حمامة قبل الملامة: محاكمة فتاة “أريد زوجاً للستر”
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
خضعت إسلام، الفتاة الثلاثينية التي طلبت الزواج للستر بلافتة على استوب الكلاكلة، في لقاء لها مع قناة البلد إلى محاكماة مما قلت هنا مرات عنها إنها مما ينزع حقنا في المدينة. فمتى صدر منك مسلكاً من إملاء جبر المدينة وحرياتها وجدت نفسك في محاكمة بالقرى “وتقاليدنا وموروثاتنا”. ومفهوم “الحق في المدينة” من صنع الفيلسوف الفرنسي هنري لوفافر وعنى به أن نجعل من المدينة بيئة نسكن إليها. واستفدت منه لذات المعنى في وجه من يحاكم فينا المدينة بالقرية وكأن المدينة نسياً منسياً لا تهد على حياتك وخياراتك. كأنك وأنت فيها في القرى القديمة ما تزال.
أبدأ بشكر الإعلامية على قناة البلد أن سعت لإسلام تعرض علينا رأيها هي في الضجة التي ثارت حول مطلبها في السكون إلى زوج. ولقاؤها هذا نفسه من طرائق المدينة. فبدأت الإعلامية بالتعامل معها كضحية تربية، أو فاقد تربوي، بسؤالها إن كانت خضعت لقساوة من الأب أو من المرحومة أمها التي عوجلت ولم تنعم بنتها بصحبتها طويلاً. ولم تجد المذيعة في سيرتها شيئاً من تنمر. فتحولت إلى ما يشبه الوصاية بسؤالها لماذا لم تجرب فتح بابها لطالبي الزواج من الساعين لذلك في الفيسبوك. وكأن هذا من تقاليدنا وموروثنا. وسمعت المذيعة منها أنها حاولت ووجدت من جاءها غير جاد يطاول لا يريد التزاماً يبلغ به أسرتها. وسألتها إن لم تجد هذا الزوج في مجال العمل لتكتشف أن إسلام عاطلة وهي المهندسة المعمارية. ولم يثن ذلك المذيعة من قولها إنها لو حاولت لعثرت على وظيفة لتردها إسلام بأنها حاولت ولم تحصل سوى على تدريب بلا تعيين والسبب الواسطة التي لا سبيل لها عليها. ثم تحولت المذيعة بعدها إلى الشمارات عن صحة من جاءها بعد الإعلان، ومن هاداها مالاً إلخ.
وآتي أنا هنا للحق في المدينة من سؤال للمذيعة عن أقارب الأسرة لأسأل إن كان يعرف القائلون ب”تقاليدنا وموروثنا” أنها قد خرجت سالمة غانمة من وعثاء المدينة، أم أنها تغيرت كثيراً. هل هي في القرى كما هي في المدينة صاغ سليم؟ سألت المذيعة إسلام إن لم يكن لها أعمام وأخوال. وعرفت من ذلك أنها إنما توحي هنا بأن إسلام ربما وجدت من بين أبنائهم من “يغطي الماعون”. ومعلوم أن أوسع أبواب الزواج عندنا اليوم ما جاء من غير مغطيّ الماعون. بل أعرف عن كثب أن هذا المغطي لم تعد له الأولية التقليدية. فتجد من رفضوا طلبه تغطية ماعونه لتباين حظوظ عائلته وعائلة بنت عمه في الجاه.
فصار أكثر الزواج فينا بذلك مما ينعقد خارج العائلة عن طريق معرفة الحلة، أو الجامعة، أو المكاتب، أو الحزب السياسي ومنظماته. وفي هذا فليتنافس المتنافسون. وشقيت البنات في مطلب الستر هذا شقاء كثيرا. طلبنه بتفتيح البشرة بمساحيق التبييض حتى استقبل مستشفى الخرطوم للأمراض الجلدية 21 ألف حالة تشوهات الجلد بسببه (2017). وطلبنه بزينة اللبس فنصّب الرئيس المخلوع عمر البشير نفسه وصياً متنمراً عليهن بقوله في افتتاح مصنع للملبوسات: ” ملابس النساء باتت هاجساً للأسر وتهدد المجتمع بالانفلات” جعلته السوداني (9 يناير 2017) مانشيتها الرئيس دون لغو الإنقاذ الآخر. والبشير من كان قائماًُ على نظام يقع فيه الطلاق عن إملاق مرة مقابل كل حالتي زواج (ولاية الخرطوم 38361 زواج 14007 طلاق في 2016). بل يقضي قانون أحواله الشخصية أن عمل المرأة بإرادة الزوج وزواجها بولي عنها. وهو في زواج! ومن سئمت تكاليف التنافس من البنات اغرورقت الصبغة في دمها انتحاراً لتقع 200 حالة تسمم ما بين يناير إلى مايو 2017 منها 165 لنساء دون الرجال في أعمار 15 إلى 24 سنة: عمر الزهور.
وخرجت إسلام من هذه المنافسة المبتكرة في المدينة بلا زواج. وحرمتها العطالة المفروضة عليها من ساحة مهمة من ساحاتها وهي ميدان العمل. فبقيت رهينة البيت.
كلما مر يوم تتثبتُ من قناعتي بخيانة الصفوة الحداثية للمدينة التي ملكوا مفاتيح عمائرها ولم يملكوا مفاتيح حقائقها وإحصائيات معاشها. فجئنا المدينة من باب التورط لا الحق: بلا خلق ولا دين ولا قانون. فحزنت لسخرية المصلين (عن صلاتهم ساهون) بجامع حيها منها وهي تعرض عليهم أن يسترها ساتر منه. وفي فمي علقم من الذين تندروا منها وهي على الشارع تعرض علينا عارنا الذي يضطر مثلها لما سخروا منه لا الزواج. وتذكرت مثقفي مجتمعنا التقليدي كانوا عند التوقع في تبعة الستر. لو كان فينا فرح ود تكتوك لنادى: “حمامة قبل الملامة”. ولو كان السيد عبد الرحمن المهدي فينا لعقد الرجبية لتيسير الزواج حرباً للعنوسة. ولو كان فينا ولي من توتي لتداعى له الأزواج اثنين اثين للكورة. وقال جي اسبولدنغ عن الكورة إنها ال Eucharist (قداس العشاء الأخير للمسيح الذي فيه استطعام الخبز والنبيذ) وفي الرجل شطح أحياناً.
اعجبني من إسلام أنها لم تر عيباً فيما فعلت باحترام ذكي لمن خالفها. قالت لا بأس من عاداتنا وتقاليدنا ولكن العندو فكرة الينفذها. وقالت إنها لم تعمل حاجة غلط. وأنه ستطلع تاني إذا رأت أن تطلع.
إسلام علامة في حقنا في المدينة وباء بالخسران من حملها محمل الهزء أو التباكي على “تقاليدنا وموروثنا” التي لا مبدل لها لاصقة بنا كالعاهة. وهي مع ذلك ثقافة تعكر وتصفا وتتغير. وهو حق تنهض به النساء كتفاً لكتف مع الرجال في ساحات وغى التظاهرات منذ ديسمبر 2018. والمبدأ فيه أنا حر. أنا قبطان نفسي.