الزميل القميص: أشعلت الثورة المضادة النار وتصارخت: النار النار 

0 86

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم   

.

كان السفير إبراهيم طه أيوب لا يطيق إعلاناً عن صابون تايد يعرض على الشاشة حين كنا نذهب معاً على عهد الطلب لسينما النيل الأزرق. كانت تظهر على الإعلان قمصان مشرورة على حبل غسيل تتطاير فرحاً سعيدة بمفعول تايد الذي يغسل أكثر بياضاً. فمتى بدأ الإعلان استدبر أيوب الشاشة وصاح: “الزميل القميص”.

تنتابني صيحة أيوب كلما طرق سمعي تصارخ المجلس المركزي لقحت (أو مفرداته) والحزب الشيوعي وتماسكهم الحزز: “الزميل القميص”. وآخر هذه “القمصنة” ما كان بين عادل خلف الله من مركزية قحت وكمال كرار من الحزب الشيوعي. فوصف خلف الله الشيوعي بأنه يعاني من النرجسية وخليط من الأوهام والأماني. وكال له كرار بالمكيال الكبير فقال إن قحت خانت الثورة قبل البرهان في ٢٠١٩ وطعنتها من الخلف. “الزميل القميص”.

وأخشى أن أُنسب إلى الذهنية التآمرية لو قلت أن بين الجماعتين، برغم هذه الملاعنة، حلف غير مكتوب للهرب للأمام من جرد حساب اليوم التالي لفشلهم معاً في إدارة الفترة الانتقالية، أو معارضتها. فهذه صفوة فشلت أمام ناظرينا وتأنف أن تخضع لمساءلة نفسها بنفسها عن إضاعتها لثورتها بأداء متفق أنه كان مرتبكا بائساً. وتحتال علينا بهذه المحامرة بين أطرافها ليضيع درب إخفاقها في الماء. ولم تَسْتشر فينا عبارة “الصفوة وإدمان الفشل” سريان النار في الهشيم إلا لأن هذه الصفوات منزوعة الشفافية. تقترف الفشل وتنملص منه بالعوة والمناقرات، كما رأينا، لتحتفظ لنفسها بدور فاشل آخر طالما رُفع الحساب عنها. وهذا سبيلها لإدمان الفشل.

هذا التصارخ لقحت والشيوعيين بوجه ثورة استمرت منبعثة من رماد فشلهم مما يسميه الخواجات “a disservice” (خدمة كأداء). فخلافاً لثورتي أكتوبر ١٩٦٤ وإبريل ١٩٨٥ فإن ثورة ديسمبر لم تخمد، أو تتضاءل، بسقوط الحكومة الانتقالية العاقبة حتى نشق الجيوب. فلم تقم للثورة قائمة بعد سقوط حكومة ثورة أكتوبر الأولى في فبراير ١٩٦٥ لتحل محلها حكومة من إملاء القوى المضادة للثورة حتى نهاية الفترة الانتقالية. أما انتقالية ثورة إبريل فقد غطى عليها المجلس العسكري كما في خطته الأصل حتى أنه منع حتى المظاهرات للحكم المدني. فبقيت الحكومة الانتقالية ظلاً باهتاً من نفسها. وهذا خلاف ما حدث في هذه الثورة التي بدت في هيئة لجان المقاومة منذ انقلاب أكتوبر ٢٠٢١ وكأنها مما نهض بعد سقوط الانتقالية. لم يبق من جذرية ثورة أكتوبر بعد سقوط الانتقالية إلا همة الحزب الشيوعي وحلفائه. وتبددت الجذرية الثورية في ١٩٨٥ والثورة ما تزال طفلاً. وبدت بالمقابل جذرية ثورة ديسمبر كأنها تجمرت بفشل الانتقالية وصهلت من فوق رمادها.

بينما تدعو هذه الجذرية للاستثمار فيها في شرطها وذاتيتها نجد أن أطراف قحت، حكومة كانوا أم معارضة أم جماعات متصلة بها، قاصرة دونه. فتجدها إما مستغرقة في الدعوة إلى بناء تحالف عريض لهزيمة الانقلاب، أو ضخ المبادرات للخروج من عنق الزجاجة. وهذا كله استثمار في هذه الأطراف نفسها لا الجذرية الثورية. فارتدت دعوة هذا التحالف إلى تباغض من يريدون تشييده. فثارت أول ما ثارت مسألة من استحق أن يكون فيه ومن يقوده.

أما المبادرات فبدا لي أنها تصدر من إشفاق على هذه الجذرية لا استثماراً فيها. فمن ورائها فزع من الاستقطاب الذي يكتنف البلاد. فتجد المبادرات تقصد بحلولها إلى تفكيك الاستقطاب كأنه كارثة سياسية بينما هو منتج حق لهذه الجذرية التي انبعثت بعد سقوط الانتقالية. فلولاه، أي الاستقطاب، لبسط الانقلاب سلطانه على البلد ولما كانت الأزمة نفسها التي استدعتهم لتدبيج مبادراتهم. فبدت المبادرات، والحال هذه، كأنها لعلاج ما ظنه أهلها داء الفرقة أصاب البلد بينما هو الدواء. فقد منع الاستقطاب الانقلاب، الذي قام على حساب خاطئ من أن الثورة اضمحلت باضمحلال الانتقالية، من تسديد الضربة القضية للثورة التي اشتهاها. وبقي إلى يومنا محاصراً بفضل الشارع الجذري.

وبلغ من سقم الانقلاب والثورة المضادة أنهما من يلوح الآن بلزوم الخروج مما وصفوه بأزمة الوطن الذي هو على شفا جرف هار. وهذه وقاحة. فالعسكريون في مجلس السيادة هم من اصطنع هذه الأزمة بحل الانتقالية لا من طرف واحد فحسب، بل أيضاً لما اتفق لهم من أن الحل السعيد لأزمة الوطن هو في خرقهم للوثيقة الدستورية والتخلص من قحت والثورة في برنامج واحد. لقد فاجأتهم هذه الجذرية فضربوا الروري عن وجوب أن يعتبر الناس و”يعقلوا” لأن الاستقطاب سيؤدي بالبلد. لبعض الناس امتياز أن يركبهم الجنون ولا يطرف لهم عقل إلا حين يقف حمار جنونهم في العقبة. أشعِل النار وأصرخ “النار النار!” كما يقول الخواجات.

لا يكون الاستثمار في هذه الثورة المستمرة بتدبيج التحالفات ومبادرات الحلول. فالأحلاف هي في الثورة المستمرة والحل فيها. ويتطلب تعزيز استمرارية الثورة في الشارع بأن نتمسك بمواقع الهجوم في حين بدا من دعاة الأحلاف والمبادرات أنهم تراجعوا إلى مواقع الدفاع. وهي مواقع ضعيفة يتوالد فيها تحميل الذنب في النكسة من طرف إلى آخر، لا التحمل كما جاء عند الواثق كمير أخيراً. وتكثر العوة: الزميل القميص.

ونعود بعد إلى ما بالوسع عمله لتعزير هذه الثورة المستمرة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.