ينبغي ألا نلوم الكتاب المصريين على مواقفهم وكتاباتهم عن السودان ..
كتب: بروفيسور أحمد الياس حسين
.
أثير في الآونة الأخيرة موضوع كتابات وأحاديث بعض الصحفيين المصريين عن السودان واستوقفني كثيراً ما صدر عن الكاتب المصري محمد حسنين هيكل عن السودان، وقد أعجبني رد الأستاذ خالد موسى دفع الله “جديرون بالاحترام” الذي اطلعت عليه في سودانايل يوم 11 /1 /2004.
كما انني أوافق الأستاذ عثمان ميرغني في كل ما كتبه “غضبك جميل” في صحيفة اليوم التالي يوم 16 /1 /2004 وكذلك ما ورد من ردود على كتابات أخرى في موقع صحيفةالراكوبة.
وأود هنا التعليق على جانبين:
١. جانب الكتابات المصرية بصورة عامة عن السودان، ثم ٢. التعليق على ما ورد من هيكل عن “أن السودان عبارة عن جغرافيا وتحالفات قبلية” وقوله بأن السودان ليس “أمة لها هوية وطنية جامعة”
أرى أنه ينبغي علينا، ألا نتوقع من الكتاب المصريين غيرما كتبوا وألا نطلب منهم تغيير مواقفهم وكتاباتهم تجاه السودان، فالسياسيون والكتاب المصريون صادقون مع أنفسهم فيما يكتبونه عن السودان. فكتاباتهم وسياساتهم تجاه السودان تعبر عن فهم المصريين بصورة عامة للسودان.
المصريون لا يجهلون السودان بل يعرفونه جيداً في نطاق نشأوا عليه وتشربوه في مناهج التعليم المبكرة وفي الوعي الجمعي المصري الذي ترسب منذ فتح محمد على للسودان في عام 1821م.
ذلك المفهوم هو: أن جنوب وادي النيل يمثل امتداداً طبيعياً لمصر، وأن المصريين أوصياء على سكانه القُصّر والمحتاجين إلى من يشرف على إدارة وتنظيم أوضاعهم وثرواتهم التي تمثل المجال الحيوي لسكان شمال الوادي.
السودانيون في نظر الكتاب والساسة المصريين لم يبلغوا مرحلة الرشد بعد ولا زالوا في مرحلة قبول الاستعمار – بمعنييه السياسي والعمراني – وكل خطاباتهم ومخططاتهم تصب في هذا المجرى.
على سبيل المثال البرادعي – المرشح السابق لرئاسة مصر – والذي لم تؤد حياته وثقافته الغربية من تغيير فهمه للسودان حينما قال إبان بداية الأزمة بين حكومة الاخوان المسلمين والجيش في مصر وتدخلت بعض الرموز السودانية أو أبداء رغبتها في التدخل للمساهمة في حل الأزمة، قال البرادعي ما معناه: “حتى السودانيون أتوا لمساعدتنا”
فقوله هذا يعنى يا للهوان والمهانة التي بلغها المصريون، ألا نحترم أنفسنا حتى يتدخل القُصّر في شؤوننا.
وعندما قيم هيكل ثورة أكتوبر السودانية وقال إنها ليست بثورة. ويكون التفسير المقبول لذلك هو أنه يرى أن من قاموا بتلك الحركة لا يتوقع منه القيام بثورة، ولذلك ربما لم يزعج هيكل نفسه حتى بدراسة أحداث تلك الثورة. ولمّا تبين له صدى رأيه في السودان توقف عن الكتابة لأنه رأى أن ما يؤمن به لا يرضي السودانيين. وربما لنفس السبب أحجم الأستاذ أنيس منصور- رحمه الله – عن الكتابة عن السودان.
وعندما قال هيكل إن “السودان لا يشكل أي خطورة على مرتكزات الأمن القومي المصري” لم يقصد نفي وجود ذلك الخطر، بل كان يرى آن هنالك خطر ولكن لا خوف من أن أهل السودان قد يتمكنون من القيام بما يهدد أمن مصرالقومي. وإلى جانب ذلك فهنالك من الاحتياطيات ما يجعل حدوث مثل ذلك الخطر أمراً مستبعداً مثل عدم السماح بقيام نظام سياسي معادٍ لمصر في السودان أو نظام “مستقل عن نفوذ مصر السياسي الذي اكتسبته بالتأثير المباشر ووجود نخبة سياسية موالية” كما عبر هيكل.
ينبغي علينا ألا نلوم المصريين على ذلك ولا نطلب منهم تغيير هذا الفهم، فذلك التغيير بالطبع لا يأتي بالرجاء والطلب. فنحن في الواقع لسنا في حاجة إلى ذلك، ولا يضيرنا جهل الجاهلين الذي غذّاه السياسيون والكتاب منذ عصر عمر طوسون وعبد الرحمن الرافعي.
فإشكالية الأمة المصرية يأتي من غياب وجه مصر الحقيقي منذ نحو ثلاثة ألف سنة. فمنذ القرن العاشر قبل الميلاد خضعت مصر لحكم أسر غير مصرية بدءاً بالأسرة الليبية ثم الأسرة السودانية ثم الأشورية ثم الفارسية ثم اليونانيين ثم الرومان ثم البيزنطيين ثم جاء الفتح الإسلامي الذي بدأ حكمه بعصر الولاة الذين لم يكن بينهم مصري، ثم عصر الأسر المستقلة التي لم يكن بينها أيضاً أسرة مصرية وهي: الأسر الطولونية ثم الاخشيدية ثم الفاطمية ثم الأيوبية ثم أسر المماليك ثم العثمانيين الذين كان آخر حكامهم الملك فاروق الذي أنهي حكمه جمال عبد الناصر في منتصف القرن العشرين.
أي أن المصريين قد خضعوا لحكومات غير مصرية بصورة متواصلة منذ القرن العاشر قبل الميلاد وحتى منتصف القرن العشرين.فجمال عبد الناصر هو أول حاكم مصري لمصر من ثلاثة ألف سنة، ولذلك فوجه مصر الحقيقي كان غائباً طيلة تلك المدة ولم يعد إلا منذ سبعة عقود فقط. فجهل الساسة والكتاب المصريين ناتج عن هذا التراث الضخم من والغياب والتغريب، وإلى أن يستعيد الساسة والكتاب المصريين صورة وجه مصر الحقيقي لا نطمع – وفي الحقيقة لا ينبغي أن يهمنا ذلك كثيراً – في تغيير صورة السودان في أذهان الساسة والكتاب المصريين.
ما يهمنا هو حقيقة الوضع الذي يعيشه السودان الآن ومدى صدق ما قاله هيكل. فلو توقفنا مع أنفسنا قليلاً ونحن نحتفل الآن بعيد الاستلال الثامن والخمسين لنقيم وضعنا. لقد نجح جيل ما قبل الاستقلال في تحقيق الاستقلال فهل نجحنا نحن جيل ما بعد الاستقلال في تحقيق ما نتطلع إليه؟ ما ذا حققنا؟
لقد أجابت أسئلة الأستاذ عثمان ميرغني على ذلك. فنحن في الواقع نزداد تدهوراً مع الزمن، ويبدو لنا الماضي في كل مرحلة من مراحل مسيرتنا بعد الاستقلال أحسن من الحاضر، ونتحسر على الزمن الماضي الجميل.ينبغي علينا جميعاً أن نعترف بفشلنا المتواصل في تحقيق طموحات وآمال ما بعد الاستقلال في كل المجالات الاقتصادية والأخلاقية والتعليمية والصحية وغيرها.
لقد شخص هيكل واقعاً مؤلماً لحالة السودان اليوم بأنه “عبارة عن جغرافيا وتحالفات قبلية مما يعني أنه ليس دولة أو شعباً أو أمة لها هوية وطنية جامعة.” وأود أن أطرح سؤالاً: هل تجمع سكان شرق وغرب وشمال السودان هوية جامعة؟ والهوية الجامعة التي قصدها هيكل هي الانتماء القومي الذي يجمع أفراد الأمة في الدولة في حدودها السياسية. فهنالك أمة أو شعب ودولة ذات حدود سياسية وانتماء.
الهوية القومية تعتمد على الانتماء الذي يقوم على روابط تربط أفراد الشعب في الدولة فتتكون الأمة في حدودها السياسية المعينة. وكلما كانت تلك الروابط قوية كلما كانت الأمة متماسكة وقويت هويتها القومية، وكلما ضعفت تلك الروابط ضعف تماسك الأمة وضعفت هويتها القومية، وإذا ما انعدمت تلك الروابط لم تعد هنالك هوية قومية جامعة. وهذه الحالة الأخيرة “عدم وجود الهوية القومية الجامعة” هي التي وصف بها هيكل السودانيين.
فما هو مدى صدق أو عدم صدق وصف هيكل لنا. هل نحن شعباً يتمتع بروابط قوية وهوية قومية جامعة؟ أو أن روابطنا ضعيفة وبالتالي هويتنا القومية الجامعة ضعيفة؟ أم لا توجد روابط بين شعبنا وليست لنا هوية قومية كما قال هيكل؟
إذا افترضنا أننا أمة تتمتع بهوية قومية جامعة، يعني ذلك أن انتماءنا لهذا البلد بحدوده السياسية بين البحر الأحمر شرقاً ودارفور غرباً وبين النيل الأبيض جنوباً ومنطقة حلفا شمالاً انتماءً قوياً.
ولاختبار هذه الفرضية علينا التعرف على هذا البلد، لأن الانسان لا ينتمي إلى ما لا يعرفه. وبالطبع فإن القيام بذلك يتطلب عدة مؤلفات ولكننا سنقوم فقط بإلقاء نظرة سريعة على الخريطة التاريخية للقطر ثم نتلمس – بإيجاز شديد – مدى ارتباط السكان الحاليين بالبلد في امتداده التاريخي.
يوضح لنا التاريخ والقليل الذي تم اكتشافه من آثار وما تم جمعه من نتائج أبحاث الجينات الوراثية أن لهذا البلد في حدوده السياسية الحالية تراث حضاري يقدر عمرها بأكثر من 7000 سنة. أقام تلك الحضارة شعب تغيرت لغاته ودياناته وثقافاته عبر العصور مؤسساً بذلك الأمة التي حافظت على كيانها وربطتها صلات دائمة وقواسم وأصول عرقية مشتركة عبر ذلك التاريخ العتيق في حقبه المتتالية.
فما هو مدى معرفة سكان هذا البلد بهذا التاريخ والتراث؟أنا لا أفترض على كل المواطنين التزود بكل هذه المعرفة التاريخية، لكنني أرى أن هنالك حد أدنى من المعرفة ينبغي أن يتزود به المثقفون، وحد أنى ينبغي أن يتزود به عامة أفراد الشعب عبر قنوات الاتصال والتواصل المتعددة سواء في مراحل الدراسة المبكرة أو ما تقوم به الدولة أو الأحزاب السياسية والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني من دور في نشر تلك المعرفة.
فالمعرفة بالتراث تتفاوت مستوياتها ولكنها ضرورية.
وهنالك حد أدنى لا بد من توفره للجميع. ويمكن على سبيل المثال النظر للشعب المصري ومدى توفر الحد الأدنى للتراث في ذهنه. كل أفراد الأمة المصرية تقريباً يعلم ويحس بتاريخه وتراثه الضارب في القدم، دون ضرورة معرفة تفاصيل ذلك التراث. المهم ما ترسب في وجدانه من ذلك التراث. ولا يعارض ذلك مع ما ذكر من أنهم خضعوا لحكومات غير مصرية لمدة ثلاثة ألف سنة، فاعتزاز المصريين الأكبر يرجع إلى التراث الفرعوني السابق لهذا التاريخ.
أعود وأكرر السؤال ما هو مدى معرفة الشعب السوداني بتراث هذا البلد مع ازدياد نسبة التعليم العام وكثرة الجامعات وسهولة وتوفر وسائط الاعلام المتنوعة؟ ما هو مدى معرفة وقناعة المتعلمين والمثقفين بمختلف شرائحهم بعمق تراث هذا الشعب ومحافظته على كيانه عبر حقب تاريخه المختلفة؟
أرى أن معرفتنا بتراثنا وتاريخنا عبر حقبه المتعاقبة ضعيفة، بل ربما بلغت درجة العدم عند بعض القطاعات. وأكتفي هنا بإبداء بعض الملاحظات التالية:
أولا: لو قارنا نسبة تاريخ السودان الذي يدرسه التلاميذ في مرحلتي الأساس والثانوي إلى ما يدرسونه من مواضيع التاريخ الأخرى نجده في غاية الضعف وبخاصة التاريخ القديم الذي قد لا يصل 10% مما يدرسونه من تاريخ الأمم الأخرى.
ولك أن تتحدث بلا حرج عن مستوى المادة المقدَّمة. ولا أستثني مؤسسات التعليم العالي مما يعانيه تاريخ السودان وبخاصة في المفاهيم ومعالجة الأحداث.
ثنايا: وَعينا الجماعي بتاريخنا القومي لا يتعدى الخمسة قرون
ثالثا: مجموعات كبيرة من السكان في الشرق والغرب لا يدركون انتماءهم لتراث السودان القديم ويعتبرونه تراثاً خاصا بسكان النيل
رابعا: مجموعات كبيرة من سكان النيل لا يحسون بانتمائهم لذلك التراث القديم الذي يعيشون بجواره بل يربطون أنفسهم بماض أتي بعد نهاية ذلك التراث
خامسا: سكان الشمال والشرق والغرب يجهلون الصلة والروابط العرقية واللغوية والقواسم المشتركة بينهم
سادسا: الوعي الجماعي القومي لا يقبل من يتحدث باللغات المحلية القديمة المرتبطة بتاريخ وتراث البلد ويعتبرونها رطانة عفى عليها الدهر
سابعا: نحن نعيش الآن في وضع سادت فيه روح العنصرية والقبلية والجهوية والتنافر وعدم قبول الآخر
ثامنا: عشنا في حروب دامت لعدة عقود انتهى بعضها بفقدان ثلثي دولتنا ولا زالت الحروب مشتعلة، عجزنا على المحافظة على حدود البلد الذي ورثناه من جيل الاستقلال
تاسعا: الاحتقان وأصوات الانفصال لم تعد ترددها وتتبناها الحركات المسلحة فقط بل ترددت بصورة واضحة في بعض وسائط الاعلام مثل عبارات الجلابة والغرابة والعبيد والعربي والافريقي وأفصلوا الشمالية وأفصلوا دارفور. هذا الغليان والاحتقان تعبر عنه البندقية والقلم
نحن شعب تضمه حدود جغرافية واحدة لكننا نعيش في حالة مترية من التمزق والتشتت والقبلية والجهوية وفهمنا غير الواقعي لأنفسنا ورفضنا الأخر. هذا هو حقيقة واقعنا. نحهن في حاجة إلى تصحيح الصورة غير الحقيقية عن واقعنا في أذهاننا. نحن في الحقيقة شعب يفتقد الاحساس بالهوية الجامعة …