السودان.. حرب المواكب

0 77

كتب: عثمان ميرغني

.

العاصمة السودانية الخرطوم تشهد هذه الأيام سلسلة مواكب تتبناها مجموعات سياسية، وتتحدد لها مسارات معلومة بوجهات نهائية لبلوغها، غالبًا القصر الجمهوري هو الجهة النهائية المقصودة.

تختلف المسارات والمواقع المستهدفة بحسب الجهات المنظمة للمواكب، لكنها تتفق في أمر واحد، أنها تتسبب في إيقاف عجلة الحياة اليومية، والإنتاج، وإجبار المواطن على اعتبار اليوم المعلن للموكب عطلة رسمية، بمن في ذلك الأطباء الذين ينتظرهم المرضى وبعضهم في حالة خطرة، وقبل ذلك كله تتم إراقة دماء الشباب الذين هم الغالبية العظمى للمشاركين فيها.

في 21 أكتوبر 2022 الفائت، خرجت مواكب مُعلن عنها منذ فترة، ولحسن الطالع لم تشهد خسائر في الأرواح، ثم خرجت، في يوم 25 أكتوبر 2022، مواكب ضخمة في العاصمة ومدن أخرى انتهت بالعبارة الموجعة التي تصدرها لجنة الأطباء المركزية “ارتقت روح أحد الشباب” والذي قُتل دهسًا بإحدى سيارات الشرطة.

ثم أعلنت جهات لها علاقة بالنظام السابق عن موكب، يوم السبت 29 أكتوبر، في سياق “حرب المواكب”، بينما لجان المقاومة المشرفة على الحراك الجماهيري الثوري دعت لموكب جديد في 30 أكتوبر.

لم تنقطع المواكب الجماهيرية، منذ 25 أكتوبر 2021، أي لعام كامل تجمدت فيه الحياة العملية ليس بالخرطوم العاصمة وحدها بل كامل أرجاء الدولة السودانية، مما نتج عنه تعطل الأعمال خاصة الكبرى وتوقف المشاريع، وهروب الاستثمارات إلى دول أخرى، ليس الاستثمار الأجنبي بل حتى الوطني، وليس الشركات وحدها بل حتى أن مواطنين بسطاء باعوا أملاكهم العقارية مهما صغرت وتوجهوا تلقاء الجارة الشمالية مصر للإقامة الدائمة في موجة هجرة جماعية.

وفي زخم الانشغال بمعركة المواكب، تكابد بعض الأقاليم السودانية حروبًا دامية بين مكونات مجتمعاتها، آخرها ما يجري في إقليم النيل الأزرق والذي اقترب من حصيلة 1000 قتيل في موجتين من العنف القبلي، مع إجبار قرابة نصف مليون على الهروب من منازلهم، ولا يزال تحت الرماد وميض نار قابلة للاشتعال في أية لحظة ودون الحاجة لعود ثقاب.

في المفهوم الديمقراطي ربما تندرج المواكب تحت لائحة “حق التعبير” كونها تصنع رأيًا عامًا من عدد المشاركين فيها، لكن الحقيقة أن الوضع في السودان تجاوز التعبير السلمي إلى طور المواجهة المباشرة، فالمواكب، منذ 25 أكتوبر 2021، أراقت السلطات فيها دماء 119 شابة وشابًا في مواجهات دامية حصدت أضعاف هذا العدد من الذين إما فقدوا بعض أطرافهم أو أصيبوا بعاهات أخرى مستديمة، وكثيرون لم يجدوا حتى الرعاية الطبية المناسبة.

هذا المشهد السياسي الملتهب يحتاج إلى معالجة تعيد السلمية للمواكب لتنحصر في إيصال صوت الشارع لا دماء الشباب، والأمر في ذلك يتوقف تمامًا على مَن يملك السلطة والسطوة، فبالإمكان التفاهم مع لجان المقاومة المنظمة للمواكب لتحصر مسارها وأيامها بحيث لا تعوق حركة الحياة العادية.

مثلًا، يمكن أن تكون بعد ساعات العمل أو في أيام العطلات، مع تحديد مسارات لا تؤدي لعرقلة المرور، وخلافًا لما تظنه الجهات المنظمة للمواكب، فإن ذلك لا يؤدي إلى إضعاف قوتها التعبيرية، بالعكس، إن ضمان سلميتها يزيد من جاذبية المشاركة الجماهيرية فيها.

مع الوضع في الاعتبار أن هذه المواكب وصلت إلى هدفها وهو القصر الجمهوري أكثر من 3 مرات دون أن تحاول اختراق أسواره أو حتى إلقاء الحجارة عليه، بل كان المشاركون فيها يعتلون أسطح سيارات الحراسة ويتبادلون التحايا مع الجنود، وتنتهي المظاهرة، ويعود الجميع إلى منازلهم مع مغيب الشمس مباشرة، بما يثبت أنها في الأساس لا تخبئ نوايا عدوانية.

تحول معركة المواكب إلى تعبير سلمي هو أول خطوات التعافي السياسي في السودان، فلا يُعقل افتراض حل الأزمة السياسية والوصول إلى اتفاق بين المكونات السياسية والسلطة الحاكمة، بينما الشوارع تغوص في الدماء ودموع الأسر المكلومة على فقدان بناتها وأبنائها، فصناعة السلام في السودان تبدأ من هنا، وتنتشر الرسالة عبر ربوعه لتحقق الاستقرار السياسي والانسجام المجتمعي.

الحل السياسي الحقيقي والمستدام للأزمة السياسية السودانية يبدأ من تحقيق أعلى درجات السلمية لتتحول المواكب من معركة دموية إلى منافسة سياسية ويصبح التعبير عن الصوت ممثلًا حقيقيًا لمستوى التأييد في الشارع لوجهة النظر السياسية التي يعبر عنها كل موكب.

بغير هذا، سترفع المواكب من مناسيب “المواجهة” التي قد تبدو للبعض مواجهة سياسية ولكنها في الحقيقة تشيع حالة المواجهة بين كل مكونات الدولة السودانية، المدنية والعسكرية على حد سواء، وقد تنزلق البلاد بعلم أو بغفلة إلى واقع كارثي رأيناه شاخصًا في عدة دول عانت من الصراعات الأهلية، والتصدعات البنيوية.

ولو أخذت مثالًا لذلك ما يجري في إقليم النيل الأزرق في السودان، إذ بدأت الأحداث فردية ضيقة، وسرعان ما احتطبت من خطاب الكراهية الرائج في المنابر السياسية ما يكفي لإشعال حريق كبير بين المكونات المجتمعية، للأسف، يتغذى بأجندة سياسية من لوردات الحروب في المركز، الذين يحاولون استخدام المواجهات القبلية الدموية في تسجيل نقاط تثقل أوزانهم السياسية.

آن الأوان لحل الأزمة السياسية في السودان من جذورها وليس فقط قشورها التي تعبر عنها التسوية السياسية الجارية خلف الكواليس هذه الأيام.. التسوية التي قد تفسح مجالًا في الحكم للبعض لكنها بالضرورة لن تكون أقل من جولة جديدة في معركة مستمرة منذ استقلال السودان قبل أكثر من 66 سنة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.