اليوم العاقب لنكسة انقلاب أكتوبر: تشاؤم الفكر وتفاؤل العزيمة

0 66

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم 

.

ما نحن فيه بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر على الثورة هو اليوم العاقب (the day after). وهو يوم للتوافر على دراسة سيرتنا في الثورة والحكم التي ساقتنا إلى هذه النكسة. فلا نريد أن تذروا رياح الإهمال خبرة أكثر من عامين باسم ثورة ودروسها. فيصح فينا كلمة الشاعر الإنجليزي ت إس إليوت: عشنا التجربة وغاب المعنى. وبدا لي مما أطالع من كتابات اليوم العاقب إنا ربما بصدد تبديد هذا المعني.

ففشو التلاوم بين أطراف التجربة الفاشلة، وخروج الشامتين ممن وقر في نفوسهم أنهم كانوا أحسنوا لو كان الأمر بيدهم، وسباق المبادرات لتلافي الفشل في مسماه هي أقصر الطرق لاستدبار معنى عوس أيدينا في الثورة والدولة.

التلاوم طاقة خاسرة لأن كل طرف في التجربة يعد نفسه الفرقة الناجية بطريق تعليق الفشل على طرف ليس أقل منه فشلاً. فأصبحنا في اليوم العاقب على “حِجة” الحزب الشيوعي والمؤتمر السوداني. فجاء خالد عمر من حيث لم نحتسب بخبر قديم عن صديق يوسف ليطلق الحزب الشيوعي في تبكيته طاقة لم أشهده منه منذ زمن سحيق والاتهامات ترشقه طالت دخول المجلس المركزي في ١٩٦٣، والقيام بانقلاب ٢٥ مايو، ومقتلة بيت الضيافة، ومحنة الجزيرة أبا. واسترعى انتباهي فديو شيوعي مخدوم جداً في الرد على خالد جاء بسيرته في “عار” الهبوط الناعم كاملة. وبين الحزب الشيوعي والمؤتمر السوداني ما بين “الطَردة.” فقد شب بينهما خلاف عبثي والمفاوضات بين قحت والمجلس العسكرية طفلة ما تزال. ومتى انشغلا في اليوم العاقب بهذه المناوشات عن تشخيص مناحي فشل الحكومة الانتقالية كنا كمن لم يعش التجربة.

ومن “الغبيان” عن تجربة النكسة الانتقالية الاكتفاء بالاعتذار عنها مثل عثرة تصلح المشي وبس يغنينا عن التحقيق العلمي فيها. فبادر خالد عمر بالاعتذار لشهود ليلة قحت بشمبات. وكان لذلك وقعه لا شك. ولكن لم أسمع بعد عن عمل فكري منظم لوضع الخطأ الذي أوجب الاعتذار تحت مجهر النظر. وخشيت أن يكون الاعتذار هو الغاية نفسها لطي هذا الماضي بعد أن قرأت لمعتصم الأقرع يكذب ما يذيعه الانتقاليون من أنهم حسّنوا اقتصاد البلاد خلال فترة حكمهم. فقال لهم كذباً كاذب، بل زادوه سوء على سوئه. وخاف الأقرع أن تنحط فترة ما بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر بالاقتصاد إلى القاع إن صدق الناس أكذوبة إصلاح قحت له. واكتفى من ذلك كله بطلب الاعتذار من قحت لكيلا تتسرب عدوى تخريبهم للاقتصاد للفترة العاقبة.

وجات الطاوية حبالها لليوم العاقب. وهي عشاري أحمد محمود. فإن قلت كلمة بحق حمدوك مثلاً فأنت “لاعق أحذية”. وإن خرجت كأساتذة جامعة الخرطوم بمبادرة لاحتواء الأزمة كنت “محتالا” وش، وكان نص مبادرتك تافهاً حتى قبل أن يدلي عشاري بحيثياته عنك. وبدا إلى أن عشاري ربما لم يكن معنياً بالمبادرة قدر عنايته بتقريع زملائه بجامعة الخرطوم. فعشاري في الفيديو اللايف الذي أذاعه لم يأت لنقاشهمه بل لتوبيخهم في فكرهم وعمالتهم لفولكر. مندوب الأمم المتحدة للسودان، والهزء بلغتهم قائلا إنه “يتكلم مباشرة لهم”. وجاءت للدكتور فدوى في صمة خشمها. فقال إن هذه مبادرة الجامعة (مع نسبته لها لأساتذة الجامعة الذين ليسوا هم الجامعة بالطبع) فلا سبيل للمديرة فدوى لتنكر.

وأزعجني من عشاري أنه استعاد بعض تاريخه الشخصي في هتره مع أساتذة جامعة الخرطوم. فواضح أنه لم ينس للجامعة الحيلولة دونه والترقي لمرتبة الأستاذ المشارك. ومع الجامعة ألف حق فيما قررت على أنه حمل ذلك محمل التشفي منه لتأليفه كتب “الضعين والرق في السودان” سيء الصيت. والحق أن عشاري لم يستوف شرط الإحسان الأكاديمي للترقية. فلما يعبأ بما عرف منه من غرور بنشر كتابه (رسالته للدكتوراه) في دار نشر مما تعتمده الجامعات في الترقي، وطبعه بمطبعة كروت الأفراح لصاحبها المرحوم التشكيلي فتح الرحمن بالسوق العربي. أما الاستعادة الثانية فهو تنبيهه الذي تكرر عن وجوب نقد ورقة الأساتذة التافهة لأنها ستروج كعمل لأكاديميين وهي رنة لها مصداقية بين العالمين. وكانت صفة الأكاديمية هي التي روجت لكتابه “الضعين والرق في السودان” وزكته للعالمين. وهو كتاب أوحته له عضويته بالحركة الشعبية. واعترف بنفسه أنه بعث بخمسين نسخة مترجمة منه للبوص جون قرنق ليلحن بها في جولة له ببعض دول أفريقيا.

ما أكثر ما قلنا إن صفوتنا تفشل وتدمن الفشل. وهو كلام مجاني لا تعرف منه من سيحاسب هذه الصفوة، وأي من فئاتها سيحاسب، وعن أي زمن من أزمانها، وحول ماذا؟ وقيض الله لنا الآن صفوة انقبضت فاشلة ويدها في الخمارة. وهذا وضع مثالي لجرد الحساب مع هذه الصفوة وحبر فشلها لم يجف بعد.

وسنفوت هذه الفرصة لفهم معنى هذه التجربة التي عشناه إن غطينا عليها بالمبادرات المتسابقة كسناريوهات لحل الأزمة. فسعينا لحل الأزمة ليس في مثل هذه المبادرات بل في تعزيز الصف الثوري لترجح كفة ميزان القوى لصالحه من جديد. فلسنا نريد أي حل لأزمة من صنع غيرنا. نريده حلاً بشروطنا لا بأي شروط. فنحن الثورة ونحن الحل. ويقع جرد الفترة الانتقالية ضمن واجبات أخرى لتمتين الكتلة الثورية التي تحلق الآن بجناح رهيب واحد في الشارع السوداني. والفكر غائب أو هضيم. وقال أنطونيو قرامشي، الماركسي الإيطالي، عن مثلنا إننا في حالة من تفاؤل العزيمة وتشاؤم الفكر.

ولنتفاءل فكراً سأعرض تباعاً في هذا الباب لتجربتنا في الفشل في إدارة الفترة الانتقالية من واقع كتاباتي خلال هذه الفترة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.