غزوة الجبهة الثورية لاب كرشولا (2013): حرب الظلام للظلام
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم (2-2)
.
أعيد هنا نشر كلمة لي عن غزوة الجبهة الثورية لبلدة أب كرشولا بوسط كردفان في أبريل 2013. وكنت نشرتها في الجزيرة نت (24 مايو 2013) وأعيدها هنا لدعم حيثيات القضية الجنائية التي تقدمت بها منظمة أب كرشولا للسلام والتنمية منذ أيام ضد الجبهة لخسائر البلدة في الأرواح والمال. وسيرى القارئ أن للجبهة شركاء في الجرم في المعارضة المدنية التي صمتت عن فجور حليفها بالسلاح صمتاً أغراهم على ما نراه منهم من لؤم مشين مع الثورة وخذلان مبين لرفاق الأمس.
جاءكم الحساب هذه المرة من أسفل يا عُصب الخلاء. وسيأتي دور شعب بلدة اب قمرة الذي شقي بصراع حركة مناوي وحركة العدل في 2012. بل وسيرفع ضحايا التصفيات الإثنية في قيادة الحركات المسلحة قضاياهم للدولة وبالأكف للرب. وأعلم أن حميدتي سهر على شراء صمت آخرين عن عنفكم بحقهم. وهو الذي يفلق ويداوي.
وقفت عند قولي إن المعارضة المدنية للإنقاذ مصابة بإشكالية مزدوجة. فهي لم تحسن المعارضة المدنية في محاضنها المعلومة من نقابة واتحاد ونقابة. ولم تضطلع بالمقابل بمقاومة مسلحة مفوضة عصب الهامش للقيام بها بينما غضت الطرف عن انتهاكات في حجم ما اشتكى منهم أهل أب كرشولا للقضاء بعد عقد من وقوعه. ونواصل
وأحبطت هذه الإشكالية المزدوجة عمل المعارضة. فهي لا تحرك ساكن القوى المدنية حتى اشتهرت عنها عبارة “حضرنا ولم نجدكم” حملها يوماً محمد إبراهيم نقد -الزعيم الشيوعي- معلقاً على مظاهرة رتبت لها المعارضة ولم تقم لها قائمة. وبالنتيجة صارت المعارضة عالة على العمل المسلح يقوم به غيرها وتنتظر أن تلتقط الثمر. وغايتها منه الضغط على الإنقاذ ليجبرها على “حلول متفاوض عليها وتحول ديمقراطي حقيقي” في عبارة لياسر الشريف من الجمهوريين.
وقال إن قدوتهم في ضعضعة النظام بعد هزه ليتلطف هي مصالحة الرئيس نميري مع أحزاب الجبهة الوطنية المعارضة بعد هجومها غير الموفق على الخرطوم في 1976. واستبشر بأن هجوم الجبهة الثورية، الذي زلزل الإنقاذ وعرى ضعفها، ربما فتح الطريق لمساومة تاريخية مع النظام. وهذا علاج للنظام بـ”الصدمة الكهربائية” لكي يسخو. أغرى هزال المعارضة بها.
فالحديث الغالب اليوم هو عن “نقد المعارضة” بأكثر من نقد الحكومة. وراحت الأيام،كما قال معارض مخضرم، في التسعينيات حين كانت العقيدة هي “لا معارضة لمعارض”. فكثيرون يرون الآن أنه ما كان للإنقاذ أن تحكمنا بغلظة لربع قرن بحلول 30 يونيو/حزيران القادم لولا ضعف معارضيها الفذ. ووصفها كادر فيها -محمد وداعة البعثي- إنهم ناموسة في أذن فيل هو الإنقاذ.
وهي في قول قادم جديد لصفوفها، يوسف الكودة رئيس حزب الوسط الإسلامي، جانبت مزاج الشعب لخلوها من دينه وثقافته. وقال عن استفحال الخصومة بين أطرافها إنها “راقدة قرض” و”القرض” هو القرظ ثمر شجر السنط مما تدبغ به الجلود. وربما كان المراد هو أنهم في المعارضة يذبح أحدهم الآخر ويفري جلده.
فقد استغرقتهم مناقشة الإعلان الدستوري وبرنامج الفترة الانتقالية سنوات ثلاث لم يتواضعوا عند شيء منها بعد. وجاء علي السيد، من حزب الميرغني الاتحادي الديمقراطي، بمجاز آخر عن هوان المعارضة قائلاً إنها ضعيفة ولبعضها “دريبات” مع الحكومة. و”دريبات” جمع لتصغير درب “دريب” ويقال لمن احتفظ بشعرة معاوية مع خصم. وعنى بهذا هنا حزبه المعارض والشريك في الحكومة وحزب الأمة الذي تَعين ابن زعيمه، عبد الرحمن الصادق المهدي، مساعداً لرئيس الجمهورية.
كانت غزوة الثورية لشمال كردفان نافذة أقرب للشمال العربي المسلم من حبل الوريد، أطل منها على قبح الحرب الأهلية التي طالت إلى حد الإملال. وها هي تطرق باب حوشه الداخلي. ولا يشك أهل أواسط السودان النيلي أن القوى العسكرية التي تنوي الثورية الزحف بها هي جهوية وعرقية في قول الطيب زين العابدين. والأدهى أنها لم تخضع لتدريب يوطنها في ثورية سودانية شاملة مما تزعم. وعن قيمة التدريب في العسكرية قالت نادين قودمير، الكاتبة الجنوب أفريقية الحائزة على جائزة نوبل، إن الذي يمنع الجيش العنصري الأبيض من قتل السود جميعاً أنه جيش حسن التدريب.
لا غلاط أن العصب المسلحة المكونة للثورية ترعرعت في شحن عنصري ضد الثقافة العربية الإسلامية غذته كتابات وعقائد وأوهام خلال الأربع عقود الماضية. من ذلك:
1- جنس كتابي عُرف بـ”كشف مستور الثقافة الإسلاموعربية”. وهو ترويع للهامش بالتاريخ “الدراكيولي” للمركز العربي الإسلامي يصدر أغلبه عن شماليين من جالدي الذات للتعافي من عقدة الذنب الليبرالية. وهو أدب هيأ لمقاتلي الهامش تطابق القضاء على الإنقاذ (أو أي حكومة شمالية) مع القضاء على حملة الثقافة العربية جميعاً.
فقد انزعج صحافي متعاطف مع الحركة الشعبية الجنوبية حين استمع إلى جلالات جيشها قبل الانفصال ووجدها دموية مغرقة في العنصرية ضد الشماليين. فبدا لنا زعمها النضال لبناء سودان جديد للإخاء السوداني بجيش ممرور عرقياً كمن يؤشر يميناً ويلف يساراً. ومتى لم يجد مسلحو الهامش كفايتهم من هذا الأدب العرقي الأفيوني اخترعوه. فنسب أحدهم لانفصالي شمالي بارز كلمة تحدث فيها عن برنامجه لبناء وطن “نظيف” خال من “الأفارقة” وذر فيها أبياتا مثل “لا تأخذ العبد” للمتنبي كمشهيات. وكانت الكلمة مدسوسة على الرجل.
2- من جهة أخرى، يقوم أكثر هذا الشحن العنصري المضاد على إصرار صفوة الهامش على أن عرب ومسلمي النيل وغيرهم هم “إسلاموعربيون” أو “مستعربين” في دلالة زيف ادعائهم العروبة والإسلام. وكانت مثل هذه التسمية المُبخسة دائماً مقدمة للهولكست لأن القاتل إنما يقتل أكذوبة.
3- وصفوا الجماعة العربية المسلمة بـ”المستوطنيين” لهجرتهم من الجزيرة العربية لسودان مملوك لغيرهم. ويعني هذا أن إزالتهم من البلد الأفريقي شرط وجوب لرد الأمر إلى نصابه. وكانت تلك نذر هولوكست رواندا الذي أراد به الهوتو التخلص من التوتسي الضيف الثقيل من أثيوبيا. بل كانوا يرمون بجثة الواحد منهم في منابع النيل لكي يحمله التيار من حيث جاء.
أنكرت الجبهة الثورية ثلاثاً أنها خربت عمائر خدمات الكهرباء، ناهيك عن قتل المدنيين. وللسخرية تحدثت عن حماسة الناس في استقبال مسلحيها ومخاطبة الحلو -زعيمها- للسكان. تتشبه بالكوماندر ماركوس في المكسيك. وشتان. فهي لم تستجب بعد لمطلب بعض أنصارها أن تكذب ترويعها للمدنيين وقتلها الناس. ولا تزال تنفي بإطلاق وتتحرى النفي المطلق.
ولكن مما يفسد تبرؤ الجبهة الثورية من دماء هجومها الأخير واحدة من أكثر حجج المسلحين عاطفية وخطراً. فهم لا يملون تكرار قولهم إنه لا يصح أن نفرق بين إهراق الدم في مثل أبو كرشولا، لأنها ضمن إقليم العرب المسلمين، وبين نزيفه الطويل بين “الأفارقة” بواسطة الجيش السوداني.
وسمى كمال عمر، المعارض المدني، هذا المنطق بـ”وحدة الدم السوداني”. فمتى استباحت الإنقاذ النفوس في تلك الأرجاء الأفريقية، حسب منطق هذه الحجة، جاز للجبهة الثورية استباحة الدم في غيرها. ولا صدقية للجبهة الثورية حين تتبرأ من دماء “العرب” في أبو كرشولا لأنها ولية دم حسبة عن “الأفارقة” حصرياً. فإنهم وإن لم يعملوا القتل في أبو كرشولا كما قالوا فهذا تنازل عنه اليوم لن يلزمهم غداَ. وقد وضعت حركة التغيير الآن الشابة مسألة وحدة الدم السوداني بصورة مثلى حين حرمته على الجميع.
إذا كان ما جرى في أبو كرشولا حق (ولم ينهض دليل من غزاتها على كذبه) فالثورية تكون ممن قال عنهم مارتن لوثر كنج إنهم يحاربون الظلام بالظلام:
ليس بوسع الظلام طرد الظلام
النور وحده يفعل ذلك
الكراهية وحدها لا تطرد الكراهية
الحب وحده يفعل ذلك.