“يا حمدوك يا حمدوك” بينما فضاء الديمقراطية رحب
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(يرين وجوم على صفوة البرجوازية الصغيرة التي هدمت بنياناً شاده الشعب في الحكومة الانتقالية. فلم يفتح الله عليها بعد نهجاً لدفن جثة بحرها الانتقالي إلا من التلاوم بين فئاتها. وهو تضليل متعاقد عليه بين الأطراف نفسها ليغيب الأثر في الماء. أو تجد من خرج من هذا الوجوم إما لنقد الانتقالية بقوله إنه كان نصحهم بمنعرج اللوى، أو الذي جاء نقده بمثابة سف تراب الندامة على غلظة الانتقالية يستجدي الرشاقة السياسة.
وهذه كلمة قديمة عن كيف أضعنا النقد للانتقالية على أصوله وحين كان يجدي).
تلقيت على بريدي دعوة من الجمعية التاريخية الأمريكية لأطلب عضويتها. ولم اتشرف خلال اقامتي التي استطالت بهذا البلد بعضوية هذه الجمعية العتيقة. وجنحت للعضوية في جمعيات للتاريخ الأفريقي أو الشرق أوسطي. وما قرأت رسالتهم حتى رأيت منها كيف يحسن أهلها العيش الخصيب في الديمقراطية. فعرضت الرسالة عليّ ما انشغلت به الجمعية خلال الفترة الماضية دفاعاً عن علم التاريخ وتعليمه ومعلميه. وختمت بقولها إن عضويتي ستكون استثماراً في علم التاريخ ومهنته في وقت تشتد الحاجة إلى التفكير التاريخي. ومن خلق الديمقراطية دعوة الناس من فوق حيثيات مخدومة إلى ما ترى. وموالاة ذلك.
أعادتني دعوة الجمعية إلى حديث قريب لي بندوة ما قلت فيه إننا نضيع الديمقراطية لأننا لا نحسن العيش في فضائها. فما جاءت بعد كدح حتى انشغلت صفوة العلم والرأي بمسألة الحكومة المستجدة وبمجلس الوزراء فيها خاصة. وسميت هذه الظاهرة ب”لمة الرتينة”. فكان الناس متى “خنّقت” الرتينة في المناسبة نهضوا من أماكنهم زرافات ووحدانا، واجتمعوا حولها ليدلي كل واحد منهم بدلوه في كيفية ردها من الغبش إلى الضوء. فيختلط حابل العارف بنابل المتنطع. ومتى عادت الرتينة تضئ عادوا إلى مواقعهم وقد تنفسوا الصعداء.
ومتي سمعت المنادي ينادي على أيامنا هذه: “يا حمدوك!” فأعلم أن الرتينة خنقت. وهي المناسبة التي يترك الواحد فينا ما يليه ليهيص في طقس رد الرتينة من الظلمة للنور.
ليس السياسة في الديمقراطية قاصرة على الحكومة ومجلس وزرائه: من رتبوه فيها ومن عاد منها حسيراً غبينا. فالسياسة تبدأ في الديمقراطية من جذور لا من ذُرى. فهي ما تتفتق عنه قوى المجتمع المدني من خطط وأفكار لإصلاح حياتها تذيعهما، وتنور الناس بهما، وتحشدهم حولهما لتحاصر البرلمان ليستصدر تشريعات تفي بالغرض. وهذه هي الحكومة من أسفل.
وأول ما انتبهت لهذه الخاصية في الديمقراطية الأمريكية كان حين عرفت منشأ جمعية عتيقة هي “الأمهات ضد السائقين السكارى”. وكانت بدأت بأم فُجعت بفقد ابن لها، أو ابنة تحت سيارة سائق سكران. فخرجت تحتج لاستهتاره وتطلب بتشريعات صارمة تردع مثله عن ذلك الطيش. واجتمع حولها كل مفجوع مثلها وغير مفجوع في الجمعية التي أوفت في بابها وكفت.
وصار حفظ دم الناس من السكارى ثقافة. فكنت أسمع قبل كتابة هذه الكلمة إلى جهة في مدينتي تطلب، والأعياد على الأبواب، أن يخصص الشُرب (ناس القعدة) سائقاً لم يكتح ليقوم بتوصيل الشلة السكرانة الحيرانة كل إلى خشم بيت. فالسكران ف ذمة الواعي. ويسمون هذا السائق ال designated driver. بل بلغ من التشديد على القيادة تحت تأثير السكر أن التزمت المدينة وأصحاب البارات والمراقص باستئجار سيارات لنقل الزبائن السكارى في آخر الليل وفلق الصباح.
عرضت الجمعية التاريخية علينا ما انشغلت به مؤخراً لحماية التاريخ في رغد الديمقراطية. فرفعت قضية على إدارة الرئيس ترمب تطلب منها الالتزام بقانون سجلات الرئيس الذي يلزمها بحفظ نسخ كاملة منها. وكان دافعها ما ترامى إليها أن ترمب ربما تخلص من سجل مكاتباته وتسجيلاته. وفي مضمار صون الوثائق احتجت الجمعية على إدارة الهجرة الأمريكية لخطتها إبادة سجلاتها التي تكشف عن عسفها مع طالبي اللجوء لأمريكا. كما أصدرت الجمعية بياناً يستنكر مؤتمر البيت الأبيض للتاريخ الذي انعقد وقتها بحضور ترمب. واجتمع فيه مؤرخون محافظون وغير مؤرخين موتورين على غيرهم ممن اتهموهم بحقن الطلاب بالليبرالية والمعارف المتطرفة مثل نظرية نقد العرق. وأصدرت الجمعية في النحو ذاته مذكرة تدين العنف العرقي في بلدها. وتجدها سعت إلى وقف إغلاق شعب للتاريخ ببعض الجامعات خفضاً للكلفة. واحتجت على حجب الحريات الأكاديمية في كل من روسيا وهونج كونج والولايات المتحدة نفسها. واعتنت بعضويتها فجمعت ٦٠ ألف دولار لعون أعضاء منها فقدوا وظائفهم بسبب الجائحة.
ستظلم الرتينة لو لم يأت كل منا إلى السياسة في الديمقراطية من مكمن عرفته. فالرتينة مثل الفتيل ما بتشيل كتير. وستَخَنْق. وتنطفئ.