عن روسيا وانتحالها شخصية الاتحاد السوفييتي
كتبت: د. عائشة البصري
.
كباقي الأسر، تحتفظ أسرة الأمم المتحدة بأسرارها، وتتستّر عن أكثرها إحراجا، تلك التي تُفْضَح، من حين إلى آخر، حين يقتتل أفراد العائلة الواحدة، كما هو شأن روسيا وأوكرانيا اليوم. في خضمّ مقاومتهم الغزو الروسي بلادهم، يشنّ الدبلوماسيون الأوكرانيون في مجلس الأمن والجمعية العامة ومحافل دولية أخرى حملة مكثّفة من أجل طرد روسيا من مجلس الأمن، زاعمين أن عضويتها الأممية غير شرعية، لأنها لم تخضع للإجراءات الضرورية للانضمام إلى الأمم المتحدة بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي. اتّهام أوكرانيا بالغ الخطورة، لاستناده إلى حقائق تاريخية تُظهر انتقائية تطبيق المنظمة الدولية قوانينها، وازدواجية معاييرها.
عند تأسيس الأمم المتحدة في خريف 1945، كان الاتحاد السوفييتي يتكون من 15 جمهورية اشتراكية، وأبدى زعيمه، جوزيف ستالين، تخوّفا من هيمنة الدول الغربية على صنع القرار في المنظمة. لتبديد مخاوفه، وافقت القوى العظمى، وفي مقدمتها أميركا وبريطانيا، على منح العضوية الكاملة لجمهوريتين من الاتحاد السوفييتي ذاته، أوكرانيا وبيلاروس تحديدا. وبهذه الخطوة السياسية، العبثية قانونيا، أصبح الاتحاد السوفييتي يتمتع بتصويت ثلاثي في الجمعية العامة وأجهزة الأمم المتحدة الأخرى.
جرت الرّياح بما لم يشتهه ستالين، وانهار الاتحاد السوفييتي، لكن روسيا، أكبر جمهورياته وأقواها، عزمت على أن ترث عضويته في الأمم المتحدة، بغض النظر عن قانون المنظّمة. تأسّس كومنولث الدول المستقلة الذي ضمّ 12 من جمهوريات سوفييتية سابقة، بما فيها أوكرانيا وروسيا، وأُعلن، في 21 ديسمبر/ كانون الأول 1991، أنه لم يعد للاتحاد السوفييتي وجود، باعتباره موضوعا للقانون الدولي والواقع الجيوسياسي. وبعد أن قرأت دول الكومنولث الفاتحة على روح الاتحاد، قرّرت مدّ طوق النجاة لروسيا، ومنحته عضوية الاتحاد السوفييتي في الأمم المتحدة، بما في ذلك المقعد الدائم في مجلس الأمن.
أرسل يلتسين رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أن دولته تتحمّل المسؤولية الكاملة عن جميع حقوق الاتحاد السوفييتي والتزاماته بموجب ميثاق المنظمة
قبل استقالة آخر رئيس سوفييتي، ميخائيل غورباتشوف بيوم، أي 24 ديسمبر/ كانون الأول من السنة نفسها، نقل السفير السوفييتي، يولي فورونتسوف، إلى الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، خافيير بيريز دي كوييار، رسالة من أوّل رئيس للاتحاد الروسي، بوريس يلتسين، يخبره فيها إن دولته، بدعم دول الكومنولث، تواصل عضوية الاتحاد السوفييتي في الأمم المتحدة، وتتحمّل المسؤولية الكاملة عن جميع حقوق الاتحاد السوفييتي والتزاماته بموجب ميثاق المنظمة. واختتم مراسلته بطلب استبدال اسم “اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية” في المنظمة بـ”الاتحاد الروسي”.
لم تُبدِ أية دولة اعتراضها، على الرغم من الجدل الذي أثاره آنذاك بعض السياسيين والخبراء القانونيين، وفي مقدمتهم مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة إلى حدود 1984، المحامي يهودا تسفي بلوم الذي حاجج بأن عضوية الاتحاد السوفييتي في الأمم المتحدة قد سقطت بسقوطه، لارتباطها بكيان قانوني اختفى تلقائيا بفعل تفكيك الهياكل القانونية للاتّحاد. وجادل بأنه كان في وسع روسيا الاحتفاظ بعضوية الاتحاد، “الدولة الأم”، لو أن الجمهوريات الـ 15، باستثناء روسيا، قد أعلنت جميعها الانفصال عن الاتحاد، لتظلّ روسيا محتفظة بهويته وكيانه القانوني، حتى وإن غيّرت اسمها.
يستند يهودا إلى مبادئ قانونية دولية، أقرّتها بدورها اللجنة السادسة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر/ تشرين الأول لسنة 1947، بشأن سابقة انفصال باكستان عن الهند. وأكّدت اللجنة القانونية الأممية أن الكيان المنفصِل عن دولة عضو في الأمم المتحدة هو الذي عليه التقدّم إلى المنظمة بطلب عضوية جديدة، في حين أن الدولة التي خَضَعت للانفصال، أو لتغيير في حدودها أو دستورها، تحتفظ بالشخصية القانونية للدّولة ذاتها. وأوضحت اللّجنة أنه حين تزول هذه الشخصية، وتتأسّس دولة جديدة، فإن ميثاق الأمم المتحدة لا يسمح لها بالتمتّع بعضوية في المنظمة، إلا إذا جرى قبولها بشكل رسمي.
في الإمكان حشد الدعم الكافي لكي تقوم الجمعية العامة بتعليق عضوية روسيا في “مجلس حقوق الإنسان”
هذه هي قاعدة تعاقب الدول (Succession of States) التي طبقتها الأمم المتحدة عند انفصال باكستان عن الهند، وبنغلاديش عن باكستان وغيرها من الحالات، وانتهكتها في الحالة الروسية، لتسمح لموسكو بانتحال الشّخصية الدّولية للاتحاد السوفييتي. ولأن القانون الدولي غالبا ما يخضع للسياسة في العلاقات الدولية التي تحكم المنظمات الدولية، فقد وافقت واشنطن وباقي الأعضاء الدائمين على خرق قوانين الأمم المتحدة. ويعود ذلك إلى التقاء مصالحهم بشأن نقطة أساسية، لخّصها قرار وزارة الخارجية الأميركية آنذاك، مفادها بأنّ مواصلة روسيا عضوية الاتّحاد السوفييتي تخدم أكثر مصلحة البلاد في الحفاظ على الحقوق والالتزامات القانونية والاتفاقات التعاهدية المبرمة معه في السابق.
وبعد أن فُحص الموضوع من كل جوانبه، أعلن الرئيس الأميركي، جورج بوش الأب، في ليلة عيد الميلاد للعام 1991، أن بلاده تدعم جلوس روسيا في مقعد الاتحاد السوفييتي في مجلس الأمن. هكذا طُوي الموضوع الذي لم يُطرح أصلا للنقاش في أجندة المنظمة. اليوم، وبعد أزيد من ثلاثة عقود على هذه الواقعة، تُقلّب أوكرانيا أوجاع روسيا لتجعلها تدفع ثمنا باهظا لعدوانها. ونظرا إلى ضغوط التحالف الأورو- أميركي داخل المنظمة الأممية، بإمكانه حشد الدعم الكافي لكي تقوم الجمعية العامة بتعليق عضوية روسيا في “مجلس حقوق الإنسان”، بموجب قرارها رقم 60/251، إن توفرت أغلبيـة ثلثي أعضائها، مثلما علّقت الجمعية عضوية ليبيا في المجلس ذاته في مارس/ آذار 2011 وأعادتها إليها في نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة نفسها.
يبدو سعي الدبلوماسيين الأوكرانيين إلى طرد روسيا من مجلس الأمن وكأنهم يركضون وراء السّراب
أمّا طرد روسيا من الأمم المتحدة، أي من أجهزتها الرئيسية الستة، بما فيها مجلس الأمن، فهذا غير واردٍ، لحرص كلّ من واشنطن وباريس ولندن وبكين على الحفاظ على اتفاقاتهم ومعاهداتهم مع موسكو. ويبدو الأمر شبه مستحيل أيضا في ظل الفيتو الصيني الذي ينبغي إزاحته لطردها بعد تعديل ميثاق المنظمة. وفي حال قرّر التنين الصيني سحب البساط من تحت قدمي الدبّ الروسي، وهو أمرٌ جدّ مستبعد حاليا، واتفق الأربعة الكبار على شطب اسم “اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية” من المادة 23 من الميثاق، فإن إبقاء هذا المقعد شاغرا سيشعل حربا دولية حوله، وسيفتح عليهم باب جهنّم إصلاح هيكل المجلس، بين مطالب الدول التي تودّ توسيع عضويته، وأخرى تريد اختزال مقعدي فرنسا وبريطانيا في مقعد واحد يُمنح للاتحاد الأوروبي، وأخرى تطالب بالتخلي عن دكتاتورية “الفيتو”، وغيرها من مطالب لا تروق للأعضاء الدائمين. الميثاق هو صندوق باندورا الذي يحرصون على عدم فتحه، حتى لا تنفلت منه كل الشرور، أو بعضها.
في هذا السياق السياسي المتأزّم، يبدو سعي الدبلوماسيين الأوكرانيين إلى طرد روسيا من مجلس الأمن وكأنهم يركضون وراء السّراب. وحتى لا يحلم الأوكرانيون أكثر، لم يتأخر ردّ الأمم المتحدة عبر المتحدث باسم الأمين العام، ستيفان دوجاريك، الذي ذكّرهم أخيرا، في مؤتمر صحفي، بحُكم الأمر الواقع في المنظّمة: “من الواضح للجميع من له (الاتحاد الروسي) مقعد في مجلس الأمن، وهذا هو الواقع”.