الحزب الشيوعي والجذرية الوطنية فيما بعد الحرب العالمية الثانية: في ميلاد عبد الخالق محجوب الخامس والتسعين (3)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لملأ فراغ الحماس الوطني قال محمود محمد طه للجمهوريين اقيموا الأرض ولا تقعدوها
وشرع الجمهوري، لغرض استثارة الحماسة الوطنية، في بناء جسر مع عامة السودانيين الذين تجنبتهم قيادة المؤتمر في انشغالها بالوفود والمذكرات إلى طرفي الحكم الثنائي. ولإشاعة المهمة التي أخذها على عاتقه اتفق للجمهوري في ذلك التجسير مع الجماهير. فطلب الإذن من الحكومة في يناير ١٩٤٦ بصحيفه باسمه لتعذر نشر مواقفه على صحف الأحزاب الطائفية. فردتهم الحكومة متعللة بقلة الموجود من الورق في ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية. فتجاوز الجمهوريون العقبة بطباعة بياناتهم بالرونيو. فصدرت منشوراته بتوقيع محمود محمد طه جهراً كسراً لحاجز الخوف.
وجذبت جراءة الجمهوري على الاستعمار شباباً من الأشقاء الاتحاديين من هم قاعدة مؤتمر الخريجين. فوقف منهم عثمان أبو بكر رجب ليطلب في ليلة سياسية من الأشقاء بنادي الخريجين، مقر مؤتمر الخريجين، أن يقتدوا بالجمهوري ويكفوا عن التخاذل. فحققت معه لجنة النادي بقيادة منصور علي حسيب وفصلته من النادي بتوصية من مدير مديرية الخرطوم الإنجليزي. واتصل محمود بنادي الخريجين وقال لهم إن ما قمتم به طعن للحركة الوطنية من الخلف، وأن الخلاف السياسي بين الوطنيين شرطه الحريات العامة، وطالبهم برد الاعتبار لعثمان. فتهربوا. وكذلك تهرب الأشقاء من عرض الجمهوريين. وقدمت الحكومة عثمان للمحاكمة فحكمت عليه بحسن السير والسلوك. وكتب والد عثمان مثمناً وقفة الجمهوريين مع ابنه: ” فإني أعتقد أن هذه الحركة (الأشقاء) لا تسوي قلامة ظفر من عثمان”.
وجرت جراءة هذا التوقيع محموداً، الذي جعلت الحكومة وظيفته “مقاول” في أوراقها الرسمية، إلى المحاكمة تحت المواد 81 و82 إثارة الكراهية ضد الحكومة. وطلبت منه محكمة جنايات الخرطوم الكف عن اصدار المنشورات لعامين بكفالة مقدارها خمسين جنيهاً. وانتهز الجمهوري هذه السانحة الوطنية لرد الاعتبار للنضال الوطني الشعبي الذي تنصل عنه المؤتمر والأشقاء. فاتفق الحزب ألا يوقع محمود على الكفالة، وأن يدخل السجن كالسجين السياسي الأول منذ ثورة ١٩٢٤ لاستثارة الجمهور، وشحذ همته للنضال الوطني الصريح.
واتبع الجمهوري ذلك بتنظيم مخاطبات جماهيرية من كادره في المدن الثلاث ل”نجرئ الناس على الحكومة” في قولهم، وتحريك ساكن الحركة الوطنية. فعينوا لأمين صديق، سكرتير الحزب، الخطابة أمام السينما الوطنية ببحري. وللمجذوب الشاعر الخطابة عقب صلاة الجمعة بأم درمان. ولمحمد فضل الخطابة أمام سينما أم درمان. واستقبل الجمهور تلك المخاطبات، التي لم تحدث منذ ثورة ١٩٢٤، بحماسة. وبلغ من أسر تلك المخاطبات أن سار الجمهور من خلف أمين صديق بعد نهاية المخاطبة في بحري من عند السينما حتى الحلواني المجاور. فخاطبهم مرة ثانية بموقف الحزب عن مسألة الجنوب على ضوء منشور صدر لهم عنه من قريب.
وساهرت مدينة بحري ليلها متظاهرة. وظل البوليس يبحث عن أمين فيها بينما كان قد انتقل إلى أم درمان ليلقى المجذوب ومحمد فضل لمخاطبة الجمهور عند مقهى عند سينما برامبل. ووقف أمين على كرسي فيها ليتحدث للناس. وتحرك سطح السياسة الوطنية الساكن. فاستمرت الخطابة العامة من الجمهوريين. وأخذت الصحف تشارك في الإثارة. وتواترت بيانات الجمهورية. وبثوا الخبر في الأقاليم التي تساوقت منها برقيات المؤازرة لمحمود.
أراد محمود من سجنه أن يكون بادرة من قائد تلهم الآخرين في فداء الوطن. فكتب لزملائه: “وأستطيع أن أقول إن السجن يجب أن يكون مما يتهافت عليه الشبان في الدفاع عن قضيتهم الوطنية، فإن فيه تجارب تزيد الإيمان بالنفس والوطن تأججاً واتقادا”. بل اتخذ محمود من سجنه نفسه مادة للتفكر في برنامج لإصلاح السجن في باب تفكيك دولة الاستعمار. فكتب عن أوضاع السجن الكئيبة للمساجين والأحداث. ووصفه بأنه مؤسسة لتخريج مجرمين. فطالب بنظافة السجن مثل توفير حلاق صحة للدرجة الثانية، واستخدام الفنيك للأدبخانات، وإفراغ جرادلها مرتين في اليوم”.
ونقل الجمهوريون أحوال السجن وخطط إصلاح حاله لقادة الأحزاب. وزود محمود رفاقه بدقائق اختلاف المعاملة بالنسبة للسجين الأجنبي عن السجين السوداني. ومن ذلك أن القسيس يزور السجين الأجنبي ولا يفعل رجل الدين المسلم. وما خرج محمود من السجن حتى شرع في برنامج لإصلاح السجن بوصف “السجن ملك الأمة” وله ضحايا. وجاءت عبارته هذه في خطاب لمدير الخرطوم يطلب منه السماح له بزيارات للسجن لمزيد من التحري عن الحياة فيه، وليكتب عن ثقة. ولوح له أنه إن لم يستجب نشر محمود عن حالة السجون مما عرفه في سجن كوبر.
واتصلت المخاطبات الجماهيرية عن سجن محمود. فصارت مادة للصحف وبرقيات الاحتجاج عليه. فطاف أعضاء الحزب علناً على الصحف لتسجيل استنكارهم لسجن محمود وعلى مرأى من بقية الموظفين شحذاً لحماسهم. بل رتبوا، طلباً للفدائية. اقتحام السجن لتحرير محمود. وزكى محمود لهم تلك الجراءة لإثارة الرأي العام النائم: “تقيموا الأرض ولا تقعدوها”.
ولم يجعل الجمهوري من السجن منصة للاستثارة السياسية حول مسألة سجن محمود فحسب، بل للوعي بسياسات هذا الموقع المغلق. فرتب للتواصل مع الناس لتأليب الرأي العام حول إضرابه عن الطعام الذي دخل فيه احتجاجاً على سجنه وظروفه. فأذاع عن رداءة تلك الظروف يوماً بيوم ما حدا بالحكومة لطمأنة الناس على صحة محمود على غير ما يزعم حزبه. ونقل الحزب للرأي العام أن محموداً مصمم ألا يفطر عن صيامه إلا خارج الأسوار.
وصب خط الحزب في جعل سجن محمود قضية لحرية الرأي. فخاطب مؤتمر الخريجين حول خرق الحكومة للحريات العامة، وإغلاق صحيفة “صوت السودان”. وطالبه بعمل شيء لوقف بوادر الفوضى الحكومية التي “ستأخذنا أفراداً” فتميت الحركة الوطنية. وحثوا الأحزاب والهيئات والصحف لعقد مؤتمر عام لمواجهة الحكومة لتثبيت مبدأ الحريات العامة. وانعقد المؤتمر في 15 يوليو 1946 وغُيب عنه الجمهوريون. فانتقدوا قرار المؤتمر القائل إنه، متى قامت الحكومة بتعد على الحريات، فمن حق الحزبين الأمة والأشقاء الاجتماع للتشاور فيما يمكن عمله. فعوار القرار عند الجمهوريين لا يحتاج إلى شاهد: فمحمود معتقل وجريدة صوت السودان معطلة.
وجاء الفرج السياسي للجمهوريين على يد الصحافة. فكانت الصحف منصرفة عن خبر محمود حتى دخوله في اليوم الثامن لإضرابه لأنها عدته نوعاً من الدعاية للحزب. ولكن بشير محمد سعيد، محرر السودان ستار، أكد خبر إضراب محمود عن حكمدار السجن. وما انتشر الخبر حتى انهالت البرقيات المحتجة على الصحف والهيئات مطالبة بإطلاق سراح محمود. وواصل الجمهوريون إلهاب الشعور العام. بل رتبوا لإذاعة بيان عن المسألة بعد احتلال استديو الإذاعة إلا أنهم انكشفوا للسلطات فتوقفوا.
وتشكلت لجنة تحقيق في مسألة محمود ليستبين الناس حقائقها. ولم تجد الحكومة بداً من إطلاق سراح محمود بزعم شفقة الحاكم العام عليه بعد خمسين يوماً من الحبس. وتواترت التلغرافات تهنئ بالإفراج عنه. وأحصيتُ 8 تلغرافات من مدينة عطبرة واحد منها من الطيب حسن، من الأشقاء، الذي سيكون سكرتير عام هيئة شؤون العمال بعطبرة في 1947. كما وردت تلغرافات من اتحاد طلاب كردفان، ومن المهندس حسن بابكر من القضارف وهو من نواب الحزب الوطني الاتحادي القلائل الذين وقفوا ضد حل الحزب الشيوعي في 1965.
كانت نصال الخيبة في قيادات الحركة الوطنية، على ضوء واقعة وفدها للقاهرة، قد أصابت أفئدة سياسية أخرى بجانب الجمهوريين. وأمحنهم فراغ القيادة الوطنية، وأسهد شبابهم الثائر للوطن ليتلمسوا سكة لملئه. وساقتهم تلك الفدائية إلى الماركسية في ذلك الظرف السياسي الجذري. وسأعرض أدناه لطائفة من مؤسسي الحزب الشيوعي الذين لم تزلزلهم نكسة وفد السودان فحسب، بل تقاطعت دروبهم مع الحركة الجمهورية، التي استدبرت تلك القيادات بالله واحد، بصورة مباشرة وغير مباشرة.