خرافة الثورة البديعة ٢.١٣
وعودة إنسان المقاومة المدني
(١)
اخترق المسمار رأس الطبيب والإنسان المدني المقاوم الدكتور علي فضل، كانت الفكرة الفاشية التي تقف خلف ذلك المسمار مكتملة الأركان تتعدى رأس وجسد الطبيب إلى تجفيف منابع الفعل المقاوم المدني وترمي للقضاء على كل مقاومة مدنية وإخراس صوتها للابد، كانت تلك خطة شيطانية مترابطة الحلقات ضمت بيوت الأشباح والتعذيب والفصل والتشريد والسيطرة على كل حصون المجتمع المدني وامتدت إلى الريف وصادمت قوى الكفاح المسلح برايات الجهاد.
لان الشعب لا ينسى من أعطى خرج يوم الجمعة ٨ يوليو ٢٠٠٥ في استقبال عظيم للدكتور جون قرنق دي مبيور فهو وحده الذي أستحق ذلك الاستقبال والذي يشبه خرافة الثورة البديعة في حضورها الإنساني الكثيف، كان الحضور مناسبة ومكافئة لإنسان حاضر ببصيرة نافذة وفكرة ولانه كان أخر عناقيد الكفاح المسلح المسبوق برؤية وضوء للبناء الوطني، فهو لم يكن يقود حركة احتجاجية ومطلبية بقدر ما كان يطرح بديلاً جديداً، لا يمكن أن يتحالف مع المركز ضد نفسه ولذا فإنه كان أخر قادة الكفاح المسلح المسنود بنظرة وثمرة وبفكرة أرفع شأناً من البندقية نفسها.
التاريخ الإنساني يعلمنا ان الحروب هي الأكثر تاثيراً على الجغرافيا البشرية والطبيعية والأشد مضاضةً في تغيير خارطة المجتمعات الإنسانية، ولكن تجارب المجتمعات الانسانية الحديثة التي شهدت تطوراً مذهلاً في النظم الانسانية وقوانينها سيما في مجال حقوق الإنسان الطبيعية والمدنية، تعلمنا إن المقاومة المدنية هي الأكثر خلوداً من المدفع وحفنة القادة.
(٢)
الديسمبريون زهرة سبتمبرية:
لما كانت الثورة في الأصل برية جامحة غير قابلة للترويض وغير قابلة للتصديق في بداياتها من الحكام وكثير من المحكومين، وكانت القلة وحدها هي التي تمتلك الغلة والطحين وترى خلف الغيب، والثوري كان يرى دائماً ان في الضعف قوة وإذا اجتمع الضعفاء على مبدأ فانهم قادرين على هزيمة الأقوياء في ساعات الثورة وأزمنة الواقعة وما ادراك ما الواقعة.
حينما جاء الأسبان عند نافذة الجنرال فرانكو وقد خط الزمن أثاره عليه، قال الجنرال: لماذا أتى الناس عند نافذتي. قيل: لتوديعك. قال: إلى أين ذاهب الشعب الأسباني حتى يودعني؟
نقول له الآن: سيدي الجنرال أن الشعب الأسباني ذاهب إلى العرض السينمائي المسائي، وأن الثورة في أيامنا هذه في الغالب متلفزةُ ومنقولة على المباشر وأبطالها اناس عاديون تروس وكنداكات من قلب الأحياء الشعبية الممتلئة بالحكمة وقيم الفضيلة والتضحية والتي تعطي قبل أن تأخذ والفقراء خازني القيم حينما تخلى عنها المبذرين والمسرفين، هكذا في الوحي والتنزيل والتاريخ الإنساني.
حينما يكون الحاكم قوياً يدخل اليأس في قلوب الضعفاء وبعد نوم ساعة قد تطول وردح من الزمان تمتلئ قلوبهم بالشجاعة والغضب والأحلام التي تبدو بعيدة!
تنقلب الآية يمتلئ قلب الحاكم بالخوف ليشعر بالدوار والغثيان وكل ما كان بعيداً يصبح قريباً، وطوبى للغرباء.
لقد تخلق الديسمبريين بشجاعتهم وبسالتهم في حقول السبتمبريين في العام ٢.١٣ وجاءوا كطوفان ولو بعد خمس سنوات عجاف.
(٣)
يا هزاع حقك ابداً ما ضاع:
ما يحدث الآن ليس بأزمة سياسية عابرة بل ثورة عابرة للجغرافيا والاثنية والنوع والجيل والطبقة وهشاشة المجتمع وهزال الذاكرة المثقوبة وخطاب الكراهية والعنصرية المتنامي وعجز الدولة وتعدد الجيوش، انها احلام الثورة وخرافتها في التبشير بمشروع ديمقراطي وطني جديد، إن ذلك المسمار المغروس في جنبات جمجمة الطبيب أصاب الرأس ولم يصب الحلم ولم ينفذ اليه، لقد كان الحلم في شكل وردة أُهدى عطرها للعاشقين من بعده في ضباب المأساة الكثيف وليل الإبادة والاغتصابات وميدان الحرية ببورتسودان وكجبار وقصف الطائرات على القرى الآمنة، لقد حاولوا إيهام الشباب ان الجنوب والغرب والجنوب الجديد يسعى للنيل من القرى والمدن القديمة الممتدة على ضفاف النيل، وان الذي يرقص عند كل ناصية وناحية ومناسبة هو الذي يحمي الحمى، ولكن جيل بكري وهزاع وصلاح السنهوري وسارة عبد الباقي ركل المكيدة ولم تنطلي الخديعة على الجيل الجديد، ويا هزاع حقك ابداً ما ضاع.
الثورة الحالية مرت من قناة ٢.١٣ عام الشهداء حينما تساقطت الشهب والنجوم والنيازك التي اعطت وما استبقت، وفِي ميدان الرابطة بشمبات أُستخدمت الدوشكات وصعد الشباب إلى السماء مثل ملائكة عظام ثم عادوا من جديد، كانت ٢.١٣ حكاية وبداية لعودة إنسان المقاومة المدني بأشرعة مليئة بالبسالة والجسارة وعندها رفض الناس ترهات الخطر الاثني وردد الشباب مرة أخرى أناشيد ١٩٢٤،
لا يهمني أن أنتمي إلى هذه القبيلة أو تلك إنما نحن سودانيون ويكفي النيل ابانا والجنس سوداني. إن هذه الثورة ثورة سودانوية تحتفي بالوحدة في التنوع، وشهدائها من كآفة ارجاء السودان ينتمون إلى قبيلة واحدة أسمها (حرية سلام وعدالة) هذه القبيلة الآن تمتد في الريف وفي المدن تحتفي بالنضال والتضحيات التراكمية من كل فج جاءت ولا تمتلك رفاهية إهدار دماء الشهداء، تحتاج الآن إلى تنسيق ميداني وجبهة مدنية (لاستدامة الحكم المدني وتوطين الديمقراطية وهزيمة القوى المضادة للثورة في تحالف عريض في أي انتخابات مقبلة).
لنحتفي بعودة إنسان المقاومة المدني الذي يستمد أحدى نقاط قوته من انتفاضة ٢.١٣ التي قدمت أكثر من ٢٠٠ شهيد في أقل من ٧٢ ساعة، لقد كانت كشف للنور والمستقبل، أعادت سطوة العمل المدني المقاوم ويظل سبتمبر في عناق مستمر مع ديسمبر، فشكراً جميلاً وجديداً لشهداء سبتمبر ٢.١٣ وكل الشهداء وجرحاهم ومفقوديهم والمجد للسبتمبريين والديسمبريين محلقين في سماوات الوطن.