الثقافة والسياسة والماركسية

0 54

 

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

أنا مدين لصحه٧فيين كثيرين عقدوا معي لقاءات كانت حصائلها بفضل نباهتهم من أعز كتاباتي. وهذه مقبلة جلست فيها إلى إبراهيم مختار علي فضفضنا في مسائل شتى كان منها الثقافة والسياسة. وأنقلها أدناه لكم.

سؤال: كيف ترى اشكالية الثقافة والسياسة في السودان؟

ساتغاضى عن الثقافة والسياسة في الأحزاب التي تأسست من جماعات دينية صوفية على أهميتها في هذا الجانب. وسأنظر في تجربة الشيوعيين والإسلاميين. فتناطحت السياسة والتربية فيهما في وقت باكر. أهل السياسة مثل أستاذنا عبد الخالق محجوب وحسن الترابي رأوا الخوض في السياسة بالعموميات الفكرية المتوافرة بينما رأى أهل التربية مثل عوض عبد الرازق في الشيوعي وجعفر شيخ إدريس في الإخوان إرجاء الخوض السياسة حتى نضمن حسن ثقافة الأعضاء في فكرتهم. وفي الحركتين انتصر أهل السياسة على أهل التربية حتى اشتكي الدكتور الإسلامي التجاني عبد القادر أنهم سموا مثله “المثقفاتي” لقلة القيمة. فلا نفر له من قبيلة . . ولا مال .

ولم يكن يعني انتصار الممارسة السياسة مدابرة للتربية. في الحزب الشيوعي انعقد العزم على استدراك التربية. مثلاً كان مقصوداً من إرسال عدد كبير من كادر الحزب للدول الاشتراكية رتلاً بعد رتل منذ بعثة محمد إبراهيم نقد في منتصف الخمسينات أن يصقل هذه الكادر معارفه في جوانب الماركسية ليطبقها عن بصر وبصيرة على الواقع السوداني. وظلت أوسع مساعي عبد الخالق بعد ثورة أكتوبر، التي بان فيها فقر الحزب النظري والمعرفي، أن يستدعي الثقافة لتتدارك السياسة التي تقطعت أنفاسها بعد نصرها في أكتوبر. وذكرتُ مراراً كيف وجد عبد الخالق في مفهوم “المثقف العضوي” للمفكر الإيطالي أنطونينو قرامشي ضالته. ومات المسكين ولم يحقق من هذا المسعى شيئاً. ونبهت إلى خطة معاكسة حدثت للجمهوريين. فقد بدأ الاستاذ بالسياسة مثل ثورة رفاعة ومظاهرات جرى تحريكها من مقاهي الخرطوم بواسطة شباب الحزب ثم تحول إلى التربية بعد خلوته المعروفة وجلوته. وكان أن استغرق في التربية ليوم تنضج فتتسيس. ولكنه في انتظار ذلك النضج وقع في مهادنة نميري مما جلب له المؤاخذة. وكان يوم نهايته يوم سياسته في معارضته لقوانين سبتمبر 1983.

أذا أردنا معرفة شدة الطلاق بين الثقافة والسياسة فأفضل زواية لذلك هي الحركات المسلحة. فاللجوء للسلاح نفسه ربما عكس ضيقاً بالصبر على التنوير والتحشيد. واستنكرت مرة بقولي إن بلدنا دفعت دم قلبها لينال بعض شبابها شهادة عليا وإذا بهم يفضلون أن يقال لهم “المقاتل فلان” لا “الدكتور فلان”. وأقول عرضاً قرأت بالأمس أن الحركة الشعبية شمال قررت إعادة اصدار مجلتها الثقافية بعد توقف عقود. سؤالي: لماذا توقفت أصلاً؟ بالطبع ليس من قل المال لأن ثمن كاتوشا واحد كاف لإصدارها أبد الدهر. إن تفسير ذلك الوحيد أن السياسة بالحرب وبغيرها ظنت أنها لا تحتاج إلى الثقافة وهكذا صار حالها حديد يأكل حديد. وسيكون مفيداً أن ننظر إلى كساد الثقافة في الأحزاب والحركات على ضوء خروج المحبوب عبد السلام من المؤتمر الشعبي وأبكر آدم إسماعيل الأخير من الحركة الشعبية. لقد سبق للسياسي في المؤتمر الشعبي تشييع المحبوب إلى كوم نفايات الحزب. قال عنه إبراهيم السنوسي، الكادر التنظيمي بالحزب، لمحرر سأله عنه إنه يود أن ينشغل بأمهات الأمور عوضاً عن الحديث عن المحبوب. وهذا مثقف قضى نحبه. أما أبكر، الرجل المثقف من الطراز الأول الذي أعطى حركة المهمشين لم يستبق شيئا، فمن من ينتظرون.

 

كيف تفسر فشل الحركة اليسارية في مشروع التنوير في الواقع السوداني؟

لنحسن فهم هذا الفشل (الذي لا نريد له أن يكون عاهة) وجب أن يولي غير الشيوعيين من الصفوة فهم الصراعات داخل الحزب الشيوعي بصورة أفضل مما تجد الآن. فالكثيرون يعتقدون أن هذا الفشل ثمرة استبداد هذا أو ذاك، أو أنها وجه من وجوه الانتهازية السياسة، ناهيك عن من نسبوا الفشل دائماً كنتيجة حتمية لغرابة الفكرة عن ما يسمى تراثنا. أما الشيوعيون أنفسهم فنفَّروا الناس من فهم هذه الصراعات لأنهم جعلوها مثل صراع بين الخير والشر، بين المتمسكين بالمباديْ والمنفنسين، صحصح فيها الحق وأنمحق الباطل.

لم يكن الحزب الشيوعي في أي يوم من حياته كتلة واحدة صماء. ظل الحزب ساحة صراع أبدي بين العناصر البروليتارية (وأقولها للفصل بين القوات مع أننا لا نستخدم هذه اللفظة في خطابنا) التي تريد نهضة برلمانية بقيادة الطبقة العاملة والكادحين المتمتعين بما عرف ب”الحقوق الليبرالية البرجوازية”. وتجمرت هذه العقيدة من فوق ممارسة الحزب الشيوعي الجوهرية بين الطبقة العاملة والكادحين. فلم ير سبباً لحرق المراحل للاشتراكية متخلصاً من تلك الحقوق فيما سمي ب “الديمقراطية الجديدة أو الموجهة” التي استعبدت الكادحين أول ما استبعدت في دولها عند ناصر ونكروما في غانا وسيكتوري في غينيا.

من الجهة الأخرى كان هناك تياراً بين البرجوازية الصغيرة في الحزب والمجتمع يدعو لحرق المراحل للتخلص من “الديمقراطية الطائفية” في السودان. وهي الديمقراطية الوحيدة المتاحة في السودان إذا ما قامت على صوت واحد لكل ناخب لنفوذ الطوائف والعشائر. والنتيجة معروفة. وسيضطر للانقلاب من ضاق ذرعاً بها ورغب في حرق المراحل وتجريع الشعب غصص السعادة. هذا هو جوهر الصراع في الحزب. وتغلبت البرجوازية الصغيرة في الحزب والمجتمع على البروليتاريين فأصبح حزبنا ينطق في صحوه بلسان كاره للانقلاب ولكنه في الممارسة انقلابي أشر. وتوضيح هذا الصراع في الحزب ولمجتمع يجده القاريء في كتابي “انقلاب 19 يوليو: من دفتر التحري إلى رحاب التاريخ”. ومن أراد أن يعرف قوة الضغط البرجوازي الصغير للديمقراطية الجديدة من خارج الحزب فليقرأ “حوار مع الصفوة” لمنصور خالد وفيه برنامج دقيق لدولة الديمقراطية الجديدة تُلغى فيها كل الحريات البرجوازية الليبرالية بما فيها استقلال القضاء. قال منصور مرة إنه ليس حارق بخور في مايو مثلي، ولكنه صانع مايو. وصدق. إقرأ كتابه “حوار مع الصفوة” وستراه تخيل مايو قبل أن تكون مايو.

أنا اعتقد أن أي تحليل لا يأخذ في الاعتبار هذا الصراع الحزبي والمجتمعي سيفشل في تعيين فشل الماركسية في النهضة القومية. فلسنا نعلق كل الفشل على شماعة تهافت الماركسية العالمي. ولكن كان للسوفيات أدوراهم السلبية (بل المخربة) في ترجيح كفة البرجوازية الصغيرة في حزبنا باسم دعم انقلاب 25 مايو بغض النظر. لقد تطفلوا علينا هذه المرة ولكن لن ننسى لهم يوماً في 1966 حين نصحونا ألا نحل الحزب وندخل في حزب اشتراكي فضفاض نصبح نحن نواته. وكان هذا تمشياً مع ما جرى في مصر حين حل الشيوعيون حزبهم وصاروا طليعة الاتحاد الاشتراكي المصري. لو لم يردونا عن هذا الغي للرماد كال حماد ولماتت “فوانيس البندر البيوقدن”.

أما عن مشروع النهضة فهو أمر استراتيجي طويل وصراع الرجال والنساء متنى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.