عن مؤتمر لجنة عبد الله إبراهيم الصحفي: من وحول الثورة المضادة

0 70

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

بدأت الثورة المضادة بمؤتمر اللجنة العليا للمراجعة واستلام الأموال المستردة بواسطة لجنة إزالة التمكين كتابة تاريخ تفكيك نظام الإنقاذ وثورة ديسمبر ٢٠١٨ تنفث فيه مرارتها وثأرها. والثورة المضادة هي مؤرخ تاريخ السودان المعاصر بلا منازع. فهي التي كتبت سردية الحزب الشيوعي من لدن تأسيس اليهودي هنري كوريل له إلى يومنا. وهي التي كتبت سردية الحزب الجمهوري من لدن ردته إلى يومنا. لم يعد لأي من الشيوعي والجمهوري تاريخاً مستقلاً إلا في معرض الدفاع عن ذلك التاريخ الخاص لا الهجوم به. فليس هو تاريخ “فعلت” بل تاريخ “أنا لم أفعل”. فلا تجد الحزب الشيوعي يقول لمن عابه لخوض انتخابات المجلس المركزي لنظام عبود في ١٩٦٣ إنه دخله في سياق شجاعة في القرار وفدائية للديمقراطية تقاصرت كل الأحزاب عنها. بل بلغ الخجل الشيوعي بوجه لذع تاريخه في براثن الثورة المضادة أن اعتذر رسمياً بالقاهرة عن تلك المأثرة.

شرعت الثورة المضادة بمؤتمر لجنة عبد الله إبراهيم، وزير مالية النظام المباد في جنوب كردفان حتى سقوطه، في كتابة التاريخ المضاد للثورة بتلويث خبرتنا المستميتة في لجنة إزالة التمكين وكسبها في مساءلة رجل الدولة والعمل العام على عوس يديه. فتَمْثُل هذه الخبرة الآن للمحاكمة بفسادها وهرجها المزعومين كجريمة بحق الوطن.

وليست هذه مرة الثورة المضادة الأولى في تزوير خبراتنا التي سبقت في مساءلة رجل الدولة والعمل العام على خيانة أمانة التكليف والتشريف. فهي لم تكتب تاريخ التطهير بعد ثورة أكتوبر لتجعل منه ود إم بعلو يذعر الناس منه ليوم الدين فحسب، بل ألحت عليه الحاحاً استهوى أفئدة ثوريين بالعنوان وأذاعوه كما لم تفعل الثورة المضادة. فتجد الثورة المضادة خلطت لغاية التنفير من هذه المساءلة الغث من تجارب التغيير السياسي بالثمين. فواظبت على عرض استغناء انقلابي مايو ويونيو السياسي عن طائفة من موظفي الدولة وعمالها بحساب ثورة أكتوبر لرجل الوظيفة العامة. والخلاف بينهما ما بين السماء والأرض. ف”تطهير” الانقلابيين معروف ب”الإحالة للصالح العام” بواسطة قوائم صدرت عن مطبخ حزبي بينما حاسب تطهير أكتوبر موظفين بعينهم شهد الناس بمولاتهم للنظام المباد وعن طريق تحقيقات مرفوعة لمجلس وزراء الثورة الممثل للطيف السياسي آنذاك.

لو لوثت لجنة عبد الله إبراهيم لجنة إزالة التمكين بالفساد، مما ورثته من كتابات لمثل الطاهر ساتي ومزمل أبو القاسم في “اليوم التالي”، لنجحت في طعن الثورة في أغلى كسوبها وهو مساءلة القائم بالأمر. فلا قيام للديمقراطية بدون هذا الحساب العسير لها أو له. وتستغرب لمن ينسب قصر أعمار الفترات الديمقراطية فينا لخلونا من الثقافة الديمقراطية ولا يطرأ له أنها في حرب سجال مع ثقافة الاستبداد الراسخة. ولن نستحصل هذه الثقافة إلى يوم الدين إذا كان ولاة أمرنا فوق المساءلة. فالديكتاتورية التي سممت حياتنا لأكثر من نصف قرن من مشيئة طائفة من الناس تريد أن تثرى عن طريق سلطان يسومنا الخسف على حل شعره.

ولا أعرف عبارة جسدت تلازم الديمقراطية بالمساءلة، وإن بالسالب، مثل قول معتاد للبشير المخلوع، من أن حسابه سيكون في الآخرة لأنه لم يأتنا عن طريق الانتخابات. وهذا تسويف مريح لخاطر الديكتاتور. فهو بمنجاة من حساب الدنيا الذي عليه عماد الولاية في الحكم الديمقراطي. ولن يمكث هذا الحكم بيننا في الأرض بلا ثقافة المساءلة. فلا تولد الأمة الحديثة بهذه الثقافة، بل “تتاتي” بها حتى تستدير قمراً. فإذا فرطنا في كسب لجنة التمكين وخبرتها كما هي المكيدة من وراء لجنة عبد الله إبراهيم، سنكون امتنعنا شرعاً من بذر ثقافة الديمقراطية فينا. فهي كسب وسهرنا بثورات على توطينها فينا بينما تغالبنا الثورة المضادة. وتتربص ب”الطفلة الصبية”، ثقافة الديمقراطية، وتطلق كلاب حراستها مثل لجنة عبد الله إبراهيم لتطلق عليها النار.

كان أول ما اقترحت في واجباتنا بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر أن تظل لجنة إزالة التمكين في حالة انعقاد بصورة أو أخرى. وقد خشيت أن تتحول اللجنة، والثورة المضادة قد استولت على أرشيفها، من الهجوم. إلى الدفاع. وهذا موقف خذول في خاتمة الأمر. وكانت عبارة وجدي صالح أمس في التعليق على مؤتمر لجنة عبد الله إبراهيم من صنف الدفاع الذي بلا مستقبل. ولا تستحق لجنة عبد الله إبراهيم الرد دفاعاً ليس في جوهره هجوماً على أصل ما اقترفته دولة الإنقاذ في الوطن. فاللجنة وحول. وقال المتنبي:

إذا اعتاد الفتى خوض المنايا  ***  فأهون ما يمر به الوحول

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.