عن أزمات الانتخابات في بلاد العرب

0 85

 كتب: د. عمرو حمزاوي

.

إزاء المشهد العربي الراهن، بات الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية والحريات العامة أشبه ما يكون ببكاء على أطلال تحولات دفعت بها انتفاضات 2011 و2019 إلى الواجهة ولم تكتمل إما لعدم مواءمة الظروف الداخلية والإقليمية أو لتآمر قوى الاستبداد في الداخل والخارج على مجتمعاتنا وإفشالها لفرص بزوغ الديموقراطية. وعلى ما في البكاء على الأطلال من جاذبية وما لمقولات الظروف غير المواءمة والمؤامرات من سطوة كلامية بيننا كعرب، تظهر قراءة المشهد الراهن العديد من الغيابات وأوجه القصور التي تستحق النقاش.
ذلك لأننا حين نبكي على الأطلال وننتهي بعد اهتمامنا خلال الأعوام الماضية بإمكانات التحول نحو الديمقراطية وتحسين حالة حقوق الإنسان والتعددية والحريات إلى تقرير إخفاق عربي عام على جميع المستويات، عادة ما نكتفي بإلقاء كامل اللائمة على نظم الحكم القائمة لتعنتها السلطوي وكذلك على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كالقوتين الخارجيتين المؤثرتين في بلاد العرب لعدم التزامهما الفعلي بدعم الديمقراطية. وعلى الرغم من موضوعية الإشارة إلى التعنت السلطوي للحكام قبل وبعد الانتفاضات الشعبية وصحة تقرير تهافت خطابات وبرامج دعم الديمقراطية الأمريكية والأوروبية، يظل وراء مثل تلك المقولات تجاهل خطير لضرورة تحليل معوقات الديمقراطية الحاضرة في المجتمع والسياسة والثقافة بعيدا عن دور نظم الحكم التي أثبتت خبرة عقد الانتفاضات الشعبية المنصرم سطوتها وعمقها.
وراء مثل تلك المقولات قراءة سطحية لطبيعة التهديدات الاستراتيجية والأمنية التي ترد على المصالح الغربية حال حدوث شيء من التحول الديمقراطي في بعض مجتمعاتنا، أقرر ذلك بعيدا عن معارضتي الأخلاقية والسياسية لتحكم مصالح الغرب في مصائرنا كعرب. وراء مثل تلك المقولات صمت على تداعيات تنامي نفوذ قوى إقليمية ودولية في مجتمعاتنا تدافع عن الاستبداد ولا تشكل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان محددات لسياستها وفعلها الخارجي.
فمن جهة أولى، وتركيزي اليوم على البلدان العربية التي تجرى بها انتخابات برلمانية تعددية، تدلل وضعية الأزمة المستمرة في بلدين كالعراق ولبنان على عجز قوى المجتمع عن التعامل السلمي ـ الحداثي مع تركيبته التعددية من خلال وسائط مؤسسية وبمضامين تسمح أولا للسياسة بالوجود بما هي منافسة سلمية بشأن تحديد الصالح العام وممارسة توافقية لتحقيق ذلك الصالح العام تخضع للمساءلة والمحاسبة من قبل المواطنين، وتسمح ثانيا للدولة الوطنية بالحضور بما هي الأداة الرئيسية لتحقيق الصالح العام وصاحبة القدرة على ردع الخارجين عن شرطي المنافسة السلمية والتوافق من خلال احتكار الاستخدام المشروع للقوة الجبرية.

تدلل وضعية الأزمة المستمرة في بلدين كالعراق ولبنان على عجز قوى المجتمع عن التعامل السلمي-الحداثي مع تركيبته التعددية من خلال وسائط مؤسسية

يصبح هنا التعامل الاختزالي مع أزمات العراق ولبنان، بإحالتها إن إلى إخفاق يوصف دوما بالمرحلي للقوى السياسية في ممارسة التوافق ومن ثم النجاح في تشكيل حكومات ائتلافية حقيقية في أعقاب الانتخابات أو إلى تبعية مصالح وأجندات هذه القوى لأطراف إقليمية ودولية (من إيران والسعودية والإمارات إلى روسيا والولايات المتحدة) يصبح بمثابة تحايل غير موضوعي ومضلل على كارثة عجز المجتمع عن ممارسة الديمقراطية والتوافق وما يستتبع تلك الكارثة من غياب مستمر للسياسة وللدولة.
وفي الجزائر وتونس، ثانيا وعلى سبيل المثال، والتعنت الراهن للحكومتين فيما خص تمرير العديد من القوانين المقيدة للحريات وفرض وضعية الحصار على الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني المستقلة والقليل المتبقي من العمل السياسي المعارض ليس موضع شك، يستحيل موضوعيا فهم أسباب تعثر التحول الديمقراطي دون تناول تداعيات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة على المواطن الذي يعزف عن المشاركة في الشأن العام وينزع إلى ترك الأمر للحكام. يستحيل أيضا تجاهل الآثار السلبية لكل من ضعف الحياة السياسية والمجتمع المدني وكذلك الخطايا الاستراتيجية والتكتيكية للقوى السياسية، خاصة في تونس، التي زعمت التزامها بمبادئ وقيم وأهداف الديمقراطية ولم يلبث بعضها أن تخلى عن أولوية التوافق الوطني لإنجاح التحول الديمقراطي.
ثالثا، يبدو حديث الديمقراطية والتحول الديمقراطي في بلاد العرب على خلفية هيمنة ثقافة العنف الإقصائية والغياب الكامل لقيمة الفرد أشبه بفقاعات هواء لا محتوى لها. لا إدارة للاختلاف، والديمقراطية هي في الجوهر منهج وإجراءات الإدارة السلمية للاختلاف التي تسمح بالتنوع والتعددية والرأي والرأي الآخر وتداول السلطة في إطار من حكم القانون والمشاركة الشعبية. وتغيب لدى نخب الحكم وقوى المعارضة القناعة الحقيقية بإمكانية الصناعة السلمية للتوافق بينها على نحو يضمن مصالحها الحيوية ويصيغ من القواسم المشتركة ما يسمح بتفعيل مبادئ التداول السلمي للسلطة والمساءلة والمحاسبة من خلال إطار لحكم القانون ونظام قضائي مستقل. فقط، نزوع لاحتكار السياسة وإلغاء الآخر وهيمنة للمعادلات الصفرية وصراع من أجل الاستحواذ على السلطة والحكم عنوة ودون تفريط.
رابعا، وفيما خص إلقاء لائمة إخفاق التحولات الديمقراطية في بلدان العرب على الغرب وما يرتبط بذلك النزوع من تذكير مستمر بازدواجية معاييره وعدم استعداده لتحمل كلفة ديمقراطية، فالأمر هنا ينطوي على تبسيط مخل لدور الغرب وقراءة بالغة السطحية لمصالحه في الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة ومعها كبريات الحكومات الأوروبية تتخوف بشدة من تواصل انفلات الأوضاع الأمنية واستمرار الانفجارات الأهلية العنيفة في مجتمعاتنا وموجات اللجوء والهجرة غير الشرعية الخارجة منها، تتخوف من كل ذلك وتداعياته لأن مجتمعاتنا عانت من سلطوية السياسة وغياب ثقافة التنوع والتسامح والتوافق وتعثر مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة طوال العقود الماضية. وبعيدا عن تلك المخاوف، يظل توقع أن الغرب إن أراد الديمقراطية العربية وعرفها باعتبارها مصلحة حيوية يملك القدرة على تحقيقها بغض النظر عن المعوقات الحاضرة في المجتمع والسياسة والثقافة وبمعزل عن إرادة نظم الحكم السلطوية القائمة مسألة تنافي مقتضيات القراءة العقلانية والتحليل العلمي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.