الطيب صالح يسأل: من أين جاء هؤلاء الكيزان؟ (1-2)

0 94
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
مفهوم “الثورة المضادة” من المتروكات في فهم نكسة الثورة السودانية على شيوعه على القلم الشيوعي بعد تداعي ثورة أكتوبر 1964. فلا أعرف من نظر في المفهوم مؤخراً في علاقته بالثورة سوى عبد الله جلاب في مقاله “أكتوبر: الثورة والثورة المضادة” في كتاب حرره حيدر إبراهيم وآخرون في ذكرى أكتوبر الخمسين. وساقنا ترك المفهوم إلى سذاجة سياسية كبرى. فتجد من يحللون خيبة الحكومة الانتقالية يدخلون في معط ذات عما ارتكبوه من أخطاء أدت إلى الهزيمة. وكأنهم لو جابوها كلها صاح صاح لنجحوا. فالافتراض هنا أن المصيبة لا تأتيهم إلا من بؤس أدائهم حصرياً. وكأن لا خصم لهم هناك خلعوه لا من سدة الحكم بل من سدة مصالح كما ينبغي وسيقاتل ظفراً وناباً لاستردادهما. قال صديق يوسف أن قحت هي الملومة في خراب الانتقالية لفشلها في اتخاذ قرارات ثورية ليعترض عليها العسكريون. وقال خالد سلك إنهم ارتكبوا ما ارتكبته الإنقاذ من غلظة وعزة بإثم الرأي كأنه لو خلا منها باركتهم الثورة المضادة. وقس على ذلك.
وهذه كلمة عن ضلالنا عن مفهوم الثورة المضادة ضلالاً ساقنا إلى غفلة كبرى عن الخصم الذي بيت الخلاص منك أحسنت أم اسأت. وكنت نشرته في بواكير ثورة ديسمبر 2018 على الجزيرة.
لا يجد كثير ممن عارضوا نظام الإنقاذ عسراً في نسبة ثورتهم الناشبة إلى ثورتين سبقاها هما ثورة 1964 ضد نظام الفريق إبراهيم عبود (1958-1964) وثورة 1985 ضد المشير جعفر نميري (1969-1985). فالناظم لهذه الثورات نسب ثوري لاستعادة الحكم المدني الديمقراطي. وللغرابة ظل هؤلاء المعارضون يجدون عسراً في نسبة نظام الإنقاذ (1989-2018) إلى ما سبقه من نظم ثاروا عليها. فالإنقاذ، نظام الكيزان (الإسلاميين) كما هو متعارف، في رأيهم منبت لا أصل في ثقافة أهل السودان بالمرة. وساقتهم “أبلستهم” لنظام الكيزان إلى ما يشبه العفو بالتقادم عن الأنظمة الطغيانية التي سبقته باعتبار أنه، برغم شططها، مما يمكن نسبتها لأهل السودان بشيء من المشقة والحرج بالطبع.
والأصل في قطع دابر نظام الإنقاذ، علاوة على استهوال فظاظته الباكرة التي لم تزايله إلى مصرعه، شجب الطيب صالح كبير أرباب حرم الثقافة السودانية لأهله. فلما رأى من النظام باكراً ما استقبحه ككاتب سادن لوجدان الأمة سأل في مقال مشهور: من أين جاء هؤلاء؟ وظل السؤال يلاحق النظام كاللعنة من جيل لجيل خلال عقوده الثلاثة الشقية. فاستعجب الطيب لموبقاته التي لا مكان لا في إعراب ثقافة السودانيين في قوله. فراعه أنه لم يجد لهم نسباً في أي من مفردات الثقافة السودانية التي هو حارس بوابتها. فقال:
من أين جاء هؤلاء؟ أما أرضعتهم الأمات والعمات والخالات؟ أما أصغوا إلى الريح تهب من الشمال والجنوب؟ أما رأوا بروق الصعيد (الجنوب) تشيل وتحط؟ أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟ أما سمعوا مدائح حاج الماحي (مادح للرسول من القرن التاسع عشر) وود سعد (من مادحي دولة المهدية الإسلامية في آخر القرن التاسع عشر)، وأغاني سرور وخليل فرح (جيل الوطنية والفن في العشرينات)، وحسن عطية والكابلي والمصطفى (مغنو الفترة اللاحقة)؟ أما قرأوا شعر العباسي (مدرسة الاحياء الشعري في العشرينات) والمجذوب (1919-1982)؟ أما سمعوا الأصوات القديمة والأشواق القديمة؟ إلا يحبون الوطن كما نحبه؟
ومن أطرف ما سمعت من استهوال السودانيين لنظام الكيزان وقطع دابرهم عن ثقافته ما حكاه أحدهم عن عمته. جلست تستمع إلى أسماء آخر مجلس وزراء للنظام قبيل مغربه. وظلت، متى سمعت اسماً منهم، سألت ابن أخيها:
-دا كوز واللا ود بلد؟
إذا تركنا جانباً مضاضة المعارضين من حكم الإنقاذ، التي قضوا بها أنه منبت عن السودان، فلا يصح مثل هذا الانقطاع في حكم التاريخ. وسأبحث في وحدة نسب النظم السودانية الديكتاتورية التي ثار عليها السودانيون من جهة المنطق والتاريخ:
فلا يستقيم منطقاً أن تجد لثوراتك نسباً في حين ينقطع نسب نظام الإنقاذ عن النظامين الآخرين اللذين ثرت عليهما. فكيف اتصلت سبحة ثوراتك وانفرطت سبحة النظم التي ثرت عليها؟
وصح من جهة التاريخ وصل النظم التي ثار عليها السودانيون بوجهين. أما الوجه الأول فهو المماثلة الواضحة في التنظيم السياسي الذي ثار على تلك النظم. فالكيانات التي كانت من وراء الثورات الثلاث من التطابق بمكان حتى لتكاد تستنسخ بعضها البعض. أما الوجه الثاني فهو تماثل الطبيعة السياسة والاجتماعية للنظم المستبدة حتى يكاد الواحد منها يتسلم المهمة من النظام المندحر السابق له، ويواصل القيام بها كأننا في سباق مبادلة.
تجمع المهنيين الذي يقود الحراك اليوم هو طبعة أخرى من جبهة الهيئات المهنية الي قادت ثورة أكتوبر 1964 والتجمع النقابي الذي قاد ثورة إبريل 1985. فقامت ثلاثتها على قاعدة “النقابة” بين القوى الحديثة في المدينة. وهي تنظيم طرأ على حياتنا بالاستعمار كوسيلة للمدينة
وقواها المأجورة في الدواوين والمصانع للتعبير عن مصالحها في شروط الخدمة وأعراف المهنة وما اتصل بها. وكثيراً ما ساقها هذا التنظيم في طريق الثورة للتغيير من قوى “النظام القديم” الذي لم يتصالح بعد مع المدينة كحقيقة ديمغرافية واقتصادية واجتماعية وسياسية وجمالية. وإذا أردنا عرقاً أقدم لهذا الكيان الحداثي لقلنا مؤتمر الخريجين العام الذي نشأ في 1938 كنقابة لخدمة مصالح “الأفندية” السودانيين في ملابسات الاتفاقية الإنجليزية المصرية في 1936 التي توافق فيها الإنجليز والمصريون لترقية تلك الصفوة السودانية في منازل خدمة الدولة. ومعلوم أن ذلك المؤتمر سرعان ما كَبُر على ماعونه النقابي الصرف ليطلب من الاستعمار منح السودان الحكم الذاتي في مذكرته الشهيرة عام 1942. وهكذا نرى هذه الهيئات تشترك جميعاً في أنها منابر لفئات حضرية استجدت على بلادنا بوجود الاستعمار، وحصلت على جاهها السياسي والاجتماعي بالكسب الحضري لا الإرث كما في طبقة الزعامة الطائفية والعشائرية الريفية بأحزابها الغالبة التي عرفت ب”الأحزاب التقليدية”. وليس بغير معن أن هاشتاق الحراك الحالي هو “مدن السودان تنتفض”. وما قَدِمت هذه الطبقة الكسبية إلى الوجود حتى عشمت في نزع قيادة السودانيين من طبقة الإرث التقليدية بصور مختلفة منها الثورات موضوع مقالنا.
ومن جهة موضوعية: إذا كان حراك السودانيين في 1964 و1985 و2018 ثورات فمن باب أولى أن نصف النظم التي نهضت ضدها بقوى “الثورة المضادة”. فليس من ثورة بغير ثورة مضادة. وتشهد على ذلك دراما الخصومة السودانية الطويلة بين القوى النازعة للتغيير والقوى المحافظة التي لا ترغب فيه. ولا يقطع استبشاع المعارضة السودانية لنظام الإنقاذ حبله بنظم الثورة المضادة التي سبقته بل يدمغه بأنه أعلى مراحل هذه الثورة. فجاء للحكم وقد رأي عضة الثعبان في سابقتها فأعد للأمر عدته وبالغ وأساء.
ونواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.