النزاع في جبال النوبة: من كسر المركز في الخرطوم إلى الزهادة فيه (1-2)

0 46

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

تصادف أني كنت أطالع مقالاً بمجلة “فورن بوليسي” (مايو-يونيو 2022) عما سماه الكاتب الوجه الجديد في النزاعات الأفريقية في الوقت الذي كان وفد الحزب الشيوعي السوداني يزور حركتين في النزاع في السودان ما يزالا، ويمهر معهما مواثيق سياسية معارضة لحكومة الخرطوم. والحركتان هما الجبهة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور. والأولى، والأكثر أهمية، هي ما كان يعرف ب”قطاع الشمال” في الحركة الشعبية لتحرير السودان التي أسسها العقيد جون قرنق في جنوب السودان القديم (دولة جنوب السودان اليوم منذ 2011) وتنادت للوائها جماعات في الشمال خاصة من أقاليم جبال النوبة بولاية جنوب كردفان، ومنطقة النيل الأزرق بجنوب شرقي السودان، وفي إقليم دارفور بأقصى غرب السودان. وتحتل هذه الحركة حالياً قسماً مرموقاً من جبال النوبة في جبال عصية معروفة بجبال كاودا. أما حركة تحرير السودان لعبد الواحد فثمرة انقسام في 2006 صارت بموجبه جناحان واحد لعبد الواحد وآخر لمني مناوي والي إقليم دارفور الحالي بعد انعقاد اتفاقية السلام في جوبا في 2020.

ما يجمع حركتا الحلو وعبد الواحد ومقال الفورن بوليسي أن الحركتين ربما كان من قصد المقال بالتحول في خطط النزاع في أفريقيا. فمن رأي المقال أن الحركات المسلحة في كثير من النزاعات الأفريقية زهدت في إسقاط الحكومة المركزية في بلدها على خلاف الجيل السابق منها الذي خرج ليستولي على سدة الحكم أو الانفصال. فصار النزاع في هذا الطور الطارئ أسلوب حياة تَمنح به الحركات المسلحة شبابها وسيلة للعيش. ونشأت طبقة اجتماعية بأكملها حول النزاع المسلح تستثمر فيه وتتربح منه بسَقط من الدولة المركزية نفسها، أو إتاوات على الأهالي الذين في دائرة نفوذها، أو ما جد من استغلال ثروات باطن أرضها.

اعتزلت حركتا الحلو وعبد الواحد مجريات السياسة السودانية بعد ثورة ديسمبر 2018 بعد تعاط من على البعد ومشروط. فحركة عبد الواحد فرغت مبكراً من وصف الحكومة الانتقالية بعد الثورة ب”الإنقاذ 2″ احتجاجاً على المساومة التي انعقدت بين المدنيين والعسكريين وساقت لتكوين تلك الحكومة في أغسطس 2019.

ولم تنجح محاولات الحكومة الانتقالية في جذب الحركتين إلى مائدة مفاوضات السلام في جوبا التي انعقدت في يناير 2019 وحضرتها حركات مسلحة أخرى. وانتهوا إلى اتفاق سلام جوبا المعروف (أغسطس 2020) الذي زاد من زهادة الحركتين في الأمر برمته. والقارئ المتمعن للاتفاق، المثير للجدل في يومنا هذا، سيرى ربما أن من أسباب زهادة الحركتين أن صار السلام في نظرهما مجرد استرداف لهما في اتفاق سبق لم يترك شيئاً لخيالهما كما يقال.

سنترك هنا سيرة حركة عبد الواحد التي يديرها حالياً من جنوب السودان ولا يزعم احتلالاً لأرض قي دارفور كما يفعل الحلو. وسنرى زهادة حركة الحلو راكزة في استعصامها، بل استعصائها، بالجغرافيا والثقافة. فهي تحتل جبلاً، كاودا، لم تنجح حكومة البشير في صعوده لحرب الحركة بقدر ما حاولت. وكادت العبارة “الصلاة في كاودا” تصير مثلاً في الفشل بقدر ما تكررت عند الرئيس المخلوع البشير معلناً عن عزيمته تحريرها عنوة والصلاة على أرضها المطهرة. وزارها عبد الله حمدوك، رئيس وزراء الحكومة الانتقالية المقال والمستقيل في يناير 2022، لكسر الحاجز السياسي والنفسي وليفتح الباب لتطورات في مفاوضات حكومته مع الحركة.

أما استعصام الحركة الأكبر دون التعاطي مع السياسة القومية فقد تمثل في مطلبها بدستور علماني أو الانفصال كما سنرى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.