في الذكري الثامنة والخمسين لثورة أكتوبر: ميلاد مفهوم الإضراب السياسي العام الذي أطاح بطغمة عبود

0 85

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

ليس ميلاد فكرة الإضراب السياسي العام مما نحتفل به. فحتى الشيوعيين الذين تربت الفكرة في عزهم لم يجعلوها مأثرة للتفكر فيها. وهذا محزن لأن الفكرة وتنفيذها هما ترياق من روجوا لأكتوبر (والثورة) كفعل “عشوائي”. وليس مهماً هنا أن معظمهم أراد أن يبخس الشيوعيين أشياءهم. الأهم أن الثورة صارت لمن أرادها لقية أو ضربة حظ لا ممظر فيه إلى علم للثورة يسهر عند تكتيكها وتنظيم قواها. فصارت كل مظاهرة انتفاضة وكل مصرع شهيد أكتوبر أخرى. وألهمني فكرة الاحتفال بمرور نصف قرن على ميلاد فكرة ذلك الإضراب مقالة قيمة نشرها رفيقنا وود حلتي (الداخلة) الدكتور جعفر كرار أحمد على “سودانايل” عن علم الثورة كما تجلى في أكتوبر وأبريل. وهي طويلة نوعاً لأنها من ابحاث جعفر القيمة عن الحركة الثورية. وأردت لفت النظر إلى مقالته بهذا الموجز.
جاء هذا التاريخ للإضراب السياسي في الفصل الثاني عشر من كتاب “ثورة شعب: ست سنوات من النضال ضد الحكم العسكري الرجعي” (1965) الذي جمع في 448 صفحة معظم وثائق الحزب الشيوعي وجبهاته التي صدرت في تلك السنوات الست من المقاومة. وقد حرره بغير ذكر للأسماء المرحومان التجاني الطيب وعمر مصطفى المكي. وعملت معهما (وجعفر النصيري) كمساعد ابحاث. وكتبت والنصيري فصل مقاومة الطلاب فيه.

يبدأ المحرران فصل الإضراب العام بالرد على من قالوا إن ثورة أكتوبر “تلقائية” لا خطة من ورائها ولا مخططاً. قال الكتاب:
“هناك من يقللون من عمق ثورة أكتوبر ويصفونها بأنها كانت حركة تلقائية قامت دون قيادة ودون تنظيم، ودون أن يتوقعها أحد. وهؤلاء ينسون، وبعضهم يتجاهل عن قصد، أن هذه الثورة كانت تتويجاً للنضال الذي ظلت تشنه القوى الثورية من عمال ومزارعين وطلاب وضباط وطنيين طيلة السنوات الست التي ظل فيها الحكم العسكري الرجعي جاثماً على صدر شعبنا”

وعرض الفصل للنضالات المذكورة حتى جاء صيف 1961 وبدأ الحزب الشيوعي يناقش في أروقته سبل الخلاص من النظام بعد ثلاث سنوات من العزلة التي ضربتها حوله تلك النضالات. وهي المناقشات التي خرج بها بخطة الإضراب السياسي العام كالسبيل إلى الاطاحة بالنظام على بينة من تحليله للوضع السياسي الكائن آنذاك. وصدر ذلك في مقال في مجلته الفكرية” الشيوعي”، (108، 21-7-1961)، بعنوان “تفاقم الأزمة الثورية وتفكيك الدكتاتورية”. ثم عمم الحزب الفكرة للجمهور في بيان بتاريخ 29-8-1961. ثم وضع في أغسطس 1961 خطة تنظيمية للشيوعيين لإدارة العمليات السابقة للإضراب السياسي العام. ثم عرضت سكرتارية الحزب المركزية حصيلة التربية على الخط السياسي منذ إعلانه وتطبيقه على اجتماع اللجنة المركزية في 6-1-1963.

ما هو ا الإضراب السياسي بحسب أدب الحزب؟
“إنه توقف الجماهير الثورية عن العمل. ويتم تنفيذه عندما تصل الجماهير الثورية إلى وضع لا تحتمل فيه العيش تحت ظل النظام الراهن، ولذا فهو يمثل تغييراً كيفياً في وضع الجماهير الثورية وعقليتها. إنه عملية وسلسلة وليس ضربة واحدة . . . عملية من الدعاية والعمل الفكري الدائب ضد تهريج النظام الراهن ومن أجل تعميق الاتجاهات الثورية لدى الجماهير، ومن التعليم والتجارب، من المعارك اليومية المختلفة والتآزر حولها، من بناء قوة ثابتة للجبهة الوطنية الديمقراطية، من نضال قانوني، وغير قانوني، من تحسين للحزب الشيوعي ووضعه في القيادة وارتقاء بنفوذه الأدبي. وكل ما يسير في طريق هذه العملية ثوري ومفيد ويقرب الناس من الاقتناع بالإضراب والاستعداد ثم تنفيذه”

ما هي الجبهة الوطنية الديمقراطية؟
رفع الحزب واجب بناء الجبهة الوطنية الديمقراطية يداً بيد مع طرحه شعار الإضراب السياسي سبيلاً لتقويض الديكتاتورية. وهي مفروض أن تتكون من قوى العمال والمزارعين والطلاب والمثقفين والرأسمالية الوطنية التي ظلت في ميدان الحركة الوطنية والتغيير الاجتماعي، وناطحت الديكتاتورية فأثخنتها وعزلتها. وقال التقرير إن تلك الجبهة هي وحدها الكفيلة بتغيير النظام الديكتاتوري بطريقة ثورية حاسمة تفتح الطريق للتقدم. فلا الحزب الشيوعي ولا تجمع المعارضة (تكون من الأحزاب وقد كان الحزب الشيوعي فيه ثم خرج عليه علناً لوهنه السياسي كما قال) بقادرين على تغيير النظام بقواتهما الخاصة. وعليه فالجبهة جيش سياسي. والواجب المقدم هو الخروج به من السلبية ثم اتحاده ووضوح أهدافه. فإذا تهيأ ذلك الجيش السياسي للضربة القاصمة وقعت وربما تقع قبل أن نستكمل التعبئة فاحتمالات المستقبل تحددها الحركة الجماهيرية.

الاتجاهات اليسارية والإضراب السياسي العام:
كان الحزب متحوطاً لإفساد الإضراب السياسي من الثوريين بقدر إفساده من الديكتاتوريين. وعليه تربص بالاتجاهات اليسارية في داخله التي جعلت تنفيذ لإضراب واجب الساعة لا عملية طويلة من المد والجزر. وكانت مديرية الحزب الشيوعي بالنيل الأزرق (مدني) بقيادة المرحوم يوسف عبد المجيد هي الأطول باعاً في تعاطي الإضراب السياسي العام كموضوع للتنفيذ الفوري المباشر. واجتمعت بهم سكرتارية الحزب لتراجعهم في ذلك الفهم الطاغي في أدبهم الجماهيري. ونشرت السكرتارية حصيلة اجتماعها في مجلة الشيوعي (117 بتاريخ 14-10-1963). وخلصت إلى أن رفاق مدني لا يأخذون في الاعتبار نضج الأزمة الثورية في تزكيتهم كل إضراب كدخول في الإضراب السياسي العام وأن كل صيحة به ستلبى. ورأت سكرتارية الحزب أن مثل تلك الاتجاهات اليسارية تلحق “أضراراً بليغة بقضية الإضراب السياسي”. وقالت قيادة الحزب إن ميقات تنفيذ الإضراب العام رهين بقدرات الطبقات الاجتماعية وطاقاتها. وليس مهماً التوقيت ولكن المهم التجييش ليوم النزال.
ليس في فصل الإضراب العام في الكتاب إشارة إلى من ألهم الحزب الشيوعي فكرته (الجنرال سترايك) ولكنها معروفة في الأدب الثوري والممارسة العمالية والشعبية العالمية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.