ماذا حدث في «ليلة الليالي» من الكتاب؟
كتب: واسيني الأعرج
.
الليلة الواحدة بعد الألف، التي تعكس تضاريس النص الخفية وتقدم بعض علاماته وغواياته، خالقة علاقة تفاعلية وجدلية من خلال القراءة التي تكشف عن الطلاسم المرتبطة برقم [1001]، وكأن سر ألف ليلة وليلة كله موجود فيها وليس في الليالي الأخرى.
القصة تختتم في الليلة الواحدة بعد الألف: ذهب الملك إلى حريمه ودخل على زوجته شهرزاد. فقالت لها أختها دنيازاد: «تممي لنا حكاية معروف. فقالت حبا وكرامة، إن أذن الملك بالحديث. فقال لها: قد أذنت لك بالحديث لأنني متشوق إلى سماع بقيته. قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك معروفاً صار لا يعتني بزوجته من أجل النكاح، وإنما كان يطعمها احتساباً لوجه الله تعالى. فلما رأته ممتنعاً على وصالها منشغلاً بغيرها، بغضته، وغلبت عليها الغيرة، ووسوس لها إبليس أنها تأخذ الخاتم»، ثم دخلت عليه وهو نائم «نظرت إلى الخاتم وقبلته، فلم يزل (ابنه) صابراً عليها حتى لقيته (الخاتم)، فقالت ها هو. التقطته وأرادت أن تخرج، فاختفى خلف الباب، فلما خرجت من الباب نظرت إلى الخاتم وقبلته في يدها، وأرادت أن تدعكه (ليخرج المارد)، فرفع ابنه يده بالسيف وضربها على عنقها فزعقت زعقة واحدة، ثم وقعت مقتولة». لكن حكاية الليلة الأخيرة، الكاملة، تبدأ قبل ذلك، في الليلة 982، بحكاية مستقلة تحمل عنوان: «حكاية معروف الإسكافي»: «ومما يحكى أيها الملك السعيد، أنه كان في مدينة مصر المحروسة، رجل إسكافي يرقع الزرابي القديمة، وكان اسمه «معروف»، وكان له زوجة اسمها فاطمة العرة. وما لقبوها كذلك إلا لأنها كانت فاجرة شرّانية، قليلة الحياء، كثيرة الفتن، وكانت حاكمة على زوجها في كل يوم تلعنه وتسبه ألف مرة. ويخاف من أذاها لأنه كان رجلاً عاقلاً يستحي على عرضه، لكنه كان فقير الحال. «
ما يثير الانتباه في هذه المرأة وهذا الإسكافي هي الصفات الأخلاقية التي تقولها الليالي. كل الصفات الرذيلة مقرونة بالمرأة، وكل الصفات الحميدة تلتصق بالزوج. إن توغلاً بسيطاً في خطاب النص يفضي بنا إلى إعادة النظر في أخلاقيات الشخصيات، فهي؛ أي فاطمة العرة، محكومة بحالة حقد حقيقية [حالة انتقامية حارقة] لأنه أهملها نكاحياً، وفضّل عليها المحظيات والجواري [أين العفة الأخلاقية؟]. الصفات السلبية تجعل المآلات في النهاية مقبولة، بالخصوص عملية القتل.
الليلة الأخيرة كأنها تتمة للقصّة الإطار التي وضعت قصة شهريار وشهرزاد في دائرة الضوء عندما اكتشف خيانة زوجته وصمم على قتل كل امرأة يتزوج بها في صباح اليوم الموالي، إلى أن جاءت شهرزاد فغيرت النظام كله. الخيانة الزوجية، منذ بداية الليالي، هي شكل من أشكال التعدي على سلطة الزوج، أي الحاكم، خاتمتها الموت. في الليلة 1001، كانت العبرة أخطر وأدق. فاطمة العرة تريد أن تسرق خاتم الملك معروف. خاتم الحكمة المرصع، الذي يتحكم الملك من خلاله في شؤون البلاد، إذ يكفي أن يدعكه ليخرج منه المارد. الابن يحمي والده بشكل مكشوف ليثبت لوالده أهليته للتوريث. يقتل فاطمة العرة، زوجة والده، بالضبط في اللحظة التي تريد فيها أن تستولي على الحكم [من خلال السيطرة على الخاتم وعلى المارد]. تنتهي الليالي بدفن فاطمة العرة واسترجاع الخاتم: «ثم إنه فتش على الخاتم فلم يره. ولم يزل يفتش في أعضائها، حتى رأى يدها منطبقة عليه. فأخذه من يدها، ثم قال لابنه: أنت ولدي بلا شك ولا ريب. أراحك الله في الدنيا والآخرة كما أرحتني من هذه الخبيثة.»
لم تكن إضافة الليلة الأخيرة بعد الألف، عملاً عبثياً. الليلة الأخيرة حددت فاطمة العرة بكل الصفات القبيحة، ولا يمكن أن ننتظر من وراء ذلك إلا إقدامها على الجريمة.
زوجة شهريار قُتلت في القصة الإطار لأنها خانته أخلاقياً مع خادمه [عبده]، مع من هم الأدنى في السلم الاجتماعي. وفي الليلة 1001، خانت فاطمة العرة زوجها الملك معروف، لأنها طمعت في السلطة. خاتمة تبرر لماذا أضيفت هذه الليلة في ميزان التمايز. الليلة الدرس. صحيح أن ابن الملك معروف، لم يدخل بسيفه المرصع حرباً ولم يقطع عنقاً، لكنه قتل من هو أخطر، فاطمة العرة التي حاولت أن تستولي على الخاتم ومارد السلطان، فكان أن قتلت، وكان ذلك برهاناً بأن الابن أصبح بالغاً، ليتسلم زمام الأمور.
وكأن العنوان «ألف ليلة وليلة» لم يكن كافياً، أضيفت له لاحقة توضيحية، كما في الكتب القديمة، بالخصوص مؤلفات القرون الوسطى الأوروبية التي استفادت كثيراً من النصوص العربية القديمة، واستهلالاتها الشارحة. هذه خاصية نصية قليلاً ما اهتمت بها الدراسات السردية العربية، مع أن قيمتها كبيرة. [ألف ليلة وليلة، ذات الحوادث العجيبة والقصص المطربة الغريبة، لياليها غرام في غرام، وتفاصيل عشق وهيام، وحكايات ونوادر فكاهية، ولطائف وظرائف أدبية، بالصور المدهشة البديعة، من أبدع ما كان، ومناظر أعجوبة من عجائب الزمان]. هذا النص الواصف، إن كان لا يشرح العنوان، فقوته تكمن كما يحدث اليوم، في جانبه الإشهاري الإغوائي. لا ينقصه شيء ليكون واجهة إشهارية شبيهة بإشهار اليوم. هو دعوة للقراء لاكتشاف سحر هذا النص. وهو نص مرتبط بعامل التلقي أكثر. فالنص وإن بدا نص تسلية، فهو سياسي بامتياز؛ لأنه يتعلق بالحكم وظروفه وصراعاته الداخلية. الواجهة الإشهارية، أو اللاحقة الشارحة، لا تثير أية شبهة تأويلية من حيث الظاهر، لكنها تتبطن موقفاً سياسياً حقيقياً غير معلن، يمر سرّياً عبر لغة تكاد تكتفي ببلاغة اليومي، وهو ما ضمن لليالي الاستمرارية حتى بعد حرق النص العديد من المرات، دون جدوى.
اللغة ليست فعلاً إضافياً، بل هي الضامن الأول للحياة واستمرار الثقافة والأمم. نعيش من عبقرية الجاحظ والمعري وأبي حيان حيث اللغة العالمة La Langue Savante لكننا نعيش أيضاً من عبقريات اللغات السردية الشعبية كالتغريبة الهلالية، والظاهر بيبرس، وسيرة سيف بن ذي يزن وغيرها، التي لم تقطع علاقتها باللغة العربية ولا بنحوها، ولكنها تميزت بسرديتها البسيطة/ المعقدة في الآن، بحسب موقع القارئ. وربما كان أجلّ ما قام به نص «ألف ليلية وليلة»، أنه جعل اللغة العربية تتآلف مع طبيعة المتلقي البسيط ما دام النص يقدم تسلية قرائية، والمثقف أيضاً، الذي يعلو بالنص نحو مساحات أوسع تتخطى العتبات الأولى للتلقي. ولهذا تفترض القراءات المتعددة؛ من التسلية العادية التي لا يشتغل فيها الفكر كثيراً، إلى السجال حول وضعية المرأة المثقفة في مجتمع تحكمه الأعراف والذكورية التي تتجلى في الكثير من اللحظات الرمزية حتى خارج سلطة شهريار، بل تعيد شهرزاد أيضاً إعادة إنتاجها من خلال تقديمها لشهريار- في نهاية النص- أبناءها الثلاثة (كلهم ذكور) ليصفح عنها لأنها ارتكبت معصية فقط لأنها ولدت أنثى. يمكننا أن نقول إن طبقات هذا النص كثيرة وكبيرة، وتحتاج إلى إعادة قراءة لهذا السرد المركب الذي انتقل إلى العالمية، بينما ظل يتيماً عندنا، بل عدواً، حكمنا عليه مرات عديدة بالحرق. ماذا لو جعلناه مثالنا في التخييل والكتابة والذكاء السردي والعبقرية اللغوية التي ابتدعت اللغة الثالثة (بين العامي والفصيح دون الإخلال بقواعد اللغة)، والقدرة على تحويل السياسي إلى أدبي داخل النسيج القصصي؟