الإستقرار Vs الديموقراطية.. مقاربة عن الأوضاع السياسية في السودان..
كتب: مبارك أردول
.
بلا شك أن الأوضاع السياسية في السودان تتدهور كل ليلة بسبب تغييب لغة الحوار او وأده عمدا، فضلا عن بطء العملية السياسية التي ابتدرتها الآلية الثلاثية، وتعثرها بسبب الصدى الخارجي ومحاولات البعض لاستغلالها لاجندتها الخاصة، هذا بالاضافة للتصعيد المستمر من قبل بعض المجموعات السياسية في شارع المدن محاولة منها لفرض وإملاء شروط يمكنها من استلام السلطة منفردة او العودة لما قبل 25 أكتوبر 2021م، أو تغيير الأوضاع جذريا كما يطالب البعض.
تتنوع او قل تختلف أهداف المجموعات السياسية النشطة حاليا في الصراع السياسي في السودان باختلافات متعددة منها الايديلوجي والسياسي والبرامجي والأمني وحتى والجهوي وفوق لذلك النظرة للفترة الانتقالية في حد ذاتها، إضافة لان الارتباط بالخارج يشكل اكبر عملية تجري فيها الاستقطابات عبر فرض الأجندة من الخارج لعملية التغيير في الداخل والتي لا تنبع من قناعات وحسابات داخلية.
والاختلاف الذي طال ليس بشئ جديد الا ان ما يدور حاليا يؤكد ان هنالك حالة قد يصورها البعض بأنها تشبه بتوازن الضعف او العجز عن الاستمرار نتيجة لبعض الشكوك والمحاذير، فضلا عن فقدان عناصر الضغط او مقدرة التأثير على الأطراف الداخلية من الخارج.
أهم سؤال ينبغي أن يفتح به باب الحوار الآن هو ترتيب هذان الامران في عنوان المقال، واللذان يعتبران ضمن الاوليات التقليدية التي تهدد اي عملية للإنتقال، أو أن هنالك مؤشران يقاس بهما أي عملية للانتقال في نماذج مثل دولتنا هذه، فالانتقال الذي لا يقود إلى استقرار هو انتقال بغيض، والآخر الذي لا يقود الي ديمقراطية وتداول سلمي للسلطة يعتبر بالمقابل انتقال خطير ومرجح انه يقود الي ردة تهدد كيان الدولة نفسها، سيما وانه سيرجع الأوضاع القديمة التي استدعت الثورة.
اذن الأمرين مهمين، ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه أيهما يأتي اولا في سلم الأولويات؟ وحتى لا نطيل على القارئ الكريم فإن الديمقراطية في وضع هش مؤكد انها سوف تقود لاستقطابات سياسية وايدلوحية وجهوية وطائفية خطيرة، يقول هلال رمتي عن الاحباط الذي اصاب الشباب العربي بعد تجربة الديمقراطية في العراق: فالشباب العربي كان يطمح إلى الديمقراطية والدولة المدنية وحكم المؤسسات وتداول السلطة، حتى جاءت حرب العراق وقدمت نموذجاً عن الديمقراطية، نموذجاً متوحشاً وسيئاً. ولا شك أن ما مُورس في العراق بعد الحرب عليه ليس المفهوم المثالي للديمقراطية، بل ديمقراطية شكلية إفتقرت للحدّ الأدنى من مقوّماتها وأسسها. ويضيف إذ تتطلب الديمقراطية الحقيقية ثقافة ممارسة وتأهيل لنخب سياسية وطنية لا طائفية تقود البلاد والعمل لأجل دولة مدنية قوية يحكمها الدستور والقوانين. وكل هذه العوامل لم تكن متوفرة في النموذج العراقي ، بل إكتفت القوى السياسية التي جاءت بعد سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بحكم الأكثرية كعنوان كبير دون الإهتمام بتفاصيل الديمقراطية. نتج عن ذلك تسويق لأفكار سيئة عن الديمقراطية شوّهت معناها في وعي العرب… الخ
وهذا النموذج المنفر سيقود حتما لعدم الاستقرار وسيؤدي الي تمزيق لوحدة البلاد الوطنية، ونماذج كينيا أيضا كان واضحا، ولكن الاستقرار الذي نقصده وهو الحفاظ على الأمن بمفهومه الشامل سيثبت او سيحفظ التوازن لكل الاطراف الموجودة في الطاولة مما قد يقود لديمقراطية توافقية.
يقول الدكتور محمد عبدالسلام في مقالة نشرت على مجلة سويس انفو بعنوان (أيهما أولا: الديمقراطية أم الأمـن؟) فعلى الرغم من أنه لا يوجد تناقض بين الديمقراطية والأمن، بل على العكس، يمثل الإصلاح السياسي أهم أسُـس الاستقرار الأمني، فإن ما أفرزته التطورات السياسية داخل دول الإقليم مؤخرا من مشكلات أمنية، أدّى إلى إثارة قضية تتعلق بالاختيار (ولو مؤقتا) بين الديمقراطية أو الأمن. ويضيف يمكن القول بقدر كبير من الثقة أن المسألة الأمنية قد أصبحت إحدى المحدّدات الرئيسية المؤثرة في عملية التحول الديمقراطي الراهنة في المنطقة، نتيجة عاملين مكملين لبعضهما، هما: الأول أن التطورات السياسية الداخلية التي شهدتها معظم دول المنطقة، أيا كانت تسميتها، قد ارتبطت بمشكلات أمنية كبرى، فهناك دول أوشك بعضها على التفكك والتقسيم أو الاقتتال الداخلي، وتنهار المعادلات القديمة بين أغلبيات وأقليات سكانها، ودول تعمل قوى المعارضة فيها على إضعاف حكوماتها بإسقاطها أو خلق كيانات موازية داخلها أو تعتقد أن هناك فرصة قريبة للقفز على السلطة فيها، ودول أصبحت إدارة سياساتها العامة أو نمط حياة مواطنيها اليومية تعاني من اضطرابات مُـزمنة بفعل الاحتقانات السياسية. والثاني أن هياكل النظم في الدول العربية تترك منذ البداية مجالا واسعا لتأثير مؤسسات الأمن على إدارة العملية السياسية، وأنه أحيانا تتحكم العقلية الأمنية بشكل شِـبه كامل في التعامل مع ما يدور، بكل ما تحمله من تقديرات وهواجس. وقد أدّت الضغوط الخارجية على الدول والتقلبات الحادة في الإقليم، والتدخلات الواضحة من جانب دول مجاورة في شؤونها الداخلية، والحراك السريع داخل الدول ذاتها، إلى تصاعد نفوذ ما أصبح يُـسمى “قطاع الأمن” في إدارة شؤون الدول، بأكثر مما كان عليه في السابق.
ويؤكد في مقالته كمخرج للطوارئ قائلا أدّى هذا الوضع( يقصد الجدل بين الاستقرار او الأمن والديمقراطية ) إلى إفراز توجُّـهات ترتبط بالعلاقة بين الديمقراطية والأمن، وبدأت نتائجها في الظهور على الساحة السياسية الإقليمية في شكل نقاشات نظرية وإجراءات عملية، وتتمثل الفكرة الرئيسية، التي بدأ عدد كبير من المقالات في المساس بها، هي أنه ” لا ديمقراطية بدون دولة”، ويُـقصد بذلك، دولة قوية ذات سيادة يمكن أن تقوم بمهامها المعروفة، كحفظ الأمن.
ويحذر هلال رميتي مرة أخرى في مقالته المنشورة في الجزيرة نت بعنوان (بين الديمقراطية والاستقرار هل خدع الشباب العربي ) من النموذج السوري قائلا الاستقرار هو أولوية! نموذج آخر حصل في سوريا بعد بداية الربيع العربي في ٢٠١١، عندما تحوّلت المظاهرات الشعبية السلمية ضد نظام الرئيس بشار الأسد إلى حرب إقتتال داخلية ذات أبعاد إقليمية ودولية. وبعد الخسائر البشرية والمادية الهائلة التي حصلت، بدأ الترويج لفكرة تقول أن الإستقرار الأمني والإجتماعي والسياسي أهم من الديمقراطية والحريات… إلخ.
ففي طرحنا ومقاربتنا للأوضاع السياسية في السودان نرى ان المسألة مجرد التزام من الأطراف وترتيب للأولويات فلا نسعى لاستنساخ النظام الشمولي القديم او نضاحي الديمقراطية بكيان الدولة، وبما إن الديمقراطية مطلوبة بشدة الا ان الاستقرار وحفظ الدولة يسبقها ويمهد لها.
فملايين المواطنين الذين لا تشغلهم مجريات السياسة يهمهم بالمقابل الاستقرار وبلا شك، فإنه يؤثر على أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وغيرها وتمس حياتهم اليومية بشكل مباشر.