رؤية نقدية لكتاب (تاريخ الماي إدريس وغزواته) للإمام أحمد البرنوي

0 135

 

إعداد: آدم أديبايو سراج الدين(*)

.

تمهيد:

 

نقد الوثائق التاريخية من السمات المميزة للتاريخ المنهجي في العصر الحديث، ودليل على تطور الوعي التاريخي، وأحد الجوانب الفارقة في التأريخ بين العصر الحديث والعصور القديمة.

 

يقوم علماء التاريخ المعاصرون بجهود مضنية لدراسة التراث الضخم الذي آل إلينا من القرون السابقة؛ فمن جهة يقومون بتدقيق أوراق تلك المؤلفات؛ من حيث تركيبها الكيمائي, وتوزيع أليافها, وتمغتها الشفافة، أو الحبر الذي كتبت به، أو تحليل خطّ هذه الوثائق والمكتوبات، وذلك بهدف الوصول إلى مدى أصالتها، وصحة نسبتها إلى مؤلفيها.

 

ومن جهة أخرى؛ يتجه النقـد إلى تحليل الوقائع التاريخية بناءً على طرح عدد من التساؤلات والمناقشات؛ تدور مثلاً حول المؤرخ نفسه، ومنزلته في المجتمع الذي كان يعيش فيه ويؤرخ له، وطبيعة المصادر التي استند إليه في تأريخه، والسبب وراء تأليفه للكتاب، والمنهج والأسلوب الذي اتبعه في كتابه، وأيضاً حول ما يذكره المؤرخ من روايات وأوصاف للوقائع والأحوال التي يريد نقلها لمن بعده، وهل تتفق هذه الروايات مع الواقع التاريخي لعصـره، وهل عارضه غيره من المؤرخين أو لا، وغير ذلك من محاور النقد التاريخي.

 

والتاريخ الإفريقي الإسلامي جزء من تاريخنا الإسلامي، وهو جدير، كغيره من تاريخ المناطق الإسلامية الأخرى، بالدراسة والبحث والنقد والعرض، ولهذا نرى ضرورة الاهتمام بدراسة الوثائق الأصلية عن (مملكة كانم برنو) وبعض الممالك الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى.

 

وقد اخترت لتحقيق هذا الغرض نموذجاً من كتب التاريخ الإفريقي الإسلامي، وهو كتاب (تاريخ الماي إدريس وغزواته) للإمام أحمد البرنوي، وسأعرض في هذه الدراسة أهمية هذا الكتاب، ومكانة مؤلفه، وسبب تأليفه للكتاب، وكذا موضوعاته، ثم الأسلوب والمنهج المتبع، مع رؤية نقدية تأكيداً لما قررناها من المبادئ السابقة، ووفقاً لقواعد علم التاريخ المنهجي.

 

تحليل كتاب (تاريخ الماي إدريس وغزواته):

 

أهمية الكتاب وموضوعه:

 

يعد كتاب (من شأن سلطان إدريس ألومه وما وقع بينه وبين أمراء بلاد كانم) لمؤلفه الإمام أحمد البرنوي أشهر المؤلفات العربية التاريخية البرنوية, وقد قامت بطباعته مطبعة الأميرية في كنو، ويعد هذا الكتاب وغيره للمؤلف من أهمّ المصادر في تاريخ كانم برنو الإسلامي.

 

وهو كتاب يجمع مناقب (الماي إدريس ألومه) وفضائله, وما كان يلتزمه من مجاهدات تقوم على التقوى والتوكل على الله، كما أمدّنا هذا المؤلف بتفاصيل كثيرة عن غزواته وحروبه ضدّ الكافرين المشركين في المملكة.

 

وفي الكتاب مادة وفيرة لمن أراد أن يؤرخ للعصر الذهبي لمملكة (كانم برنو الإسلامية) تاريخاً صحيحاً وثيقاً، فهو يتضمن العديد من المعلومات التاريخية عن الأوضاع السياسية والحربية وغيرها لتلك الحقبة.

 

وقد أفادنا أحمد البرنوي أن الشيخ مسفرمة عمر بن عثمان قد سبقه إلى مثل هذا العمل الجليل عن المملكة الكانمية البرنوية، وذلك في أوائل القرن السادس عشر الميلادي أو ما قبله بقليل، وقد عثر الرحالة الألماني بارث على إحدى نسخ الديوان عام 1853م تقريباً.

 

مكانة المؤلف وأثرها في قيمة الكتاب:

 

يعدّ الإمام أحمد البرنوي أحد العلماء الأفذاذ الذين ظهروا في مملكة كانم برنو في العصور الوسطى، وقد ترك كثيراً من المؤلفات حتى لتشبه في مجموعها دائرة المعارف الكبرى تضمّ العلوم الشرعية والأدبية والتاريخية.

وقد عمل كاتباً للسلطان في البلاط الملكي، ويشير حديثه الكثير عن القضايا والشرائع التي كان يفصل فيها للسلطان في العديد من شؤون الإدارة؛ إلى أنه كان مستشاراً للملك في الأمور الدينية وغيرها(1), وأنه أدى دوراً خطيراً ملموساً في الشؤون السياسية في الإمبراطورية, وقد أتاحت هذه المكانة للمؤلف أن يرى بنفسه ومن قريب كلّ ما كان في هذه الدولة من عوامل قوة أو انحلال وضعف، وهو ما أعانه على كتابة مؤلفه العظيم في تاريخ مملكة كانم برنو.

 

مخطوطات الكتاب:

التاريخ يُصنع من الوثائق ولا بديل عنها، وحيث لا وثائق فلا تاريخ، (إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها)، فهذه قاعدة عامة لا موضع للجدال فيها، وذلك أن التاريخ لا يقوم إلا على الآثار التي خلفها الأسلاف للأخلاف.

ومخطوطات هذا الكتاب الأصلية موجودة الآن في همبورج على حد قول المؤرخ Palmer (بالمر)(2), وتوجد صورةٌ فوتوغرافية صوّرتها الحكومة الألمانية من النسخ الأصلية المكتوبة باللغة العربية، والتي أحضرها الرحالة Barth (بارث) من برنو إلى أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي (1855م), وقد عثرنا على نسخة لهذا الكتاب في المتحف الوطني بجوس، وتبلغ صفحاته سبعاً وثلاثين ومائة صفحة من القطع الواسع والحرف الدقيق.

 

سبب تأليف الكتاب:

ذكر الإمام أحمد بن فرتوا البرنوي في مقدمة الكتاب الذي ألفه في شؤون (الملك إدريس) المشهور بـ (ألومه)؛ أنه إنما كتبه ليقف الناس على ما كان من مجهودات الملك إدريس الجبارة، وذلك كما فعله الشيخ مسفرمة عمر بن عثمان في شأن سلطانه، وفي ذلك يقول: (اعلموا إنما بعثنا على هذا التدوين في هذا الوقت؛ ما رأيناه من تأليف الشيخ الفقيه مسفرمة عمر بن عثمان في عصر سلطانه…. قصدنا أن نفعل مثل ذلك في عصر سلطاننا … الحاج إدريس بن علي)(3).

ولهذا جمع في كتابه شؤون الملك إدريس السياسية, وصوّر حروبه وغزواته وانتصاراته, كما صوّر سياسته الداخلية, ووصفه بأنه ملك عادل تقي زاهد ورع وفيّ شجاع…(4), وأشار إلى رفقه برعيته, وتخفيفه الضرائب عنهم، حتى تقوى على عمارة الأرض, واستخراج ثمارها.

كذلك أشار المؤلف إلى أنه خليق بالاقتداء بأئمة السلف فوضع كتابه تشبهاً بالمتقدّمين، وعلى كل حال؛ أراد الإمام أحمد البرنوي أن يسلك مسلك القدماء من العلماء الذين قاموا بتدوين تاريخ بلادهم.

كما كان الإمام أحمد معجباً بالملك إدريس إعجاباً شديداً، فكان طبيعياً أن يؤلف كتاباً يجمع فيه بعض آثاره.

 

رؤية نقدية لكتاب (تاريخ الماي إدريس ألومه وغزواته):

قد نتساءل هل يتمتّع هذا المؤرخ بجميع شروط المشاهدة العلمية؟ وهل هو في مكان يتمكن فيه من مشاهدة الحوادث مشاهدة صحيحة، وأن يدوّن ما شاهده في أثناء وقوع الحوادث المرويّة، وأن يوضح بجلاء طريقته في المشاهدة والتدوين؟

لقد ضمّن الإمام أحمد البرنوي في كتابه (تاريخ الماي إدريس) نبذاً ونوادر متفرقة عن السلطان إدريس ألومه, من بيئته ووسطه وظروفه الخارجية, وقام بتسجيل ما شاهده من غزوات الملك إدريس ألومه كما أشار إليه فيما نصّه: (… ثم بعد فراغنا مما نحن بصدده؛ نكتب – إن شاء الله تعالى- ما يتعلّق بأمر بلدة كانم؛ مبوّباً له على حدته, على نحو ما رأينا)(5), كما أتاحت مكانة المؤلف أن يرى بنفسه ومن قريب كلّ ما كان في هذه الدولة من عوامل قوة أو انحلال وضعف.

لكن المؤرخ أو الراوي قد يشاهد ما يروي، لكنه يكون في مكان أو ظرف لا يتمكّن فيه من التدقيق في النظر والسمع، أو يشاهد ما يروي لكن ينقصه الاستعداد لفهـمه، أو يتأخر في التدوين فتخونه الذاكرة، وتؤثر فيه ظروف مستجدّة، فلا ينقل إلينا الخبر اليقين، وإذاً (الذكريات) التي لا تُدَوَّن إلا بعد مرور الزمن قد تكون من أضعف الروايات(6).

ومن طريف ما يتضمنه التأليف اعتراف مؤلفه، الإمام أحمد البرنوي، بتأخره في تدوينه؛ أعنى بذلك أنه مع تمكنه من مشاهدة الحوادث مشاهدة صحيحة؛ لم يكن يدوّن ما يشاهده في أثناء وقوع الحوادث التي رواها؛ كما فعله العلامة السودان الشيخ عبد الله بن محمد فودي في كتابه الشهير (تزيين الورقات) الذي يروى فيه حوادث في حركته الإصلاحية مع أخيه الأكبر الشيخ عثمان بن محمد فودي، وعلى خلاف هذا فقد شاهد الإمام أحمد البرنوي الغزوات لكن يبدو أنه تأخر في التدوين.

وهذا التأخر قد يؤدي إلى بعض التساهل الملاحظ في الرواية، كأن تتعلّق روايته بحقيقة عامة تشمل عدداً كبيراً من النفوس أو عدداً من البلدان؛ مما لا يتيسر لفرد واحد مثله الإحاطة الشاملة به والتدقيق فيه على وجهه الأشمل، فكان في روايته كلام إجمالي عن بعض حقائق تاريخية, وكذلك تعميم في المعنى مما يستوجب الانتباه والتأني.

قال الإمام أحمد في سرده لبعض غزوات الملك إدريس: (وأين أنتم مما فعله مع قبيلة سوى ممتثلاً لما أمر الله – تعالى – من قتال الكفار الذين كانوا أعادي المسلمين والغلظة عليهم, ومما فعله أيضاً مع أهل البلد أمسكا, وقد قيل إن هذه الشوكية حصرت قبل شوكيتنا التي حضرها السلطان علي بن أحمد, ومما فعله مع أهل كنه حين بنوا في أرضهم الشوكية الكثيرة قاصدين خيانة أرض برنوح, كانوا يغيرون عليها وينهبون ما أصابوا, ويفرون إلى شوكياتهم وحصونهم)(7).

وقد أهمل الإمام أحمد هنا ربط الأسباب بالمسببات, أو بعبارة أخرى ربط الأحداث والوقائع بنتائجها؛ إذ لم يذكر سبب قتال بلدة أمسكا، كما لا يذكر آثار تلك الغزوة التي وقعت بين الملك وأهل البلد المذكور.

ومن المستحسن أن تتحلى رواية المؤرخ بالوضوح، خاصة عند ذكر بعض الوقائع المهمة، وهذا ما اهتم به منهج تدوين التاريخ الحديث، الذي يهدف إلى إعادة تشكيل الحوادث التاريخية ودراستها؛ بغية وضع روايات تعتمد على الدقّة في مضمونها وسردها, فالمؤرخ ينبغي له أن يجتهد في التحقق من الوقائع، ويسأل كيف حدثت(8) ولِـمَ، ويفتش عما فيها من حقائق.

ومن الصعب أن يسجل المؤرخ كلّ ما حدث، وليس من الواجب أو من الممكن أن تكون الحوادث كلها جديرة بالتدوين، وبالرغم من ذلك يمكن لمؤرخ أن ينهج هذا المنهج في تدوين التاريخ، ويختار من المعلومات الكثيرة المتوفرة لديه، خصوصاً التي تتطلبها حقائق تاريخية، وذلك مع مراعاة الدقّة والوضوح وصحّة الأخبار(9).

وهذا ما نراه لدى الإمام أحمد بن فرتوا حين يستغرق في وصف المعارك التي اندلعت بين الملك إدريس وجيوش المسلمين وبين الكفار المشركين في المملكة وخارجها, أو وصف بعض حروبه في المملكة ضدّ بعض القبائل أمثال قبيلة سو So وقبيلة بلالاBulala ، ومن هذا على سبيل المثال وصفه لحرب قبيلة سوغفتا: (لما أن قصد حرب الأعداء من قبيلة سوغفتا وأراد إهلاكهم وتدميرهم؛ بنى المدينة الكبيرة بحذاء بلد دمسكه, وأمر فيها شطيمه… وجعل للمدينة أربعة أبواب, وأقام على كل باب حاجباً, وأسكن بها جنوداً من عساكره, وأمر كلّ من له قوة ومنعة من عماله أن يبنوا دياراً ويسكنوا فيها… لطلب الأعداء، مصرّين على هذا الحال, إلى أن قدّر الله – تعالى – خراب مصرهم)(10)، هكذا لم يهمل المؤلف شيئاً يتّصل بما يصفه؛ بالمقدار الذي يقتضيه المقام, وتتسع له الصفحات.

ومن الجدير بالذكر أن تدوين تاريخ، كالذي نحن بصدده، ينبغي له أن يسجل الحوادث بهدف إفادة الناس, لا بهدف المتعة والترويح عن النفس برواية قصة أو حكاية أسطورية وغير ذلك, كبعض المؤرخين مثل هيرودوت.

وعلى جانب آخر؛ نلاحظ إكثار الإمام أحمد البرنوي من السجع والعبارات الأدبية والاقتباسات، والحق أن المؤلف لا بأس بقلمه؛ إلا أن تدوين التاريخ الذي يقوم به لا يحتاج إلى الإكثار من المحسنات اللفظية والاقتباسات والتكلف فيهما.

لكنه على الرغم من ذلك أجاد في تعبيره وأفاد، وهو ما يشهد لسعة علمه وتمكنه من القواعد اللغوية العربية، ونحن نقدّر نضج نتاجه الأدبي والعلمي وتمكنه من قواعد اللغة، ومن أمثلة عباراته واقتباساته: (أعمل فكره في سياسته)، (قطع دابر القوم الذين ظلموا)(11)، (ضدّ الكافرين والمشركين الذين لا يتناهون عن سبي مسلمي المملكة، والإفساد فيها، ولا يفترون عن فعل القبائح…).

ويقوم الاتجاه الأدبي النيجيري في هذه المنطقة وما جاورها من بلاد إفريقيا الغربية، على الأسلوب الديني، مع التأثر بالصبغة الصوفية، والاعتماد على الصناعات اللفظية التحريرية(12)، والتعرف إلى أدب العصر الذي عاش فيه المؤرخ، والاطلاع على بدائعه وروائعه؛ تفيد في معرفة المثل العليا التي أثرت في أسلوبه، وتيسر فهم روايات المؤرخ وتقديرها حق قدرها.

وإذا كان أسلوب المؤلف هنا أدبياً، يعتمد على الألفاظ والتراكيب البلاغية للتأثير في النفس؛ فإن ذوقه الفنيّ هذا لا يمنعه أن يتّفـق مع الحقيقة، ويستطيع المؤرخ إذا جمع إلى دقة رواياته التاريخية للأحداث بلاغة الأسلوب ودقّـة الألفاظ، أن يبلغ القمّة في أداء مهمّته التاريخية(13).

ونأتي إلى جانب آخر من جوانب نقد هذا الكتاب، وهو المعاصرة بين المؤلف والمترجم له، فالمعاصرة تحقق شيئين اثنين، كما يرى بعض المفكرين، وهما الوقوف على إنصاف المؤرخ وعدالته في جانب، والكشف عن جور المؤرخ وظلمه في جانب آخر(14).

يمكننا أن نفهم في طيات هذه الفكرة السديدة؛ أن المؤرخ الذي عاصر الشخصية أو الحادثة؛ يستطيع أن يسوق روايته دون تحيّز أو تعصب، كما يمكنه أن يصور لنا أخباراً غير صادقة؛ حتى لا نستطيع أن نميّز بين الأخبار الصحيحة والأخبار الكاذبة, ويشبه هذا البيانات السياسية الرسمية، والتي تنشرها بعض الحكومات عن شخصية ما أو حادثة، فقد تصدق فيما تنشر، أو تكذب، أو لا تنشر كل الحقيقة.

ولا نجانب الصواب إذا عددنا كتاب الإمام أحمد نوعاً من الترجمة الشخصية الأدبية، والدافع لهذا الحكم هو وجود (المعاصرة)، فالإمام أحمد البرنوي كان يعاصر الملك إدريس، وقد صاحب تلك المعاصرة قيام صلة وعلاقة جيدة بينهما، أدت إلى توافقهما وتعمير صدورهما بالصداقة والمودّة، كما هو ظاهر في موقفه في إخباره عن الملك إدريس ألومه، وستأتي أمثلة لذلك.

وإن سأل سائل إذا كان الأمر هكذا؛ فهل أخبار الإمام أحمد البرنوي صحيحة أو رديئة؟ ثابتة أو مزورة؟ والجواب أن أسلوب المؤرخ يخالجنا فيه الشك والظنّ إلى حدّ ما.

وبالرغم من ذلك، فلا شك أن المعلومات الواردة في الكتاب تاريخ الماي إدريس للمؤرخ الإمام أحمد قد سلّطت الأضواء على تاريخ إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، خصوصاً شمال نيجيريا حالياً، فإذا هي تبدّد كل ظلام فيه، ويكفي أن المؤلف من الذين شاركوا في بعض أحداث المملكة, فقد سار مع الملك في كل جهة, وفي غزواته التي يروي عنها, ورأى سفينة هذه المملكة وما كان يتجاذبها من عواصف من كل جانب، من الداخل والخارج.

ومن الملاحظات النقدية المهمة أيضاً؛ كثرة ترديد الإمام أحمد البرنوي لعبارات التودد للسلطان إدريس، فقد تضمّن الكتاب الشيء الكثير منها ومن عبارات تقديم الإخلاص والمحبة للملك، لكن من المهم أن نشير إلى احتمال قبول هذا التودد لذوي السلطان في عرف الناس حينذاك؛ إذ كان ذلك من عادات الناس في العصور الوسطى وأعرافهم، وهذا لا يعنى أن المؤلف والمؤرخ لا يكون مخلصاً فيما يرويه, لكن مثل هذا التقرب قد يؤدي إلى الانزلاق العاطفي.

وفي جانب آخر؛ نلاحظ الثناء المبالغ فيه للملك إدريس ألومه، والتنويه به في كل رواية، فقـد تحدث المؤلف عن عجزه عن استقصاء أوصاف المترجم له الكثيرة ومناقبه الغزيرة، وأنه إذا اجتمع عدد غفير من العالمين على ذكر تلك الأوصاف لا يقدرون على ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً! وتحدّث عن ذلك قائلاً: (لا نطيق نحن بذكر أوصافه الكثيرة ومناقبه الغزيرة, ولو اجتهدنا فيه اجتهاداً شديداً لما أتينا بعُشْرِها… ولو أن جماعة العالمين الوافرين اجتمعوا على ذكرها لم يقدروا عليه)(15)، وقال أيضاً: (إننا أظهرنا إليكم عجزنا وبينا لكم قصورنا عن استقصاء أفعال سلطاننا التي أبداها في إمارته برسم الأقلام وتحريك البنان, وكيف يمكن ويسهل لنا ذلك مع استعماله بأكثر ما في الكتاب والسنّة من خصائل الجهاد في سبيل الله قاصداً وجهه الكريم وثوابه الجسيم, ولذلك قصرنا ذكر غزواته كلها على ما وصفنا في هذا التصنيف فقط) (16).

ويأخذ المؤلف في سرد طائفة من أوصاف المترجم له الملك إدريس ألومه، حتى يبلغ هذا الوصف مبلغ التقديس والتبجيل، ويستهلّ الإمام أحمد البرنوي بثناء الملك فيقول: (هو الملك الفقيه العادل التقي الزاهد الورع الوفي الشجاع الحاج إدريس بن علي… بارك الله في خلفه بركةً عظيمةً)(17).

ولا شك أن في الإكثار من وصف المترجم له نوعاً من التأثر العاطفي، أو أقول بعبارة أخرى الانزلاق العاطفي, الذي يمكن أن يؤدي إلى التعصّب الذي لا يستطيع معه المؤرخ أن يروي أخلاق المترجم له الذميمة إن وُجدت، كما سيأتي بيانه.

وقد يرجع سبب مبالغة الإمام أحمد في الثناء على الملك إدريس إلى تأثره بأسلوب التراجم الصوفية؛ والإمام أحمد البرنوي، الذي كان لا يزال في خدمة الدولة, وفي قائمة الموظفين في المملكة، وخاصة في البلاط الملكي, كان ينظر إلى الملك كشيخ له ومربٍّ.

وأهمّ ما يميّز التراجم الصوفية تصوير سلوك شيوخهم، والتركيز على كثير من تجاربهم التي قد تُعدّ في جوانب منها غريبة، وخاصة حين يتحدّثون عن سيرتهم, ويعرضون كراماتهم ومكاشفاتهم وما عرض لهم من الأحوال، ولا يرون بأساً في الثناء عليهم، وقد اصطبغ كثير من النتاج الأدبي في هذه الديار بهذا اللون من الأسلوب.

وقد يكون السبب أنه كان يؤرخ لملك، وأمير للمؤمنين، وهو ما يستحق من أجله التقديس والتبجيل في المملكة, والتنويه به في كل رواية, لكن هذه المبالغة في التنويه غير مقبولة في تدوين التاريخ؛ لأن التاريخ أمانة في عنق المؤرخ, ويجب أن يؤديه بصدق وأمانة وإخلاص, كما يجب أن يستوفى المؤرخ شروط التاريخ ومنهج تدوينه.

وإذا كان الإمام بالغ في وصفه للملك إدريس، ورأى أنه بذلك قد يسرّ الملك ويحظى عنده بالقبول والتقدير؛ فإنه بذلك يكون قد أخفق في مراعاة شروط كتابة التاريخ؛ إذ يمكن أن يشوب روايته شيء من الزيف والبهتان، يؤدي إلى التباس الأمور, وصعوبة الكشف عن الحقائق التاريخية.

كذلك نلاحظ وجود تحيّز أو تعصّب لدى الإمام أحمد البرنوي للسلطان الذي يؤرخ له, فهو يُخبر عن محاسنه دون أخلاقه الذميـمة؛ كما يرى المؤرخ هنويك(18), ويبدو أن الإمام أحمد كان متحيزاً للسلطان في تاريخه، فاضطر، عن قصد أو غير قصد، أن ينظر إلى الملك إدريس بعين الرضا لانتمائه إليه، وهذا المنزلق قديم العهد في مهنة التأريخ, وقد أشار إليه المؤرخون قديماً(19)، ومنهم العلامة ابن خلدون؛ إذ رأى أنه من الأخطاء التي تعرض للمؤرخين, وتتسرّب إلى الرواية التاريخية، وذكر أن التشيّعات تغطّي على عين بصيرة المؤرخ، فتحجبه عن الانتقاد والتمحيص، فيقع في رواية كاذبة(20).

لكن قد يتمكن المؤرخ، مع تعاطفه وميله لفئة أو حاكم ما، من أن يكون متوازناً في رواياته، مثل المؤرخ الأخلاقي مسكويه, وهو من رجال القرن الخامس الهجري, فقد كان متصلاً ببني بويه, وهم ملوك الدنيا في زمانهم, ولكنّ ذلك لم يمنعه من أن ينتقد بعض أعمالهم في رواياته عنهم, ويعلّق على بعض تصرفاتهم(21).

ومما يؤخذ على هذا كتاب الإمام أحمد البرنوي أيضاً؛ رفعه لنسب الملك إدريس ألومه إلى قبيلة قريش، فهو ينسبه إلى نسل أمي بن عبد الجليل من سلالة سيف بن ذي يزن إلى قبيلة قريش، فقد قال الإمام أحمد البرنوي في ذلك: (وهو الملك الفقيه العادل التقي الزاهد الورع الوفي… الحاج إدريس بن علي… من نسل أمي بن عبد الجليل من سلالة سيف بن ذي يزن, ومن مصاص قريش, ومن منح حمير, بارك الله في خلفه بركةً عظيمةً)(22).

وإذا كان من الممكن أن يوفـق المؤرخ أحمد البرنوي إلى الصواب برفـع نسب الملك إلى نسل أمي بن عبد الجليل إلى سلالة سيف بن ذي يزن؛ فإنه قد أخطأ حينما ذكر في كتابه أن سيف بن ذي يزن من مصاص قريش، والحق إن سيف بن ذي يزن من أبطال العرب وهو من سلالة حمير في اليمن(23) جنوب الجزيرة العربية, فإن ما يمتدّ من الحجاز إلى الجنوب يُسمى اليمن, وكان سكانها شعب قحطان, وكانت لهم فيها عمارة عظيمة وحضارة زاهرة, بينما كان سكان الحجاز هم الشعب العدناني, وقد أقامت بطون قريش في مكة وضواحيها، ونظراً لبعد المسافة الجغرافية بين هذين الشعبين المذكورين؛ فمن المستبعد وجود علاقة واتصال نسبِيّ بينهما.

وقد انتقد القلقشندي هذا الربط بين ابن ذي يزن وقريش في كتابه صبح الأعشى, حيث شكك في صحّة هذا الانتساب القرشي الذي ذهب إليه المؤرخ أحمد بن فرتوا, وذكر أن قصة النسبة القرشية خرافة، قال القلقشندي معلّقاً على هذا الادعاء السيفي القرشي: (إلا أنه لم يحقق النسب، فذكر أنه من قريش, وهو غلط, فإن سيف بن ذي يزن من أعقاب تبابعة اليمن من حمير)(24).

 

الخـاتمة:

هذا الكتاب في شـؤون الماي إدريس ألومه وثيقـة مهمّة في تاريخ هذه الحقـبة بكانم برنو، فهو من ناحية يعطينا صورة للأحداث التي مرت بها المنطقة, وما آلت إليه أحوال المملكة, كما أنه بوجه عام غني بمعارف كثيرة، نطلع من خلالها على جوانب من تاريخ أمتنا الإفريقية الإسلامية في القرون الماضية، والإمام أحمد البرنوي بكتابه هذا يُعد من أبرز المؤرخين الذين نهضوا بعبء تدوين تلك المرحلة التاريخية لذلك العهد الإسلامي في إفريقيا، حيث سجّل كل ما استطاع تسجيله ليجمع لناّ هذه المعلومات الوفيرة عنه.

والقارئ لا يمضي في قراءة الكتاب حتى يُعجب بشخصية المترجم له؛ فالكتاب يُرينا بعض شؤون الملك إدريس ومملكته كانم برنو الاجتماعية إلى حدّ ما، ويصفه وصفاً مسهباً، ويعرض لنا ما واجهه إدريس ألومه من مشكلات في إمارته, وما دُبّر ضدّه من ثورات, وما دخل فيه مع أعداء إمارته من الحروب والغزوات، ويشير في أثناء ذلك إلى صور من الانحلال السياسي والاجتماعي، والتي أدت إلى إعلاء كلمة الملك إدريس ألومه.

ومع أنه لا يصحّ أن نعتمد كل الاعتماد على ما جاء في الكتاب من معلومات دون تدقيق وتحليل؛ فلا يمكن أن نُغفل محاولة الإمام أحمد التماس الدقة والتحري فيه، أو محاولته إثبات صحّة رواياته في طيات كلامه، ولذلك نجده في الكتاب يقرّر ذكر (بحسب ما رأينا وما سمعنا, والله العالم الكامل, والحكم الشامل، ثم بعد فراغنا مما نحن بصدده نكتب إن شاء الله – تعالى – ما يتعلّق بأمر بلدة كانم؛ مبوّباً له على حدّته, على نحو ما رأينا)(25), وكثرت مثل هذه العبارة (حسب ما رأينا) في فصول من الكتاب.

كما حاول المؤرخ أن يتخلّص من كل هوى وعصبية وتحيّز؛, مبتغياً في كتابه الحق ما أمكنه، ليسجل لنا ما استطاع من تاريخ بلاده وإمارة أهله تسجيلاً مستبصراً، يعرض الحوادث بجميع تفاصيلها؛ لتحكم بأنه كان حازماً في كتاباته، وأن ما سجله كان هو الوجه الذي ينبغي أن يختاره العاقل الحصيف.

وقد أظهر المؤلف تواضعه في إيمانه بأن الإنسان في تصرّفاته لا يكون كاملاً، وأن الكمال كله لله – تعالى – وحده، وهو ما يُظهر لنا تأثير البيئة الإسلامية التي ينتمي إليها هذا المؤرخ الجليل في عاداته وسلوكه؛ باقتدائه في تواضعه هذا بعلماء المسلمين.

 

(*)قسم اللغة العربية والإسلامية – جامعة ولاية كوغي.

 

(1)فضل كلود الدكو, الثقافة الإسلامية في تشاد في العصر الذهبي لإمبراطورية كانم، كلية الدعوة الإسلامية، 1998، ص 181.

 

(2) Palmer, Preface، الإمام أحمد البرنوي, “تاريخ الماي إدريس…”, مطبعة الأميرية، كنو، 1932م.

 

(3) المرجع السابق، ص 2.

 

(4) المرجع السابق، ص 2.

 

(5)المرجع السابق، ص 7.

 

(6)رستم أسد, مصطلح التاريخ, ص 78.

 

(7) الإمام أحمد البرنوي, “تاريخ الماي إدريس…”, ص 4.

 

(8) Schlozer, “On Historiography”.

 

(9) Osokoya, O.O. “Writing & Teaching History: A Guide to Advanced Study”, Ibadan, Laurel Education Publishers, 1996, p. 23 .

 

(10) الإمام أحمد البرنوي, “تاريخ الماي إدريس…”، ص 8 وما بعدها.

 

(11) المرجع السابق، ص 9.

 

(12)الألوري, آدم عبد الله, مصباح الدراسات الأدبية في الديار النيجيرية, بدون تاريخ, ص 5.

 

(13) الفلاني, آدم يحيى عبد الرحمن, “مع المؤرخين في بلاد يوربا…”, ص 157.

 

(14) المرجع السابق، ص 44.

 

(15) الإمام أحمد البرنوي, “تاريخ الماي إدريس وغزواته…” مطبعة الأميرية، كنو، 1932، ص 3.

 

(16) المرجع السابق, ص 6.

 

(17) المرجع السابق، ص 2.

 

(18) Hunwick, John “Source Materials for the History of Songhay, Borno, & Hausaland in the 16th C.” Research Notes, in JHSN, Vol.iii, No. 3, 1974, p. 585 .

 

(19) رستم أسد, مصطلح التاريخ, المكتبة العصرية، 2002، ص 74.

 

(20) ابن خلدون, عبد الرحمن، مقدمة تاريخ العبر, طبعة دار النشر, ص 4.

 

(21) عبد الغني, حسن محمد, علم التاريخ عند العرب, مطبعة التقدم – مصر, ص 116.

 

(22) الإمام أحمد البرنوي, “تاريخ الماي إدريس …”, ص 2.

 

(23) Paret, R. Siirat Ibn Dhi Yazan, Borno Sahara & Sudan Series, 2006, p. 113 .

 

(24)القلقشندي, أحمد، صبح الأعشى في صناعة الإنشا, ج 5، ص 279.

 

(25) الإمام أحمد البرنوي, “تاريخ الماي إدريس …”، ص 7.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.