لا يجب أن الانشغال عنها أو التشويش عليها بخطاب العنصرية المضلل، والذي يعمل على تعمية ما أرتكبه الكباشي في حق الشعب السودان، وفضحته “هفوته الفرويدية”، على تعبير الكاتب، والشهيرة ب “حدس ما حدس”.

 

📍 في ذات السياق، يرى الكاتب “المدافعون عن كباشي كذلك هم ذرائعيين لا أخلاقيين، وهم بالوقاح أتوا بخدع الذات يستجدون الشعب انصافا وعدالة لكباشي المكلوم بكلمات ‘عنصرية’. ذلك بينما هم الذرائعيين اللا أخلاقيين كانوا على أن كباشي أصلا هو البازنقر الجندي الع*ب*د النذل الذي شارك بالهمة في التخطيط لمذبحة 3 يونيو 2019 وفي تنفيذها، والتغطية عليها، وأن أصوله هي ذواتها أصول القوات النظامية والقوات المسلحة الراهنة في زرائب الرق في النصف الأول من القرن التاسع عشر” ص241.

 

📌 ملاحظات نقدية:

 

🩸 قد يبدو، للوهلة الأولى، أن الكتاب منفرا، بلغته “الصادمة”، وباعثا على التحدي challenging باستخداماته المسرفة لمفردات وتعابير تتعلق بقضايا الرق والعنصرية يتحاشى السودانيين عادة الخوض فيها، كما أنه يحتاج الى صبر للمسك بخيوط ال themes المبعثرة في ثنايا صفحاته، ومرد ذلك هو التداعي الحر في طريقة الكتابة التي انتهجها الكاتب دون الزام نفسه بنهج معين، أو تبني ترتيبا منطقيا للأفكار الواردة فيه، مما جعل التكرار في العبارات والجمل، وسرد الاحداث هو السمة الرئيسية للكتاب. وفي الحقيقة أن الكاتب على وعي بذلك، حيث نبه إلى أنه نهج الى “الكتابة الحرة والتفكير الحر”، مما أسهم في التكرار والترديد المستمر للجمل والعبارات.

 

🩸 تمثل فكرة “البازنقرية” كثقافة وقيم انبنت عليها شخصية القوات المسلحة السودانية، اضاءة مهمة تحض على سبر أغوار كنه هذه المؤسسة “الغامضة” الولاء والهوية، والتي يزداد كل يوم التباعد النفسي بينها وبين جموع الشعب الذي أدمنت قمعه والتنكيل به والوقوف بينه وبين احلامه في دولة ديمقراطية مستقرة. وربما كان الباحث في التاريخ السياسي للسودان، دوغلاس جونسون، هو من له قصب السبق في بحوث عديدة أشار فيها للصلة بين مؤسسة الرق وبدايات الجندية النظامية في السودان ويوغندا. وقد أشار الكاتب إلى انتفاعه من هذا الاسهام، بعد أن كان، أي الكاتب، قد طور مسبقا مفهوم “البازنقر” والبازنقرية” في هذا الكتاب. على الصعيد الشخصي، كنت قد استعنت بمساهمة جونسون في ندوة دعيت لها من قبل (مجموعة حتى نعود الثقافية)، بغرب استراليا، مبينا الاشكال البنيوي الذي ظل ملازما للقوات المسلحة في تظل تشابك مصالحها وولائها للدولة الزبائنية clientlist state التي أنشأها المستعمر، على حساب المصالح العليا للوطن والمواطن.

 

🩸 كذلك أعتقد أن النظر الى مفهوم “الاستلحاق” والتبعية التي تقوم عليها شخصية “البازنقر” المجسدن للبازنقرية كثقافة وسلوك وقيم، من الأهمية بحيث يقودنا الى كتابات مهمة في دراسات ما بعد الاستعمار نزعت لفك الاشتباك بين مقاومة تاريخ الرق والعنصرية، من جهة، وبين الخضوع والاستسلام والتماهي معهم من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال، كان المناضل الأفرو أميركان مالكم أكس، يعمل في لقاءاته ومحاضراته الجماهيرية على خلق فصل مفاهيمي، بين من أسماهم “خدم المنزل” و “خدم الحقل”، فصل تتأسس عليه فيما بعد تباين في المواقف المبدئية والوجودية والاخلاقية بين الطرفين. كذلك أضاف فرانز فانون في سلسلة ابحاثه عن الأثر النفسي للاستعمار على المستعمر ذو الجذور الأفريقية، وتأثيرها على مجمل سلوكه، حين أتي بالكثير من النماذج المهمة، التي تبين المأزق الوجودي، هنا للمارتنيكي “مثار البحث”، إذا إشكالية الاستلحاق ومفهوم الاندماج. فعلى سبيل المثال، عندما يقرظ الفرنسي أحد زملائه المارتنيك ذوي الطلاقة اللغوية والثقافة الفرنسية، تخرج عبارات الاعجاب ” واااااو أنت تتحدث “مثلنا” كفرنسيين”. أو ذلك المارتنيكي الذي يعود الى العاصمة المارتنيكية بعد فترة ك”سائح فرنسي”، حريصا على استخدام لغة باريس أو ليون أو مارسيليا على فرنسية “فورت دي فرانس” مسقطا قيمه الجديدة على أهله وأصدقائه القدامى … الخ من النماذج التي تبرهن على مدى إشكالية الاستلحاق والتبعية في أنماطهم المختلفة والموقع الاخلاقي الذي يقف عليه المستلحق أو التابع، والذي هو هنا “البازنقر” كما يموضعه الكاتب.

 

🩸 في تقديري، أنه كان من الممكن أن يكون هذا الكتاب عبارة عن مقالة محكمة لا تتجاوز العشرة ورقات، يقال فيهم كل ما قيل في كافة صفحات الكتاب ال297 وبشكل محكم وأكثر نصاعة وتبيان في توصيل فكرة الكتاب، ولكن أعتقد أن الكاتب لجأ الى فكرة الكتاب ك”مكيدة” توثيقية تتيح له الانتقام والاقتصاص من الكباشي كمخطط ومنفذ لمذبحة 3 يونيو 2019، من منطلق أن الكتاب، كوثيقة يسهل تداولها، يظل دليل إدانة على “اجرامية الدولة السودانية وقتلها للشعب السودان في مختلف حقب تاريخها الدموي”، وعلى “بازنقرية” الكباشي على حد سواء. وتبدو “رمزية الانتقام والاقتصاص” ماثلة بنية متعمدة في قوله “إن كباشي في تاريخيته، وهي ماضيه وحاضره ومستقبله، هو هذا البازنقر. لذا عنوان كتابه هذا يحمله كباشي وثاقا مشدودا حول عنقه. فهذه تاريخية كباشي البازنقرية موجودة في اللغة، في تعبيرية الاحتقار الذي وثقه في كتاب كباشي شباب الحتانة الثوار…”. ولذا، عندما يقول الكاتب، أن الكباشي سوف “يحمل الكباشي عنوان كتابه وثاقا مشدودا حول عنقه”، فهو يعي تماما القدرة الكامنة للكتابة والتوثيق على الانتقام والاقتصاص، ورد الاعتبار المعنوي لضحايا اجرام الدولة السودانية الوالغة، عبر مؤسستها العسكرية، في دماء شعبها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.