من أين جاءت هؤلاء الإدارة الأهلية؟ فبركها أبان عيوناً خضر بشهادة جعفر بخيت (١-٢)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
كنا طلاباً يساريين بجامعة الخرطوم أول ما جاءتنا رسالة جعفر محمد على بخيت المعنونة “الإدارة البريطانية والحركة الوطنية في السودان” (١٩٦٥). واستهوانا، وكنا في غيظ من حزب الأمة الذي كاد لنا في ثورة أكتوبر، خبر تمويل الإنجليز للسيد عبد الرحمن المهدي ليثرى ثراءه المعلوم. يا للفضيحة وكفى. وعدت أقرأ الرسالة قبل سنوات لأعرف أننا رضينا منها بالقشور دون اللباب. فوجدتها سبقت مدرسة ما بعد الاستعمار في المعارف المعاصرة في القول بأن الإدارة الأهلية، التي يظنها الكثيرون إرثاً من الجدود، هي اصطناع استعماري. وسار وصفها في تلك المدرسة التالية لكتابات جعفر بخيت بأنها كيان “مفبرك” (fabricated). وشاءت الصدف الحسنة أن تعُرب الرسالة في كتاب في ١٩٨٧. ولا أعرف إلى يومنا من قرأه ليدخل مصطلح “الفبركة” في خطابنا عن الإدارة الأهلية. ويا خسارة. إن صفوتنا كما وصفتها يوماً مُوَصِل رديء للمعرفة. العلم مبذول في أخص قضاياها وهي عنه تلهى. وكتبت مؤخرا ما يلي عما جاء به جعفر بخيت من فتح في علم الإدارة الأهلية والاستعمار:
لا أعرف كتاباً طعن في صميم الإدارة الأهلية كنظام تقليدي خالص السودانية في الزعم العام مثل كتاب جعفر محمد علي بخيت “الإدارة البريطانية والحركة الوطنية السودانية” (١٩٨٧).
فكان جعفر بخيت ربما أول من نبه لفبركة الإنجليز للإدارة الأهلية. وهو المفهوم الذي صار من المعلوم بالضرورة في أدبيات مدرسة ما بعد الاستعمار. فكشف الغطاء عن طرائق الاستعمار لهندسة هذه الإدارة بعد ثلاثين عاماً من احتلالهم للسودان لم يحتاجوا لها خلالها إلا في حدود شياخات لجمع الطلبة. وسماهم الناس لهمتهم في جمعها ب”كلب الحكومة”. وخلت الوظيفة من الجاذبية حتى أنهم كانوا يختارون لها نفراً من رقيقهم ليبتلوا بها.
فلما كشرت طبقة الأفندية أنيابها للإنجليز في ١٩٢٤ خشي الإنجليز على أنفسهم من حلف محتمل بينهم وبين الريف الذي فيه نهايتهم. فسبق الإنجليز للريف يتغدون بالمتعلمين قبل أن يتعشوا بهم.
ولا أعرف توقيتاً تؤرخ به صناعة الإدارة الأهلية عندنا مثل تاريخ صعود جون مافي لسدة الحاكم العام في ١٩٢٦. وتكاد تسمع في الوثائق فحيحه الاستعماري على الخريجين بتمردهم عليهم بثورة ١٩٢٤، وعزيمته أن يمحو خطرهم بالتحالف مع أعيان الريف. ومعلوم أنه جاء من الهند التي تعلم منها الإنجليز في مثل مستعمرات كالسودان سوء الظن ب”البابوس” وهم المتعلمون من موظفيهم الهنود ممن تأخذ برؤوسهم شعواء الحركة الوطنية فيعضون اليد التي أحسنت إليهم.
قال عالم السياسة البريطاني بيتر ودورد عن مافي:
كان حاكماً عاماً محافظاً رأى في الإدارة الأهلية ترياقاً للمتاعب السياسية لهم في بداية العقد الثاني للقرن العشرين. وأعتقد أنه، متى شجعوا قيامها قل اعتمادهم الخَطِر على الموظفين السودانيين. فقال: علينا أن نشرع في تمديد الإدارة الأهلية وتوسيعها في كل وجهة وبالنتيجة تعقيم الجراثيم السياسية المقدر لها الانتشار من النيل الأسفل (مصر) إلى الخرطوم. والرهان على الوقت مسألة الساعة. فموت اثنين أو ثلاثة من أولاد المراتب في القبائل قد يمثل انفصاماً جدياً من الماضي. وقد يبدو في مثل انزعاجي مبالغة، ولكني شهدت في الهند جيلاً قديماً يترك مكانه لجيل حدث. ورأيت بالنتيجة اليسر الذي يكتسح الاضطراب السياسي الغامض حتى الناس البدائيين لأننا، ببساطة، أذنا بتهافت الأوضاع القديمة. وما تزال الأمارات الهندية آمنة مطمئنة بيد حكام إرثيين ولاؤهم للملك الامبراطور. وهي بذلك شاهد على ما كنا سنحصل عليه من خير لو اتبعنا خطة غير التي اتبعناها (وهي الاعتماد على موظفين متعلمين). لقد فشلنا في حماية البيروقراطية من مثيري الشغب”
ونواصل في علم فبركة الإدارة الأهلية.