مكالمة عاطفية

0 85
.

حين كان (عبد الحفيظ) مندغماً في زحمة البشر، متجهاً إلى ميدان جاكسون. كانت (علوية نورين) زوجته في الطرف الآخر من الكرة الأرضية تدخل غرفتها وتخرج منها بطريقة متكررة حد الرتابة، فقد كانت تغلي منها الدواخل حد أن يخرج صوتها زاجرة مرة، ومتأففة مرة أخرى. كان (عبد الحفيظ) في إجازة قد تمتد لشهرين، وجاء هذه المرة وحده إلى السودان، وترك (علوية) وأبناءه وبناته هناك في مدينة تورنتو بكندا، حيث عاشت الأسرة هناك لأكثر من سبع سنين. كانت الظهيرة الحارقة التي يتحرك فيها (عبد الحفيظ) داخل الخرطوم تكون لحظتها هناك في كندا صباحاً بارداً جداً، فـ (عبد الحفيظ)، اختار إجازته هذه المرة في شهر فبراير، وهو شهر يحمل هذا التضاد بين السودان وكندا.

حين كان (عبد الحفيظ) جالساً على مقعد الحافلة المتجهة إلى الصحافة شرق، كانت (علوية) زوجته تحاول أن تتصل به دون جدوى، كررت المحاولة مراراً وتكراراً حتى إنها حفظت الأرقام الكثيرة في بطاقة الاتصال. كان توترها واضحاً وهي تضغط على أرقام الهاتف، وهي تتحرك هنا وهناك داخل البيت، لينتهي تجوالها القلق هذا أمام نافذة الصالة، لتقف فترة تتابع فيها الجليد المتساقط بنعومة وخفة، في هذا الصباح حاولت (علوية) الاتصال بزوجها (عبد الحفيظ) دون جدوى.

حين عبرت الحافلة مقابر فاروق أحس (عبد الحفيظ) بوخزات صغيرة في جيبه مع صوت متقطع لرنةٍ، أدخل يده في جيبه، أخرج هاتفه، نظر إلى الشاشة، وجد أن هناك رسالة مكتوبة، داس على زر عرض الرسائل: “أنا في انتظارك، ترجع تطرا الزمان الأول”. داس على الخيارات كي يتأكد من الرقم صاحب الرسالة، ابتسم ابتسامة مشحونة بآهات قديمة لها في الذاكرة طعم الصبابة والصبا. وما أن أعاد هاتفه إلى جيبه حتى رن جرس الهاتف مرة أخرى مولولاً بنغمة لم يخترها (عبد الحفيظ)، أدخل يده في جيبه، أخرج الهاتف، نظر إلى الرقم، ولكنه وجد أن جهة الإرسال غير معروفة، وكانت في الجانب الآخر (علوية) زوجته:

(أهلاً يا علوية… كيفكم؟)

(إنت وين يا عبد الحفيظ؟)

(أنا هسه في الحافلة)

(وماشي وين؟)

(ماشي العمارات)

(أسمعني يا عبد الحفيظ)

(أيوه… نعم.. ألو يا علوية.. أيوه… نعم..)

(إنت ح تمشي لمناسبة مختار مش كده..؟)

(والله يا علوية لحدي هسه ما عارف)

(شوف يا عبد الحفيظ ما تقول لي عارف، ولا ما عارف… إنت ما ح تمشي المناسبة دي)

(ليه يا علوية؟ يعني هسه يا علوية إنتي متصلة بي من كندا، وصوتك ده قاطع المحيط الأطلسي، وعابر للقارات عشان تقول لي ما تمشي لمناسبة مختار؟)

(أيوه… ألو… أسمعني يا عبد الحفيظ.. أوعك تمشي مناسبة مختار دي)

(حا أمشي يا علوية طبعاً.. لأنو مختار دا صاحبي)

(صاحبك ولا ما صاحبك.. ما تمشي)

(حا أمشي بقول ليك)

(وأنا بقول ليك ما تمشي)

(حا أمشي)

(ما تمشي)

(حا أمشي)

(ما تمشي.. يعني ما تمشي)

ودخل (عبد الحفيظ) في هذه الغلوطية بين أن يمشي ولا يمشي حتى تجاوزت الحافلة شارع (57) في العمارات حيث كانت وجهته، ووجد نفسه يصرخ في زوجته (علوية) وركاب الحافلة تركوا هموهم في مصائر يومهم هذا وأصبحوا متابعين بكل جوارحهم هذه المكالمة الساخنة والعابرة للقارات. ترك الحافلة في قلب الصحافة شرق، وانتظر الحافلة القادمة من الاتجاه الآخر كي يعود إلى العمارات.

حين كان (عبد الحفيظ) يستأنس مع شلة من أصدقائه القدامى، والليل قد دخل إلى منتصفه، رن هاتفه مولولاً، نظر إلى الشاشة، عرف أن هذا الاتصال سيكون من (علوية) قياساً على أن الرقم من جهة غير معروفة. أغلق الخط، وعاد إلى مؤانسته، ولكن رن الجرس مرة أخرى، أغلقه. رن مرة أخرى، وأخيراً قرر أن يتخلص من هذه المكالمة اللحوحة.

(أيوه يا علوية في شنو؟)

(في شنو كيف… إنت ليه ما اتصلت بي؟)

(يا علوية في شنو…. إنتِي قبيل ما كنت بتتكلمي معاي؟)

(ما وصلنا لي حاجة لكن)

(في شنو؟)

(عبد الحفيظ ما تعمل لي فيها متغابي)

(يا علوية في شنو؟)

(مناسبة مختار، أنا كلمتك.. أنا ح أمشي مناسبة مختار)

(يا عبد الحفيظ لو مشيت المناسبة دي تاني لا بيني لا بينك)

وأغلقت (علوية) الخط بحِدةٍ واضحة في وجه (عبد الحفيظ)، ظل صامتاً، بينما أصوات شلة أُنسه تداعب الليل المتسرب إلى بدايات الصباح بصيحات وقهقهات.

رن جرس هاتف (علوية)، نظرت (علوية) إلى الرقم، عرفت أنه رقم (عبد الحفيظ)، فأغلقت الخط. رن الجرس مرة أخرى، أغلقت (علوية) الخط، وظلت تفعل ذلك كلما رن جرس هاتفها الجوال لا مبالية بالمسافة الزمانية والمكانية التي يصارعها الجرس حتى يهتز في هاتفها، وظل (عبد الحفيظ) في ذلك اليوم يتصل ويتصل، وهي تغلق الخط وتغلق وتغلق، إلى أن رن الجرس في مساء سبت كندي، والذي هو ظهيرة سبت سوداني. رن جرس هاتف (علوية) في مساء ذلك السبت، فحصت الرقم، عرفت أنه رقم زوجها (عبد الحفيظ)، قررت أن تستقبل مكالمته هذه المرة؛ رغم أنها في اجتماع مهم مع جمعية حقوق المرأة في العالم الثالث، استأذنت (علوية)، واستقبلت مكالمة عبد الحفيظ:

(أيوه يا عبد الحفيظ)

(سلامات، الأولاد كيف؟)

(كويسين)

(ممكن أتكلم معاهم؟)

(أنا ما في البيت، وهم كلهم خارج البيت)

(أنا حاولت اتصل بـ (مها)، تلفونها مقفول)

(خلاص اتصل بـ (أيمن)

(رقمو ما خشَّ معاي برضو)

(عبد الحفيظ أنا مشغولة.. اتصل بيهم تاني)

(إنتِي وين؟)

(أنا في اجتماع الجمعية)

(ياتو جمعية؟!)

(جمعية حقوق المرأة في العالم الثالث.. وبالمناسبة أنا ح أطرح المشكلة البيناتنا)

(ياتو مشكلة يا علوية؟)

(مشكلة مناسبة مختار)

(تطرحيها وين؟)

(هسه في الاجتماع لأنو المشكلة دي نموذج مناسب للقهر البتم للمرأة في أفريقيا، وده المجال الأنا بقدم فيهو دراسات)

(هي لكين يا علوية أنا مشكلتي شنو؟)

(مشكلتك معاي إنك مصر تمشي المناسبة دي).

( طيب المشكلة وين لو أنا مشيت المناسبة دي؟)

(المشكلة يا أستاذ يا محترم، لما إنت تقوم تمشي لمناسبة واحد صاحبك زي مختار ده، ده معناهو إنك موافق على نوع المناسبات الزي دي، مش موافق بس إنت بتحتفل بالمناسبة، وده معناه)

( يا علوية أسمعيني)

(أسمعني إنت، معناهو شنو يعني تمشي ترقص وتسكسك في عرس صاحبك مختار ده، وتنسي تماماً إنو مختار ده دي العروس التالتة ليهو؟ معناهو شنو يا عبد الحفيظ إنك تشارك بالاحتفال في عرس واحد بعرس للمرة التالتة؟)

(يا علوية الموضوع إنتي مكبراهو أكتر من اللازم)

(يا عبد الحفيظ أسمعني أنا شخصياً ما بقبل إنو زوجي يمشي مناسبة زول بعرس للمرة التالتة، أنا هسه راجعة الاجتماع، وحأطرح مشكلتك دي معاي، وحأعرف أحدد موقفي تماماً من وجهة نظر إنسانية تتعلق بحقوق المرأة في أفريقيا، والجانب البهمني في الجمعية)

( يا علوية براحة ياخي مش عرس مختار ده أنا ما ماشي ليهو، ما حأمشي مناسبة مختار ده، ما حامشي خالص. أها عندك تاني مشكلة؟)

(ألو ألو ألو، عبد الحفيظ ما تحاول تستهون الموضوع وما تفتكر إني ما حأعرف لو إنت مشيت ولا ما مشيت، ولو سمعت إنك لاقيتو وقلت ليهو: مبروك، اعتبر البينا انتهى)

( يا علوية ما قلنا خلاص ألو ألو ألو ألو)

اجتمع أصدقاء العريس للمرة الثالثة (مختار جار النبي) سمسار الأراضي ومالك أكثر من حمام عام في العاصمة المثلثة. اجتمع أصدقاء (مختار جار النبي) في قيدومة محتشدة التفاصيل في مزرعة في منطقة (نبتة)، ومن ضمن هؤلاء الأصدقاء (عبد الحفيظ عباس) الكندي الجنسية، والمحتفى به أيضاً على شرف مناسبة (مختار). وحين كان المغني يغني تلك (القنبلة وحلاوة الزول في الطول والعلا)، وفي اللحظة التي امتدت يد (عبد الحفيظ) لتناول لفة من الجبنة المضفورة، رن جرس هاتفه مولولاً، تحولت يده إلى داخل جيب جلابيته، ونكت منها الهاتف، نظر إلى الرقم وركض مهرولاً مبتعداً عن ضجة الشلة والغناء ما أمكن:

(أهلاً يا علوية)

(إنت وين يا عبد الحفيظ)

(أنا والله ماشي في الشارع)

(والغناء السامعاهو أنا ده شنو؟)

(ده مسجل بتاع حافلة واقفة جنبي)

(عبد الحفيظ أوعى تكون في الحفلة)

(حفلة شنو يا علوية؟)

(حفلة مختار)

(ما قلت ليك يا علوية أنا ما حأمشي)

وكان (عبد الحفيظ) يمشي ويمشي مبتعداً عن ضجة حفلة القيدومة، والتي اختار أن يشارك فيها حتى يتسنى له الغياب عن الحفلة الكبيرة التي سوف تقام في نادي الشرطة. ابتعد (عبد الحفيظ) بقدر الإمكان عن ضجة الحفلة وهو يتحدث مع (علوية)، وحين انتهت المكالمة رجع إلى ضجة وهجيج الحفل.

وأثناء رجوعه اهتز هاتفه في جيبه هزتين مع رنات متقطعة، أخرج الهاتف من جيبه وداس على زر عرض الرسائل المكتوبة وقرأ الرسالة: “بكرة أنا جاية من سنجة للخرطوم عشان ألاقيك، رسل لي رصيد الصباح”، كانت الرسالة من (بدور) حبيبته الأولى، والتي خرجت من تجربة زواجها طليقة ومطلقة.

حين اشتعل (عبد الحفيظ) مع هجيج الأصدقاء الذين كانوا يشكلون دائرة حول صديقهم العريس للمرة الثالثة (مختار جار النبي)، وحين كان (عبد الحفيظ) يرقص منتشياً رن جرس هاتفه مولولاً داخل جيبه، وحين أخرج هاتفه من الجيب نظر إلى الرقم ذي الجهة غير المعروفة، فعرف أنها (علوية)، خرج راكضاً من دائرة الراقصين حول العريس، كان يركض مبتعداً عن ضجيج الآلات الموسيقية وصوت الفنان، كان يركض والجرس لا زال يرن ويرن ويرن ويرن ويرن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.