الرحول عز العرب

0 245
كتب: جعفر عباس
.
يحسب بعض من لم يخوضوا تجربة الاغتراب طلبا للرزق أن المغتربين في منطقة الخليج أعضاء في أوبيك، وأن الواحد منهم يستطيع ان ينزل الدلو في بئر ويغرف منه الريالات او الدنانير او الدراهم، وبالتأكيد فإن المغتربين في تلك المنطقة يعيشون حياة أفضل – من حيث الأمور المادية- من تلك التي عاشوها في وطنهم، بينما معظم المغتربين في أوروبا او أمريكا يكابدون شظف العيش ويعمل كثيرون منهم في اكثر من وظيفة لكسب العيش.
شخصيا ورغم ان قوانين العمل الخليجية عموما تمنع الجمع بين وظيفتين إلا أنني ظللت طوال ال18 سنة الأولى أجمع بين أكثر من وظيفة ومع هذا كنت أعيش مع عائلتي بنظام from hand to mouth من اليد الى الفم يعني ما يكفي بالكاد للقوت اليومي، ولم أقع تحت طائلة القانون لأن معظم عملي الإضافي كان في مجال الترجمة، وكما ان سائق الركشة في السودان “نفسو يقطع الكوبري”، فطوال سنواتي في ابوظبي كانت ام الجعافر تقول: نفسي أأكل وجبة في تربيزة السفرة، ذلك ان تلك التربيزة كانت محتلة من قبل القواميس وتلال الأوراق اللازمة لممارسة الترجمة، ثم تفاديا لدفع 5 دراهم عن الصفحة الواحدة لمن يتولى طباعة ما كنت اترجمه اشتريت آلة كاتبة وصرت اطبع بنفسي.
أدى العمل في جريدة الاتحاد في ابوظبي الى اضطراب في حياتي العائلية، لأنني كنت مطالبا لمرة أو مرتين في الأسبوع البقاء في الجريدة حتى تدور المطابع في نحو الرابعة فجرا، وأدى ذلك الى عدم تواصلي المنتظم مع عيالي: أعود فجرا لأنام، وهم يستيقظون بعد ذلك بقليل ويتوجهون الى المدارس او رياض الأطفال، وبعد عودتهم بنحو ساعتين أتوجه انا الى مبنى الصحيفة، وذات صباح وجدت إعلانا يفيد بأن شركة الاتصالات القطرية (كيوتل وصار اسمها اليوم أوريدو) تبحث عن مترجم فهتفت: ياما انت كريم يا رب، وقدمت طلبي ثم جلست للاختبار بإشراف خالد البوعينين رئيس قسم التوظيف في كيوتل، مع 36 آخرين وقبل انتهاء المدة المقررة للاختبار بساعة كاملة نهضت وسلمت أوراقي للبوعينين، فحسب انني لم اكمل الاختبار وحاول تشجيعي للعودة الى مقعدي لأواصل “المحاولة”، فشكرته وقلت له إنني أكملت الاختبار وانني واثق من ان أدائي فيه كان جيدا، وما جعلني أقول ذلك ليس كوني عبقريا بل هو أنه سبق لي تعريب كل أوراق ومستندات مؤسسة الاتصالات الإماراتية وبالتالي كنت ملما بلغة ومصطلحات الاتصالات، فطلب مني اجلس جواره قليلا وقلب أوراقي وشرع على الفور في عرض الوظيفة علي من حيث الراتب والمزايا، وقبلت العرض (بينما بقية المتقدمين يواصلون الإجابة على أسئلة الاختبار).
وتلقيت العرض كتابة بعدها بخمسة أيام، وقدمت استقالتي من الجريدة فقال لي مدير التحرير: روح قطر وجرب حظك وعندك 6 شهور تقرر فيها الاستمرار في قطر او العودة الى الجريدة، كان قد قال لي كلاما مشابها عام 1985 فبعد سقوط نظام نميري قررت العودة الى الوطن نهائيا فتقدمت باستقالتي، وذهبت الى السودان وخلال أيام تلقيت عرضا بالعمل محاضرا في قسم الترجمة في جامعة الخرطوم، وفي سياق استكمال إجراءات التعيين قابلت بروفسر علي المك رئيس القسم الذي فاجأني بالقول: انت عوير؟ فاكر خلاص السودان ح يغرق في النعيم؟ وبدوره نصحني بالبقاء مدة إضافية في السودان لأقرر ترك ابوظبي نهائيا ام لا، وبعد شهرين ما بين كوستي والخرطوم اتخذت قراري بالاغتراب “نهائيا”، خاصة وان أمي كانت قد قالت عندما قلت لها إنني قررت البقاء في السودان: إليلن أيقا أرمود جابجو (يا دوب الرماد كالنا).
غدا بحول الله تبدأ جولتي الثانية في قطر، عملا بمقولة “الرحول عز العرب” التي يرددها أهل البوادي في السودان ويقصدون بذلك انهم كلما تنقلوا بقطعانهم وجدوا الماء والكلأ والعز.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.