الانقلاب التائه!
كتب: فايز السليك
.
انقلاب مكتمل الأركان.. تصحيح المسار يتم عبر حركة الجماهير لا بقوة السلاح وحشد الفلول. فلننظر لنعرف الذين يؤيدون الجنرال البرهان ونعرف أن كان ثورة ام انقلاب؟
كان هذا آخر منشور كتبته يوم ٢٦ أكتوبر ٢٠٢١ بعد عودة الانترنيت لبرهة من الزمن وقبل اعتقالي بساعات، الأمر الذي منعني من التفاعل.
كنتُ على يقينٍ تام بأن ظهوري في قناتي العربية الحدث، و الجزيرة سيعقبه اعتقال لا محالة؛ ما كنت خائفاً؛ بقدر ما كنت مهموماً بضرورة تثبيت موقفي، والتأكيد على أن ما وصفه البرهان بتصحيح مسار كان انقلاباً يدعمه الإسلاميون، ويستغل فيه حركات الهامش ( تكتيكياً) حتى يعود الإسلاميون عودةً كاملةً إلى المشهد ، ثم يشكلون الحاضنة السياسية للانقلاب، ويتخذون من الإدارات الأهلية حواضن اجتماعية.
تملكتني ثمة هواجس بعد انتهاء مقابلتي مع قناة الجزيرة؛ التي كررتُ فيها ذات قولي في قناة العربية الحدث عبر الهاتف صبيحة يوم الانقلاب، أو عبر الاستوديو في اليوم التالي، كانت الهواجس متعلقة بالجهة التي ستتولى أمر اعتقالي؟ حيث تتسابق ثلاث مؤسسات متنافسة لفرض الأمر الواقع وفق رؤيتها وأجندتها، وقد يؤدي ذلك الى تفرُّق مسؤولية الاعتقال بين الشركاء المتشاكسين!
كنتُ مدركاً تماماً بأن الانقلاب يخص ( إخوة أعداء) ؛ و ينفذه شركاء متشاكسون ومختلفو الأجندة، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، كان ولا يزال الهدف واحداً؛ وإن اختلفت الأجندات، كان الهم واحداً وإن تفاوتت الطموحات؛ ومع ذلك كان العدو واحداً تجمعوا حوله لتصفية حسابات سياسية وأخرى استراتيجية مرتبطة بالقضاء على تجربة الحكم المدني.
يتزعم الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة مجموعة الشركاء الأعداء، تدفعه مخاوف من ما يمكن أن يتعرض له الجنرال بعد انتهاء أجل سلطته، وفي الذاكرة قائدهم السابق الذي رموه في جب كوبر، يشكو من عض الناموس ومن ارتفاع درجة الحرارة ومن غدر الزمان؛ بعد أن أصبحت جنته خاوية على عروشها.
وللجنرال البرهان، مطامحٌ في السلطة التي ٌ يخطف بريقها الأبصار، وتطرب زفات البروتكولات وجوقات عازفي الطبول الآذان، وفي القصور دعةٌ للقادمين من فلواتٍ قصية.
وما بين المخاوف والمطامح تنبت ضغائن حملها من المدنيين خلال فترة الانتقال، فالجنرال سليل مؤسسةٍ عسكرية مبنية على الانضباط، والقائد المتخرج منها لا يحاور المختلفين معه في الآراء والأفكار، بل يصدر الأوامر من علٍ للتابعين، ويحاور بالسلاح من يختلفون معه.
نمت ضغائن الجنرال على المدنيين عندما بدأت قوانين اللعبة تتغير، فعضو المجلس السيادي محمد الفكي، يناشد الثوار لحماية ثورتهم من الضياع بعد محاولة انقلاب بكراوي، والبرهان يترجم المناشدة بأنها تعبئةٌ ضده، وفي ذات الوقت يعترض وزير شئون مجلس الوزراء خالد عمر يوسف، في وجهه عندما طالب بحل أزمة اغلاق الموانئ في شرق السودان، وكذلك للبرهان خلاف حاد مع وزير الصناعة إبراهيم الشيخ؛ الذي دعا الجيش لتبديل قائده، وهذا يدخل في باب التحريض لاستخدام القوى العسكرية.
يأتي في تراتبية شراكة الأعداء قائد الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو حميدتي، بعد أن حسم تردده من المشاركة في الانقلاب؛ بعد أن شعر بخذلان قوى الحرية والتغيير له برفض قادتها الوقوف بجانبه عندما اشتد الخلاف مع رئيسه.
طوى حميدتي، صفحة خلافه مع البرهان، شاهراً ورقة تقاربه مع الحركات التي كانت تحاربه في دارفور، حيث رشحت تسريبات حول تحالف للمسلحين، يخطط لتغيير قوانين المعادلة السياسية، وتعظيم طموح الرجل الذي اضحى يوسع زاوية الرؤية، ويغذي بذور الطموح الجموح. يأتي بعد ذلك في ترتيب الشركاء، قادة الحركات المسلحة للانقلاب لتصفية حسابات مع حلفائهم في نداء السودان برزت خلال اجتماعات عقدت في أديس أبابا والقاهرة، عقب سقوط البشير، فقد طالب قادة الحركات بإرجاء أمر تشكيل مؤسسات السلطة الانتقالية إلى حين التوصل لاتفاق سلام في جوبا، لكن قادة الحرية والتغيير لم يتجاوبوا مع مطالب رفاق الكفاح المسلح؛ الأمر الذي دفع قادة الحركات المسلحة لإدارة ظهورهم من الرفاق المدنيين، ويتوجهون نحو عدوهم السابق حميدتي، وفي الرأس فكرة استيلاء كامل على السلطة المركزية كلها.
وخلف كل هؤلاء الشركاء يقف الإسلاميون يتوجعون من جرحٍ نرجسي يتقيح، جاءوا يخططون لإجهاض جنين الانتقال؛ وهو لا يزال مضغةً، الإسلاميون يؤمنون أن السودان أرض مشاع لا يحتاجون لاشهار شهادة بحث تثبت تملكهم له وحدهم دون سواهم، لذلك لم يغفروا للشعب خطيئة الإطاحة ببشيرهم الذي كان للآخرين نذير، الإسلاميون تأخذهم دوماً العزة بالإثم، والاستهتار بالشعوب عبر تاريخهم في العمل السياسي، فاستمر إنكارهم لقدرة السودانيين في الاطاحة بحكمهم ، فمرةً يصفون الثوار بالسفهاء والعملاء، وتارةً أخرى يسمون ديسمبر ثورة قوش.
ومنذ أن هدأت هتافات الثوار ضدهم، بدأت أفاعي سحتهم تخرج من جحورها، فـأعلنوا الزحف الأخضر تارةً، ودعموا اعتصام القصر تارةً أخرى وهم يهتفون (( بيان يا برهان)) و (( الليلة ما بنرجع إلا البيان يطلع )).
لعب الإسلاميون دوراً كبيراً عبر خلايا أمنهم الشعبي وكتائب ظلهم، في استهداف الانتقال، حركوا خلايا عصابات مسلحة لترويع الناس، والانتقاص من هيبة الحكم، ووضع المواطنين السودانيين أمام خيارين هما ؛ الأمن أو الديموقراطية.
وقاد الإسلاميون حملات منظمة ضد قادة الحكم المدني عن طريق نشر الأخبار الكاذبة وفبركة التقارير المريبة، وبث الشائعات المغرضة، وكان الهدف النهائي هو هز الثقة بين الثوار والحكام المدنيين، فصاروا نافخي كير يلوثون الأجواء بروائح الكراهية النتنة وحرق قيم التحول الديموقراطي.
هذا ما اكدته شركة فيس بوك التي قالت إنها أغلقت شبكتين كبيرتين تستهدفان مستخدمين لمنصتها في السودان في الأشهر القليلة الماضية، بينما يخوض قادة مدنيون وعسكريون نزاعا حول مستقبل ترتيبات مؤقتة لتقاسم السلطة.
وذكرت فيس بوك أن إحدى الشبكتين اللتين حذفتهما، وتضمان حسابات مزيفة، كانت مرتبطة بقوات الدعم السريع، بينما كانت الأخرى تشمل أشخاصا قال باحثون استعانت بهم الحكومة المدنية إنهم من مؤيدي البشير ويحرضون على استيلاء الجيش على السلطة.
استخدم الإسلاميون وسائل قديمة ومعروفة؛ مثل الصراعات القبلية، تحريك قادة الإدارات الأهلية وتجييشهم ضد الحكومة الانتقالية، وظهر الأمر بجلاء في حوادث اغلاق الموانئ والطرق الرئيسية التي تربط بين البحر الأحمر وبقية أطراف البلاد الموجوعة.
كانت كل المؤشرات تؤكد وقوع انقلاب عسكري، بعد أن تلبدت سماء الخرطوم بغيوم الانقلابات؛ عبرتُ عن مواقفي الرافضة باستمرار عن الانقلاب الزاحف؛ ولا يخفي الأمر على متابع، كل المؤشرات تؤكد أن المكون العسكري ومن خلفه الإسلاميين يعدون العدة للانقضاض على السلطة الانتقالية واختطاف مسار التحول الديموقراطي.
تبقي من الانقلاب الجزء الأخطر، حيث يعمل الإسلاميون على تحقيقه عن طريق سيناريوهين؛ أولها انقلاب عسكري آخر بعد تأكد يأسهم من البرهان، والاحساس بفشله في تحقيق الأجندة التي يريدون.
ويبنون السيناريو الثاني على شد البلاد من الأطراف بحشد الإدارات القبلية، وتغذية الصراعات الدامية في مناطق الهامش على أساس اثني وعنصري، وتصعيد وتيرة العنف داخل الخرطوم بتحريك خلايا إرهابية.
اكتملت أركان الانقلاب منذ اعلان الجنرال البرهان، بيانه الأول، وهذا ما ذكرته في بداية منشور الفيسبوك، وتركت مساحةً للحوار حول الشركاء الواقفين خلف الانقلاب، لكن لم أتمكن من التفاعل مع المتداخلين والمتداخلات حينها، وها هو العام يمضي والفيسبوك يذكرني يوم أمس بالمنشور مثار الكتابة.
ما أكدته الأيام والأفعال؛ إن من يقفون وراء الانقلاب غير معنيين بتصحيح مسار، ولا بتحقيق أهداف الثورة لأن ذلك يعني القضاء على أشواق العودة من جديد، في وقت تصطدم فيه مركب شراكتهم المهتزة والتائهة، وفريقها المتشاكس بتيار وعي جارف ،وأمواجٍ بشرية تدهش العالم.