الإداري الأهلي طبلوه
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(من حكايات اعتقالنا في ١٩٧١ بعد فشل انقلاب ١٩ يوليو تلك المروية عن فاروق كدودة رهين سجون كوبر وشالا وزالنجي. قيل إن بنته قالت حين سألها سائل عن أبيها المعتقل: “العجوز طبلو”. وبصمة فاروق نفسه على الطرفة غير خافية)
لا يطعن في الزعم بأن الإدارة الأهلية صمام الريف مثل أدوارها في نزاع النظارة بين الرزيقات والمعاليا المتطاول. فمن يطلب النظارة فيها هم قيادة القبيلة “التبع” التي تتطلع للتحرر من سطوة القبيلة سيدة الدار، والانعتاق من فروضها المهينة عليهم كما سبق لنا الشرح في حلقات مضت من هذه المقالات. وبالمقابل فمن يقاوم هذا المطلب هم زعامة القبيلة سيدة الدار حفاظاً على سلطانها وامتيازها. فالقيادتان، قيادة قبيلة التبع وقيادة القبيلة السيدة، هما من رتب للصراع بينهما وأداره. فلا أحد غيرهما في القبيلتين يملك قرار طلب النظارة من جهة، أو مقاومتها من جهة أخرى. والدليل على أن تلك القيادات هي مربط الفرس في الأمر اضطرار حكومة الإنقاذ اعتقال رجال الإدارة الأهلية من المعاليا والرزيقات حين حارت في ما تفعله في دور دموي من أدوار صراعهما في ٢٠١٧.
مطلب المعاليا بالنظارة له قرنان. فحلوا دار الرزيقات في ١٨٢١. وسنح لهم بثورة أكتوبر ١٩٦٤، وفي إطار الدعوة في المركز لإلغاء الإدارة الأهلية، عرض مسألتهم على النطاق الوطني بصراع دموي في ١٩٦٥ لم يلفت النظر بكفاية إلى بولتيكا النظارة كما هو واضح.
وتجدد الخلاف بصورة عسيرة في 2002 ثم في 2006 وفي رواية عن إبراهيم الباشا، من المعاليا، إنه بعد خلاف 2002 اجتمع الصلحاء بالطرفين في 2003. وارتضى الشعبان أن يكون للمعاليا نظارة مستقلة عن الرزيقات. وجاء العام 2006 ولم تلتزم حكومة المؤتمر الوطني بتنفيذ العهد المسؤول في قول الباشا. وكانت نتيجة ذلك أن عبر المعاليا عن استيائهم بالخروج على المؤتمر الوطني. فأنضم فريق منهم للاتحادي الديمقراطي بقيادة محمد محجوب شريف. والتحق المعاليا العقارية بقيادة عبد الرحمن موسى البشاري بالحركة الشعبية. وقال شريف إنهم غادروا المؤتمر الوطني لأسباب احتفظ بها لنفسه.
وانبعثت الخصومة بينهما حول الدار في التاريخ القريب في ٢٠١٣ و٢٠١٥ و٢٠١٧. وسمت المعاليا مساكنها “أرضها التاريخية” التي لم يعترف أحد لهم بها. وحدا تطاول النزاع بين الجماعتين بياسر محجوب الحسين ليصف في مقالة ب”الجزيرة نت” صدامهما في يونيو ٢٠١٥ ب”داحس وغبراء” الجاهلية التي زج نظام الإنقاذ فيها البلاد. فتعاركت الجماعتان عراكاً بالأسلحة الثقيلة مثل صواريخ الكتوشا وقذائف الآر جي بي. وخلفا في حومة الوغى أكثر من ستمئة قتيل بالإضافة إلى إصابة نحو تسعمئة جريح بين الطرفين، فضلا عن نزوح أكثر من خمسة وخمسين ألف نسمة.
وأنذر الرزيقات، بعد الصدام، كل من ليس منهم مبارحة عاصمتهم القبلية، الضعين، خلال ٢٤ ساعة. وطلبت المعاليا، من الجهة الأخرى، بانفصالها السياسي والإداري والاجتماعي من حكومة شرقي دارفور. وتقدمت بخيارات للحكومة لتحقيق ذلك منها أن تضع المناطق التي تسكنها لوقتها، تحت رئاسة الجمهورية مباشرة كمثل وضع أبيي.
وكانت القيادات في الإدارة الأهلية في صدارة النزاع حتى اضطرت الحكومة لاعتقالهم. فتضرج النزاع بين الجماعتين في ٢٠١٧ إلى الحد الذي اضطر الدولة لاعتقال نفر من تلك القيادات ووضعها في السجن. فتم اعتقال ثلاثة وعشرين عمدة من الرزيقات. ونوه راديو دبنقا باستمرار اعتقالهم في أكتوبر من نفس السنة. كما جري اعتقال نفر من المعاليا في نفس الوقت منه سبعة عشر عمدة وعلى رأسهم وكيل ناظر المعاليا. وبدأ إطلاق سراح بعض هؤلاء العمد من القبيلتين في نوفمبر ٢٠١٧. وبقي بالسجن مع ذلك سبعة وثلاثين من العمد والقيادات الأهلية للرزيقات والمعاليا والبرقد. واحتجت هيئة محامي دارفور على احتجازهم الذي انتقص من دورهم ومكانتهم الاعتبارية.
من العبط أن نظل نردد أن الإدارة الأهلية هي صمام أمان الريف في حين تضطر الحكومة إلى اعتقال رجالاتها بتهم جنائية في التحريض والقتل. وصفوة الأمر أن الإدارة الأهلية ليست موئل أمن الريف. ولكن اضطرت القوى الحداثية إلى هذه الذريعة لاحتراق اصابعها في الريف بعد قرار دولة نميري الفطير بحل الإدارة الأهلية في ١٩٧١. ولم نعارض في الحزب الشيوعي انقلاب نميري سدى. كنا نخشى أن يستهلك المعاني التي ناضلنا من أجلها بالجماهير وللجماهير بالفرمانات من أعلى. فيتصور من فرط سكرة السلطة، التي جاءته خلسة وبالتآمر، أن السلطة هي كل الشرط الضروري لتطبيق برنامج الثورة الديمقراطية بالإشارة من الراديو. وقلت مرة إن نشر الحداثة على الناس بفرمانات الأوامر الجمهورية تجريع الحداثة للناس. وفشلت مجازفة مايو ب”ضباطها السيارة” وهيلمانها في استبدال الإدارة الأهلية لتنسحب قوى الحداثة لا من مطلب تصفية الإدارة الأهلية انسحاباً غير منتظم فحسب، بل لتتغنى إلى يومنا بمزاياها ونعمها على الريف. وهو ما سميته خيانة الحداثيين للريف والتنكر لالتزامات الثورة الوطنية الديمقراطية وأول مسماها تغيير حياة الريف وتجديدها، أي دمقرطته. وسنخصص مقالاً عن خيانة صفوة الحداثة هذه للريف بعد أن أعرض لكتاب “الشخصية السودانية” لمحمد إبراهيم أبو سليم. وهو الكتاب المبادر في تحليل نزاع المعاليا والرزيقات الدموي في ١٩٦٥. ولم يقرأه أحد.