عبد الوهاب هلاوي: مسيرة حافلة في مجالات الشعر، والإذاعة، والصحافة، والتلفزيون

0 190

كتب: صلاح شعيب

.

عبد الوهاب بابكر هلاوي كثيفُ الإنتاج الإعلامي، وشاعر متميز بمفردات متجذرة في الرومانسية، ويعود ذلك لرغبة أجيالٍ من المغنين، والمغنيات، نيل شرف الترنم بكلماته. وقد تجاوزت الأغنيات التي كتبها رقم المئة وستين ذهبت لأكثر من ثلاثين مغنياً، ولهذا صار يوماً عضواً بلجنة النصوص بالمجلس القومي للمصنفات الأدبية، والفنية.
في كسلا تتلمذ هلاوي على يد شعراء كبار منهم محمد عثمان كجراي، وافتتن بسحر مفردة إسحق الحلنقي، وحسن أبو عاقلة، ومن مجايليه التيجاني حاج موسى، وعز الدين هلالي، وعبد العال السيد، ومختار دفع الله، وعزمي أحمد خليل، وسعد الدين إبراهيم، وبشرى سليمان.
قصةُ هلاوي مع مجالات الشعر، والإذاعة، والصحافة، والتلفزيون التي امتدت لنصف قرن تقريباً، مثيرةٌ، وموحية، وتؤكد مثابرته اللا متناهية لتجويد التحرير الإعلامي، وتطوير النص الغنائي. بدأت القصة مع أول أغنية لهلاوي سجلت لإذاعة الكويت من ألحان بشير عباس، وغناء ثنائي النغم في رحلة فنية لهم، وكان هلاوي دون السابعة عشر من عمره.
ولاحقا ارتبط بالفنان زيدان إبراهيم الذي كان يُقيم في شرق إستاد المريخ بجوار خاليه اللذين يسكنان في العرضة. ابن خاله قال له بهذر: ما دمت شاعراً دعنا نذهب إلى زيدان لتمنحه قصيدة.
كان هلاوي آنذاك مغرماً بكتابة الشعر، وكذلك ممارسة كرة القدم، وصار ذلك الهذر يرن على مسامعه فيشغله مرة بالتردد، ومرات يلح داخلُه على خوض المغامرة. وفي يوم ما، بعد عودته من أحد التمارين، قرر قطع الشك باليقين، فذهبا إليه عند بدء الليل فاستقبلهما زيدان ببشاشة، وترحاب كبير، في برندته الصغيرة، ويتذكر هلاوي أن بجواره مسجلا، وعوداً. بعد أن أكرمهما قرأ له قصيدة فأعجب بها زيدان، وقال له إن سيسمعها قريبا، وحين ودعهما طلب منه عند عودته إلى كسلا أن يراسله عبر صندوق بريد استديو نوبار في شارع البرلمان.
قفل هلاوي عائداً إلى كسلا، ونسي أمر قصيدته اليتيمة التي قرأها بحذر. وذات مرة قادته موجة “هنا أمدرمان” إلى برنامج استضاف زيدان فسأله مقدم البرنامج الحاج عيساوي عن جديده فقال له إن شاعرا شابا هو عبد الوهاب بابكر هلاوي أهداه قصيدة، وأكمل تلحينها باسم الليل والدموع. تململ هلاوي في جلسته، وهو بين موقفه المصدق والمكذب لحديث الأثير، وما ثوانٍ إلا وانطلق زيدان يغني:
لو تعرف اللهفة والريد والعذاب
والشوق بيطرق في دروبك ألف باب
بعد نهاية الأغنية قال هلاوي للكاتب إنه لم يكن ليصدق أن الراديو الذي أحب الاستماع إليه سيخلق له يوماً هذه المفارقة الكبيرة الأولى في حياته الإبداعية. أما الثانية فإنه كان يراسل مجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح ببعض المقاطع، ويكتب تعليقات لعمود حزمة تفانين للراحل حسن مختار.
المجلة كانت تصدر كل خميس حيث تُطبع منها مئة ألف نسخة في عصرها الذهبي. تحملها طائرة الأربعاء الوحيدة إلى كسلا فيحتفظ بها أصحاب المكتبات لتوزع يوم الخميس. ذات مرة تصفح المجلة فوجدها قد نشرت قصيدته كاملة فاشترى فرِحا عشرين نسخة منها ليوزعها للأصدقاء. وحينما جاء إلى العاصمة وجد نفسه محرراً في ذات المجلة التي يراسلها بفضل اهتمام رئيس تحريرها الأستاذ عبدالله جلاب الذي يحفظ له الجميل حيث كان منحازا للشباب كما قال. ووجد هلاوي هناك نفسه في المجلة وسط محررين كبار منهم ميرغني البكري، ومنير حسن منير، ونجيب نور الدين، ومحجوب عبد الحفيظ، ثم ساهم هلاوي في إلحاق صديقه سعد الدين إبراهيم بالمجلة ثم الإذاعة، والتلفزيون.
لم تنته المفارقات فكانت الثالثة أن عمله بالمجلة قاده إلى البرنامج الذي كان يحبه، ويراسله. إذ كان يشكره المعدون في ختامه بينما يقبع الشاب المهموم بالشعر، وبرامج الراديو، بجوار جبال التاكا. فهو كان يراسل من كسلا برنامج “إشراقات الصباح”. ولما بلغ أمدرمان مستقراً بها وجد نفسه وجها لوجه مع ليلى المغربي ليكون معداً للبرنامج الشهير الذي تقدمه. وفي لاذاعة وجد دعماً من الأساتذة ذو النون بشرى، وصلاح الدين الفاضل.
ولكون برامج الصباح الإذاعية تستهويه فقد صار معداً رئيسيا للبرنامج الذي ساهم فيه بمئات الحلقات لليلى التي كانت تدهشها كلماته هلاوي النثرية حيث يخرج البرنامج طارق البحر، وأحيانا محمد خفاجة، أو عمر عثمان الجاك.
الإذاعة منحت هلاوي تجارب ثرة، ووجد فيها الحب، والحنان. وكان يرى أن أي شخص فيها هو بمثابة أخ، أو أب، أو خال، او جار. وبالمقابل منح الإذاعة الكثير من روحه الشاعرية المستهامة بالكلم المنغوم، وخبرته الصحفية، وتخصصه في الإعلام.
أحب هلاوي الذي ولد في كسلا ـ وعلمته ألف باء الحب، والجمال، كما قال – برامج المنوعات تحديداً بجانب إعداده كثير من البرامج الأخرى الإذاعية، والتلفزيونية، وهو يدين بالفضل في نجاحه لمخرجين كبار منهم معتصم، فضل، وشكر الله خلف الله، وكباشي العوض، ومحمد الأسد.
ساهم هلاوي في التلفزيون القومي عبر جريدة المساء، والخرطوم سلام، وقنوات الشروق، وS24، والنيل الازرق، متخصصا في مقدمات البرامج. وفي التلفزيون كانت لهلاوي مساهمة عبر أغاني المشاعل التي كتبها تمجيداً للوطن. وكتب كلمات المقدمة، والنهاية، للمسلسل السوداني المصري المشترك “أمير الشرق” مثلما ساهم في اكتشاف بعض نجوم التلفزيون مثل الأستاذ الشفيع عبد العزيز، والذي يراه هلاوي من أميز الإعلاميين في هذا المضمار. ومع ذلك يرى هلاوي أنه رغم التقدم التقني للتلفزيون فإن تأثير الإذاعة هو الأقوى.
هلاوي تحسر على المآل الذي وصل إليه الحقل الإبداعية، ويُرجع السبب إلى الآنظمة السياسية التي تجاهلت الثقافة، وأهملت الفنانين ما أدى إلى موت، ومرض، كثير منهم، على حد تعبيره. ولا ينسى التأكيد أنه يضع مكانةً كبيرة للأستاذ عمر الجزلي الذي يحترمه كثيرا، وكذلك يقدر في مجال التلفزيون الدعم الذي وجده من صديقه الاستاذ حسن فضل المولى.
-٢-
ضمن القمم الفنية التي تعامل معها عبد الكريم الكابلي الذي قدم “أغلى من نفسي”، وهي آخر أغنيات الكابلي، ومن ألحان أسماء حمزة. وغنى له العندليب زيدان إبراهيم من ألحانه” لو تعرف اللهفة” و”عشان خاطر عيون حلوين” و”فراش القاش” و” تتبدل مع الأيام” و”شراع الوحدة”. أما الفنان أبو عركي البخيت فقد أطرب الجماهير بأعمال هلاوي، منها “حكاية الشوق” و”الشاي و”مما يحدث” وأخريات. وخليل إسماعيل غنى له “فيك حلاة عيون”، وعثمان مصطفي قدم “النخلة” التي فازت بالجائزة الثانية في مهرجان الأغنية العربية.
ومصطفي سيد أحمد شنف الآذانبقصيدة شاعرنا هلاوي “لو مني مستني الملام” وعلي السقيد نال “عز الفرحة” وأخريات. والفنان عبد التواب عبدالله خرج منه بكلمات “شمعات المحبة” وصديق الكحلاوي حُظي بأغنية “زارع القسي” وخوجلي عثمان غنى له “مستحيل”. أما “قلبي ما بيعرف يعادي” و”يا معودني” و”مالو الوكت” كانت من نصيب الفنان الراحل عبد العظيم حركة.
تعاون هلاوي مع الفنان يوسف الموصلي فلحن له وحده ست، أو تزيد، من الاغنيات، منها “الكلام القالو عنك” و”شجر العنب” التي أهدى لحنها للفنان حيدر بورتسودان و”بلدنا نعلي شانا” و”قهوة ضحى” التي غنتها عافية حسن.
عقد الجلاد غنت لشاعرنا الكبير “حاجة آمنة” و”سوداني جد” و أخريات. وفرقة راي حازت على “ست الكسرة” وأعمال أخرى . النور الجيلاني غنى له “دبلة شنو” ومحمود عبد العزيز غنى له “ابتسامة حبيبي تكفي” والهادي الجبل غنى له “أمل موعود و”قالوا لي عنها” و”أساعدها”. أما عامر الجوهري فغنى له “كان يفترض” و”سيد كارو” و”صوت الرادي” وحُزمة أخرى. حسين الصادق ظفر بأغنية “قالوا لي عنها”.
أما عماد أحمد الطيب فنال “جاره” وإنصاف فتحي تلبس صوتُها كلمات “الابرول” و”يا البحبك قلبي جدا” كانت لعصام محمد نور. و”خليتني للأيام” وغنت لعبد الوهاب هلاوي ندى القلعة التي نالت “كسلا كفاره” و”بي ياتو حق” و”السياسة” و”ما كنت من تسعه بتنوم”. أما أسرار بابكر فحازت على “كل الحبايب بزعلو ” و”غلطت ظروفي معاي”. “زعل الجميل يا ناس معاي” و”قدرت تنساني” شدا بهما عمر إحساس. وكذلك غنى له سيف الجامعة، وسمية حسن، عدداً من الأعمال العاطفية، والمخصصة للأطفال.
“قهوة ضحي” ذهبت إلى وليد زاكي الدين و”يا قلبي وصيتك” رددتها عابدة الشيخ إضافةً إلى”مالي ومال كده” و”مستحيل” و”هوايد الليل”. وغنى لهلاوي أسامة الشيخ “ياغالي” وصباح عبدالله نالت “شويه شويه” من ألحان السني العضوي، وهناك طه سليمان الذي غنى له “الفات فات”.
أما الملحنون الذين تناولوا أعمال هلاوي فهم بشير عباس، ومحمد آدم المنصوري، وعبد اللطيف خضر، والماحي سليمان، وأنس العاقب، ومحمد سراج الدين، وصلاح محمد الحسن، وعثمان النو، ومحمد جوار، وشريف شرحبيل، والسني الضوي فضلا عن بعض الملحنين الشباب. وفي كل هذا التناول كانت الأغنية بكل أشكالها من عاطفية، ووطنية، وأخريات مخصصة لذاتها قاسماً مشترك في عمل هؤلاء الملحنين، فضلا عن تلحين بعضهم أوبريتات لهلاوي، من بينهم أوبريت “أما بعد”، والذي شارك فيه مغنون تجاوز عددهم أكثر من ثلاثة عشر. ويذكر أن بعض أغنيات الأطفال التي كتبها شاعرنا ترجمت لعدة لغات من قبل المركز الثقافي البريطاني والألماني، منها “طالع الشجرة” من ألحان عثمان النو.
-٣-
“عركي عالم لوحده ..تعرفت عليه وكنت دون العشرين..لا استطيعُ أن أقول كلَ شي عنه..إنسانيتُه مفرطة.. أخشى عليه من فرط شفافيته، وحبه للبلد. فهو مصاب بداء الوطن، وهذه مشكلة كبيرة. لم أر فنانا يعذبه حال وطنه مثل عركي..
عرفته في كسلا، وأنا دون سن العشرين، حينما كنت أزور الفنانين الزائرين للمدينة في الفندق الذي يقيمون فيه..
منذ ذلك الوقت توثقت علاقتي بعركي، وكان يزورني في بيتنا في كسلا، والخرطوم.. لا أنوي هنا ان أجرح مشاعره، فهو عفيف اليد، ونقي القلب، واللسان .. هو فخور بعصاميته، وصباه، و لا يستحي منه بل يجاهر به، ولم يغيره الزمن..
رحيل عفاف الصادق خلق له جرحاً عميقاً فهي بالنسبة له كل نساء الرض يتجسدن فيها.. فقد عركي زوجته عفاف – ونحن كذلك – كان قاسياً، ومريراً.. “مفردة ظاهرة كونية لا تتكرر” تنطبق على أبو عركي..فهو وفيٌ بدرجة عجيبة، وبشكل نادر..
يهاتفني عند الخامسة صباحاً باكياً على فقده سعد الدين إبراهيم ، ولك أن تتصور هذه الرقة، والمودة، والوفاء في بلد لا يعرف قيمة الناس..
اتمنى عودته مثل عودة الشمس لضوئها، والنجوم لبريقها..
فحالة غياب عركي هي نتاج الخراب الذي حاصر الفن في بلادنا..اتمنى انصلاح الحال فأزمتنا كبيرة ما دمنا لا ندرك معنى الغناء، والدراما..”
كانت تلك شهادة هلاوي عن صديقه الفنان أبو عركي، إذ لها أكثر من معنى، وإشارات عن فحوى علاقة الزمالة.
تلك كانت إضاءات قليلة الحيلة عن تاريخ الشاعر الرقيق عبد الوهاب بابكر هلاوي لا تفي بالحاجة لرصد التاريخ الإبداعي لشاعر نبيل الحس.. جزل العبارة ..عشق بلاده، وتمثلها بقدر وافر من العطاء في محافل الصحافة، والإذاعة، والتلفزيون، والساحة الفنية، وظل متواصلاً مع كل الأجيال، وحفيا برموزها المجيدين. هلاوي يستحق منا كل التقدير بحسب أنه طور ذوقنا العاطفي، ونقلنا إلى حوزات من رهافة الوجدان، والعذوبة الشاعرية، والدقة في التعبير عن الجمال الإنساني.

 

عبدالوهاب هلاوي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.