حكم الديش: الفريق أحمد محمد باشا في غضبته (1956)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لو سمعت حديث الدكتور على الحاج أو الأستاذ خالد سلك الأخيرين عن الانقلاب في سياستنا لتيقنت أننا بحاجة إلى فقه أفضل للانقلاب أو . . . الطوفان. فخلط علي الحاج ما بين الثورة والانقلاب خلطاً قريباً من الدجل. أما خالد سلك فطاعن الشيوعيين بعاهة الانقلاب في ممارستهم وكفى. والحاج وسلك شركاء في خطاب ضال مضل عن الانقلاب أرخى بسدوله على فكرنا سلبنا من العلم بهذه الآفة التي أوردت الوطن موارد التهلكة.
ومن المؤسف أن نجهل عن الانقلاب هذا بعد العلم الذي توافر لنا خلال خصومة الشيوعيين فيما بينهم في 1969 حول هل انقلاب مايو ثورة أم انقلاب. وقيدوا في جدلهم الظاهرتين بأساسهما المادي في تدافع القوي الاجتماعية لتأمين مصالحها من سدة الدولة. ولم يعد حتى شيوعيّ زماننا يألفون مثل هذا القول. فما وقع انقلاب 1989 حتى سموه انقلاب الكيزان ناظرين إلى لون القائمين به السياسي لا منشئهم الاجتماعي كما هي شيمة الماركسيين. بل بلغ بنا الجهل بالانقلاب مدى جعلناه طبعاً فينا أو طبيعة (naturalized) مثل سقمنا من الدورة الخبيثة (ثورة-انقلاب) التي صورناها كأنها دورة من دورات الطبيعة لا فكاك لنا منها تقع من فرط عقلنا البدوي أو عقوق الصفوة بالشعب.
وحاولت في كلمات تقدمت بيان العقائد التي ساقتنا إلى هذا الفقه الركيك للانقلاب. ومنها 1) تعاملنا مع الانقلابات الناجحة ذات الدول بمعزل عن بعضها البعض (انقلاب فلان، نقلاب علان، انقلاب فرتكان) كأن لا ناظم يسري بينها فيما سميته نهج الحكمدارية. 2) القول بأن الانقلاب ما يوسوس به المدنيون في إذن العسكر الأغرار الواهمين ممن خلوا من السياسية المهنية أو الوطنية. فالانقلاب مدني ولو طار . . . عسكرباً. 3 تعذر النظر المقارن بين انقلاباتنا والظاهرة الانقلابية في الحكم في العالم الثالث. فصار الانقلاب فينا خصيصة سودانية لا “لو شبيه ولا لو مثالو”. وهاك يا معط ذات نحن الفعلتنا ونحن التركتنا وشوفو الناس فاتونا وكان مفروض نكون أحسن مما عارف شنو بقينا أكعب مما عارف شنو. شناف نفس لآخر حد.
أواصل هنا نْقُض النظرية الرائجة التي تقول بأن الانقلاب هو ما يوحي به السياسيون المدنيون للجيش. ساد فينا الفهم أن الانقلاب كيد سياسيين لسياسيين آخرين فزعوا إلى الضباط ليطربقوها انقلاباً على الجميع. وبدا الجيش في مثل هذا التحليل خلواً من”جرثومة” الانقلاب حتى وسوس بها مدني كائد. ولم أجد لهذه العقيدة عن الجيش أساس في بحثي:
كانت “الخبطة” البحثية التي حظيت بها في دراستي للسياسة المستقلة عن المدنيين في الجيش هي ما زودني به الورّاق الأعظم الصديق عبد الغفار المبارك. فقد وضع بين يديّ خبر صراع دار بين الجيش والحكومة خلال عمليات السودنة كما نقلته جريدة “العلم” صوت الحزب الحاكم، الوطني الاتحادي، حتى أزيح من الحكم في يوليو 1956. وكان مدار هذا الصراع رفض الحكومة ترقية اللواء أحمد محمد باشا، قائد الجيش الذي سودن سلفه الإنجليزي، إلى رتبة الفريق.
نشرت العلم في 19 مارس 1956 خبراً عن تقاعد الباشا يوم 28 مارس ليحل محله اللواء إبراهيم عبود. وزاد الخبر بأن الخيار قد تُرك للباشا أن يأخذ اجازته السنوية ومقدارها 3 أشهر، أو يستمر في عمله دون إجازة ليتقاعد في يونيو التالي. فقال الباشا لمندوب جريدة العلم في 21 مارس 1956 إن ما ذاع عن استقالته، بسبب قرار مجلس الوزراء بعدم ترقيته لرتبة الفريق، سابق لأوانه. وزاد بأن ما حز في نفسه أن يسمع بقرار في خطر عدم ترقية من في مقامه من الصحف. وهي ترقية مستحقة له بالمادة 38 من قانون الجيش التي تخول للضابط الكفء أن يشغل وظيفة الفريق متى خلت. وقد شغرت الوظيفة بسبب سودنة الجيش وخلو منصب قائده الفريق الإنجليزي. وقال إن وطنيته أبت عليه طلب الوظيفة من الحاكم العام خوفاً على سمعة الحكم الوطني.
وكان للحكومة حجج في حجب الترقية عنه فندها الباشا في مثل قولهم إن القائد البريطاني استحق منزلة الفريق لأنه كان على رأس القوات الإنجليزية والمصرية وقوة دفاع السودان جميعها معاً. وجلت القوات المصرية والإنجليزية ولم تبق إلا قوة دفاع السودان التي لا تستحق فريقاً لوحدها . ولم يكن ذلك صحيحاً في قول الباشا. وحجته أنه كانت لسلفه الإنجليزي قيادة دفاع السودان والقوات المصرية (ممثلاً للحاكم العام) أما القوات البريطانية فهي تحت إمرة الجيش البريطاني بصورة مباشرة. بمعني آخر أن سلفه الإنجليزي كان فريقاً على قوات دفاع السودان بالأصالة لا يشرك بها أحدا. ونبه الباشا إلى أن الجيش الذي قاده آنذاك أربى عدداً على ما كانت عليه الجيوش الثلاثة في ظل الإنجليز. واستغرب الباشا احتلال غيره ممن سودنوا البريطانيين في الخدمة المدنية درجات سلفهم الإنجليز بلا حرج. وقال بنبرة حزينة إنه تخرج من الكلية القديمة وفضّل العمل في الجيش على غيره طوال 40 عاماً “لم يسجل عليّ خلالها ولو خطأ بسيط وملف خدمتي يشهد ذلك”.
وجاء دور الحكومة لتوضيح قرارها بعدم ترقية الباشا معتذرة بسماعه لخبر حجب الترقية من الصحف. ولكنها تمسكت بموقفها من أن عددية الجيش لا تؤهله لقيادة في مستوى الفريق حسب العرف العالمي. وجاءت بطاقم الفيالق والأورط والبلوكات والصفوف التي تستدعي قيادة فريق متى أكملت النصاب (24 مارس 1956). وجرت تطورات في ذلك الجدل نقلتها جريدة العلم في 25 مارس 1956. من ذلك أن الباشا كان تسلم في الأثناء قرار منع ترقيته لرتبة الفريق من مجلس الوزراء. وبلّغ الباشا الجريدة أنه تقدم بمذكرة احتجاج لمجلس السيادة يطعن في شرعية قرار الحكومة. فهي عنده ليست جهة الاختصاص في ترقيته وإنما الأمر لمجلس السيادة الذي يتبع له الجيش مباشرة.
ليس بين يدي من جريدة العلم ما نقف به عند مآل هذه المواجهة بين الجيش والحكومة. وآمل أن يستكمل الصورة من هو قريب من أرشيف الجريدة، أو حتى في غيرها لنقف على الكيفية التي أنهى بها الباشا خدماته للجيش. ولكن اتفقت كتابات غير موثوقة هنا وهناك بتسمية الباشا فريقاً متى مر ذكره. ولا ندري إن كان تدخل مجلس السيادة ففض المواجهة وأرضى الباشا. ولكن واضح أن إبراهيم عبود، الذي خلفه، قد جاءنا فريقاً على رأس المجلس الأعلى للقوات المسلحة في نوفمبر 1958. وقد يعني هذا أنه استحق الرتبة على الصورة التي طمح إليها الباشا حين سودن القائد الإنجليزي لقوة دفاع السودان.
لقد غابت سياسات الجيش عنا لأنها مما ورد في صحف مثل العلم وصوت السودان وغيرها قل أن غشاها الباحثون في علاقة الجيش والسياسة. وبدا لنا من فرط احتجاب مطالب الجيش من دولته أنه كان مهنياً مجرداً من نازع السياسة. كأن المهنية ليست ممارسةَ والسياسةُ مسرح من مسارحها. ولما غاب عنا هذا الأرشيف في مباحث الانقلاب والسياسة اقتصر تحليلنا على دور الجيش في السياسة على ما نعرف عن إيحاء المدنيين، صدقاً أم وهماً، له بالتدخل فيها. وقصارى الأمر أن ما يذاع عن خلو وفاض الجيش من السياسة (إلا بما يعديه به المدنيون) تَمَت إلى مشكلة الأرشيف في علم السياسة السوداني الذي قل فيه استصحاب الصحافة اليومية، المستودع الخالص للسياسة السودانية بما يفوق الكتاب.